التشهير الجنائي قيد على حرية الصحافة.. إبراهيم عيسى نموذجا

تاريخ النشر : الخميس, 16 مارس, 2017
Facebook
Twitter

إعداد: مصطفى شوقي.

للإطلاع على الورقة بصيغة PDF اضغط هنا

مقدمة:

أخلت نيابة استئناف القاهرة سبيل الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، رئيس تحرير جريدة المقال، بعد التحقيق معه في البلاغ المُقدَّم من رئيس مجلس النواب علي عبد العال، بصفته، والذي يتهمه فيه بإهانة المجلس ورئيسه. جاء ذلك على خلفية النقاش الذي دار داخل الجلسة العامة للبرلمان تعقيبًا على عدد جريدة المقال الصادر بتاريخ 28 فبراير الماضي والذي حملت صفحته الأولى بعض العبارات التي رآها أعضاء المجلس تحمل إهانة وتطاول على المجلس، وقرروا بأغلبية الأصوات تكليف رئيس المجلس باتخاذ الاجراءات القانونية ضد ابراهيم عيسى باعتباره رئيس تحرير الجريدة. إلا أن النيابة لم تُخل سبيل  “عيسى” إلا بعد التحقيق معه في بلاغ آخر مُقدّم من المحامي سمير صبري يتهم فيه عيسى بنشر أخبار كاذبة بهدف التحريض على الفتنة الطائفية بسبب تعرُّض عيسى في إحدى حلقات برنامجه التليفزيوني لقضية قانون بناء الكنائس. ليُغادر عيسى بعدها من سرايا النيابة بكفالة قدرها خمسة آلاف جنيه عن كل بلاغ.

ليست هذه المرة الأولى التي يناقش فيها البرلمان اتخاذ موقف من الكاتب الصحفي ابراهيم عيسى فقد سبق أن ناقشت الجلسة العامة للبرلمان في منتصف شهر ديسمبر من العام المنقضي ما اعتبره النواب إهانة وتطاول من عيسى بحق المجلس، ذلك بعد أن تناول في برنامجه قضية قانون بناء الكنائس وكذلك تناوله لما أثير حول تقدُّم عدد من النواب بمقترح لتعديل مدة فترة الرئاسة بالدستور. حيث عقَّب الدكتور على عبد العال رئيس المجلس “ما قاله إبراهيم عيسى فى برنامجه، يضعه تحت طائلة قانون العقوبات، وبعض الجرائم التي تصل إلى حد التحريض على العنف، وهذه  ليست جُنحة ولكنها جناية”. وطالب النائب مصطفى بكري الهيئة العامة للاستثمار، باتخاذ الإجراءات القانونية تجاه برنامج “مع إبراهيم عيسى” المذاع على فضائية القاهرة والنَّاس. ذلك البرنامج الذي أعتذر “عيسى” عن استكماله مطلع العام الجاري، وهو ما عزاه الكثير من المتابعين لحجم الضغوط التي مورست على إدارة القناة لوقف البرنامج. إلا أنه استمر في التعبير عن نفس المواقف بكل جرأة وبنفس السقف من خلال جريدة المقال التي يرأس تحريرها. وهو ما كان عيسى أكد عليه في بيانه الذي أوضح فيه للجمهور  توقُّف البرنامج

“أحاط الجمهور برنامجي باهتمام بالغ وتفاعل مدهش وجدل متجدد ونقاش واسع جعل حلقات البرنامج علي درجة من التأثير الذي عبر حدود تأثير مجرد برنامج تليفزيوني، مما ألقى عليه أعباء وتعرض معه لأنواء وأحيط بالضغوط، ففي الوقت الذي ساهم فيه في اتساع عقول تسبب كذلك في ضيق صدور. وأضاف “وبكل حب لمن أحب البرنامج ولمن اختلف مع صاحبه، وبكل اعتزاز برأي من وضع البرنامج موضع التقدير وبكل تفهم لمن أثقل البرنامج قلبه بالغضب والكراهية، فإنني أتقبل أن تكون هذه اللحظة مناسبة للتوقف عن تقديم البرنامج، حيث أظن أن مجريات الوقائع وضرورات الوقت وطبائع المقادير تقود لأن أترك مساحة التعبير التليفزيوني لمرحلة أخرى، ووقت لعله يأتي.

هل ارتكب عيسىجُرمًا يُعاقب عليه القانون؟

يستدعي النقاش العام في كثير من الأحيان قضية الحدود الفاصلة لحرية التعبير ومحددات النقد المباح، وفي كل مرة تتسع دائرة الخلاف حول أي كلام من الممكن أن يتسبب في سجن قائله أو وضعه تحت طائلة القانون، وتُمثِّل حالة “عيسى” نموذج باعتبارها تتعلق ليس فقط بحرية التعبير عن الرأي ولكنها بالأصل تصطدم بالحق في حرية النشر الصحفي والتناول الإعلامي، وما هي المحاذير التي يمكن أن تُعيق هذا الحق أو أن تُرهقه بقيود تجعله مُفرغًًا من مضمونه.

نصَّ الدستور في أكثر من مادة على الحق في حرية التعبير والحق في حرية النشر والصحافة من بينها المواد (65،70،71) وأكد على عدم جواز الحبس في الجرائم التي ترتكب عن طريق النشر والعلانية ولا سيّما المتعلقة بحرية التعبير، إلا أن قانون العقوبات المصري نصَّ في مادتيه (184،185) والمعدلتين بتاريخ 30 يونيو 1996 و 15 يوليو 2007 بالترتيب على

“يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أهان أو سب بإحدى الطرق المتقدم ذكرها مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو غيره من الهيئات النظامية أو الجيش أو المحاكم أو السلطات أو المصالح العامة”.

وكذلك “يعاقب بغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه كل من سب موظفاً عاماً أو شخصاً ذا صفة نيابية عامة أو مكلفاً بخدمة عامة بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وذلك مع عدم الإخلال بتطبيق الفقرة الثانية من المادة 302 إذا وجد ارتباط بين السب وجريمة قذف ارتكبها ذات المتهم ضد نفس من وقعت عليه جريمة السب”.

إلا أن المحكمة الدستورية تصدت لهذا الأمر بقوة ولم تتركه على علاته لتُبيِّن للمجتمع والمُكلَّفين بالتشريع والقائمين على إنفاذ وتطبيق القانون ما يدخل في إطار النقد المُباح وما يخرج من نطاق هذا المفهوم فيجعل صاحبه تحت طائلة القانون، ومن بين هذه الأحكام للدستورية العليا القضية رقم 37 لسنة 11 ق.

قالت المحكمة في حيثيات حكمها أن انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته حق مكفول لكل مواطن، وأن يتم التمكين لحرية عرض الآراء وتداولها بما يحول – كأصل عام – دون إعاقتها أو فرض قيود مسبقة على نشرها. وهي حرية يقتضيها النظام الديمقراطي، وليس مقصودا بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته، ولكن غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة، وعبر الحدود المختلفة، وعرضها في آفاق مفتوحة تتوافق فيها الآراء في بعض جوانبها أو تتصادم في جوهرها ليظهر ضوء الحقيقة جليا من خلال مقابلتها ببعض.

لم تقف المحكمة عند ذلك بل تجاوزت إلى ما هو أبعد واختتمت حيثياتها بأنه:

“ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط في بعض الآراء مستوجبا إعاقة تداولها. وتقتضي الحماية الدستورية لحرية التعبير، بل وغايتها النهائية في مجال انتقاد القائمين بالعمل العام، أن يكون نفاذ الكافة إلى الحقائق المتصلة بالشئون العامة، وإلى المعلومات الضرورية الكاشفة عنها متاحا، وألا يُحال بينهم وبينها اتقاء لشبهة التعريض بالسمعة، ذلك أن ما نضفيه إلى دائرة التعريض بالسمعة – في غير مجالاتها الحقيقة – لتزول عنه الحماية الدستورية، لا بد أن يقتطع من دائرة الحوار المفتوح المكفول بهذه الحماية، مما يخل في النهاية بالحق في تدفق المعلومات، وانتقاد الشخصيات العامة بمراجعة سلوكها وتقييمه، وهو حق متفرع من الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشؤون العامة الحريصين على متابعة جوانبها السلبية وتقرير موقفهم منها. ومؤدى إنكاره أن حرية النقد لن يزاولها أو يلتمس طرقها إلا أكثر الناس اندفاعا أو أقواهم عزما. وليس أدعى إلى إعاقة الحوار الحر المفتوح من أن يفرض قانون جنائي قيودا باهظة على الأدلة النافية لتهمة التعريض بالسمعة – في أقوال تضمنها مطبوع – إلى حد يصل إلى إهدار الحق في تقديمها.

ليس هذا فقط فقد نظَّرت المحكمة الدستورية ورسَّخت لمبدأ شديد الأهمية وهو أن حوار القوة إهدار لسلطان العقل، ولحرية الإبداع والأمل والخيال وبناء عليه فقد رأت المحكمة أنه

“من الصحيح كذلك أن الطبيعة الزاجرة للعقوبة التي توقعها الدولة على من يخلون بنظامها، لا تقدم ضمانا كافيا لصونه، وإن من الخطر فرض قيود ترهق حرية التعبير بما يصد المواطنين من ممارستها، وأن الطريق إلى السلامة القومية إنما يكمن في ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح لمواجهة أشكال من المعاناة – متباينة في أبعادها – وتقرير ما يناسبها من الحلول النابعة من الإرادة العامة. ومن ثم كان منطقيا، بل وأمرا محتوما أن ينحاز الدستور إلى حرية النقاش والحوار في كل أمر يتصل بالشئون العامة، ولو تضمن انتقادا حادا للقائمين بالعمل العام”.

ولكن؛ لا يجب أن نغفل أن الحق في حرية الصحافة يتعين أن يتوافق -قبل كل شئ- مع باقي الحقوق والحريات الأخرى، والتوفيق أو التوازن هنا بين هذه الحقوق أو الحريات لا يعني انتقاص أي حق منها لحساب الآخر، وإنما يعني تحديد مجال دقيق لكل من هذه الحقوق. ذلك أن الحماية التي كفلها الدستور لحرية التعبير تنحصر إذا ما فقدت هذه الحرية قيمتها الإجتماعية أو إذا اقترنت ممارستها بمخاطر تهدد حريات المواطنين دون سبب مشروع.

بناءًا على ما سبق فإن الحق في النقد يتميز عن جرائم الإهانة والسب والقذف بضابط ومعيار هام يتعلق بما إذا كانت العبارات والألفاظ المستخدمة توصف حال أو واقعة محددة أو سلوك تتخذه هذه الجهات، أم  ينصرف الأمر إلى الأشخاص الذين صدرت عنهم هذه الأفعال أو المساس بشخصهم أو سمعتهم؛ وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية أن مفهوم النقد:

“هو إبداء الرأي في أمر أو عمل معين دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به أو الحط من كرامته فإذا تجاوز النقد هذا الحد وجب العقاب عليه باعتباره مرتكبا لجريمة سب أو قذف أو إهانة علي حسب الأحوال”.

وقد حرصت -أيضًا- المحكمة الدستورية العليا على تأكيد أن الطبيعة البناءة للنقد -التي حرص الدستور على توكيدها- تستوجب ألا يكون النقد منطويًا على آراء تنعدم قيمتها الإجتماعية، أو التعليق على واقعة غير صحيحة جاءت وليدة الإشاعات أو الوهم أو الخيال أو كتلك التي تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التي تكون منطوية على مجرد الفحش أو محض التعريض بالسمعة. كما لا تمتد الحماية الدستورية إلى الآراء التي تحض على أعمال غير مشروعة تلابسها مخاطر واضحة، تتعرض لها مصلحة حيوية.

وهنا أعطى القانون للمحكمة مساحة واسعة جدا من تقدير القصد الجنائي ونية الصحفي، ورغم كل الحدود التي حاولت المحكمة الدستورية ترسيخها لتُحد من هذه المساحة التقديرية لمحكمة الموضوع إلا أن هذا لم يعد كافيًا. فالقوانين الحديثة شُرَّعت بفلسفة مفادها كتابة قوانين تفصيلية تقلل -قدر الإمكان- من المساحة التقديرية لمحكمة الموضوع. وقد دعا المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن حرية الرأي والتعبير الدول بشكل واضح ورسمي إلى إبطال جميع قوانين التشهير الجنائي لصالح قوانين التشهير المدني. حيث أكد على كون قوانين التشهير الجنائي تمثل خطرًا غير مبررًا على الحق في حرية التعبير.

وكأن المحكمة تُبصر جيدًا حال أولئك الذين يسعون بجد للمنع والتقييد حفاظًا منهم على مواقعهم والدفاع الأعمى عن السلطة أيًا كانت توجهاتها طالما كانوا مستفيدين فتقول:

“وليس جائزا بالتالي أن تفترض في كل واقعة جرى إسنادها إلى أحد القائمين بالعمل العام، أنها واقعة زائفة أو أن سوء القصد قد خالطها. كذلك فإن الآراء التي تم نشرها في حق أحد ممن يباشرون جانبا من اختصاص الدولة، لا يجوز تقييمها منفصلة عما توجبه المصلحة العامة في أعلى درجاتها من عرض انحرافهم، وأن يكون المواطنون على بينة من دخائلها. ويتعين دوما أن تتاح لكل مواطن فرصة مناقشتها واستظهار وجه الحق فيها.”

ختامًا؛ لم يخطئ عيسى، بل أجرم مجلس النواب في حق حرية التعبير وقبل ذلك في حق حرية الصحافة وهذه ليست المرة الأولى وليس إبراهيم عيسى سوى أحد أولئك الذين طالتهم نيران تكميم الأفواه التي يُطلقها المجلس ضد كل من ينتقده.

ولا يوجد أكثر دلالة على هذا من الهجوم الشرس الذي شهدته الجلسة العامة للبرلمان بتاريخ 28 فبراير بحق مؤسسة الأهرام ورئيس مجلس إدارتها، حيث صرَّح عبد العال خلال الجلسة “نحن جيل نشأ على كتابات عمالقة تلك المؤسسة القومية، التى أفرزت أغلب الصحف الموجودة فى مصر وخارجها، وأن يأتى شخص فى غفلة من الزمن ويصبح رئيس مجلس إدارة لها، ويتهاون فى اتخاذ الإجراءات ضد من يخطأ، فتلك هى الكارثة الكبرى”. وذلك على خلفية الأزمة التي نشبت بين البرلمان ومؤسسة الأهرام بشأن واقعة فصل النائب محمد أنور السادات، أثار هجوم البرلمان على الأهرام سخطًا واسعًا في الأوساط الصحفية وخاصة أبناء ومسؤولي مؤسسة الأهرام ومن بينهم رئيس مجلس الإدارة أحمد السيد النجار الذي وجَّه نقدًا لاذعًا لرئيس البرلمان عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك” وكذلك عبد الهادي علَّام رئيس تحرير جريدة الأهرام. وزاد من اشتعال الأزمة تصريح رئيس مجلس النواب في ختام الجلسة “هناك جريدة تشوه البرلمان بالرغم من أن الدولة تقوم بالصرف عليها، مضيفًا: “جريدة الأهرام إحنا بنصرف عليها وبتشوه المجلس والبرلمان”. إلا أن عبد العال رفض اقتراح النائب مصطفى بكري بمقاضاة مؤسسة الأهرام ورئيس مجلس إدارتها قائلًا “منصب رئيس مجلس النواب أكبر من الصغائر ويجب ألا نلتفت إليها، هذا المجلس لا ينصاع لبعض الرغبات التى ينادى بها بعض المنحرفين، هذا المجلس يطهر نفسه بنفسه، ولا فيه تجار كيف ولا تجار أراضى ولا سارقين لأموال الدولة، هذا المجلس جاء بانتخابات حرة ونزيهة، وأنا على رأس هذا المجلس أتيت من صعيد مصر”.

إلا أن موقف عبد العال لم يكن نفسه عندما تعلَّق الأمر بمقاضاة الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى والذي هوجم في نفس الجلسة، حيث قرر البرلمان بعد التصويت تكليف رئيس البرلمان باتخاذ الاجراءات القانونية ضد عيسى.

وهو ما يُعبر بوضوح عن مدى تقبُّل البرلمان للنقد بشكل عام سواء كان عبر وسيلة إعلامية خاصة أو حتى قومية وهو الأمر الذي يشير بأصابع الاتهام إلى قانون التنظيم المؤسسي للإعلام والذي أصدره البرلمان ولاقى معارضة واسعة من قبل الجماعة الصحفية والإعلامية.

وبالعودة للمحكمة الدستورية العليا حيث أشارت إلى أن الطبيعة البناءة للنقد لا تفيد لزوما رصد كل عبارة احتواها مطبوع، وتقييمها – منفصلة عن سياقها – بمقاييس صارمة، ذلك أن ما قد يراه إنسان صوابا في جزئية بذاتها، قد يكون هو الخطأ بعينه عند آخرين، ولا شبهة في أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيرا ما يلجأون إلى المغالاة، وأنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس في المجال الذي لا يمكن أن تحيا بدونه، فإن قدرا من التجاوز يتعين التسامح فيه.

 

هل يمكن فهم التنكيل بعيسى كحالة فردية؟

القضية ليست ابراهيم عيسى أو غيره ولكنها تتعلق بتلك النوافذ التي تحاول سلطة ما بعد 3 يوليو غلقها تباعا في المجال العام وتلك الحالة المتزايدة من الإقصاء والتهميش و المنع والتقييد لكل الأصوات المعارضة، وتحديدًا محاولة تدجين كافة المنابر الإعلامية التي تحوي آراء قد لا تروق مؤسسات الحكم، وبالتالي لا يمكن فصل ما حدث مع إبراهيم عيسى عن المناخ والسياق العام الذي تعيشه حرية الصحافة والإعلام في مصر، حيث شهد العام المنصرم ذروة التوتر في العلاقة بين الصحفيين ومؤسسات الدولة، ففي الأول من مايو 2016م اقتحمت قوة شرطية حرم نقابة الصحفيين للمرة الأولى في تاريخ النقابة منذ إنشائها في بداية أربعينيات القرن الماضي، وألقت القبض من داخلها على الصحفيين عمرو بدر رئيس تحرير بوابة يناير الإليكترونية ومحمود السقا الصحفي بنفس الموقع، وهو ما أثار أزمة كبيرة بين الصحفيين والدولة انتهت بإحالة نقيب الصحفيين يحيى قلاش واثنين من أعضاء مجلس النقابة لمحاكمة عاجلة، ليصدر حكم محكمة أول درجة بحبسهم سنتين مع الشغل وكفالة عشرة آلاف جنيه لكل منهم لوقف التنفيذ، وهي -أيضًا- المرة الأولى في تاريخ النقابة، وذلك لاتهامهم بإيواء مطلوبين للعدالة ونشر أخبار كاذبة حول واقعة اقتحام النقابة.

وقد عزا الكثير من المهتمين والمتابعين توتر العلاقة بين الصحفيين ومؤسسات الدولة وكذلك الإضطراب والعشوائية التي يُعاني منها المجال الصحفي والإعلامي إلى غياب التشريعات المنوط بها تنظيم العمل الصحفي والإعلامي والتي نصَّ عليها دستور (2014)، وهنا كانت مرحلة أخرى أكثر تدهورًا في علاقة الصحفيين بسلطات الدولة المختلفة حيث أقر مجلس النواب قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام (الهيئات المنظمة للشأن الصحفي والإعلامي كالهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الصحافة والإعلام) وتجاهل البرلمان القانون الموحَّد للصحافة والإعلام الذي عكفت على إعداده لجنة الخمسين لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية والتي لاقت قبولًا مهمًا من أبناء المجتمع الصحفي والإعلامي من حيث تشكيلها وتمثيلها الجيد لأبناء المهنة والقائمين عليها، والتي استمر عملها لعامين متتاليين خاضت فيها مفاوضات مع حكومتي محلب وشريف اسماعيل وكان من المتوقع مناقشته والموافقة عليه من قبل المجلس، وهو ما آثار غضب واسع في أوساط المشتغلين بالصحافة والإعلام ودارت نقاشات حول الهدف من فصل القانون إلى قانونين مختلفين والعبث بالمواد المتعلقة بتشكيل الهيئات الذي رأى البعض أن الهدف منه استعادة قبضة الدولة على وسائل التعبير الصحفي والإعلامي بل ومجمل العمل الصحفي بدلًا من تحقيق الهدف الأول والأهم من انشائها وهو منح هذه الهيئات المزيد من الحرية والاستقلالية في تأدية دورها من أجل إعادة ضبط ما لحق بالمهنة من أزمات.

في نفس السياق رصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير ما لا يقل عن 438 حالة انتهاك لحرية الصحافة والإعلام والعاملين فيها خلال عام 2016م فقط. كانت للسلطات التنفيذية (أمنية/مسؤولون حكوميون) منها نصيب الأسد بواقع 226 انتهاك وكذلك السلطات القضائية بواقع 69 انتهاك.

كان من بين أبرز تلك الانتهاكات وأكثرها دلالة على مستوى قمع الآراء المختلفة هو منع مقالة رئيس مجلس إدارة الأهرام، أحمد السيد النجار، التي عبِّر فيها عن موقفه من قضية إعادة ترسيم الحدود البحرية مع السعودية بما يقضي بتنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح المملكة، حيث نشرت جريدة الأهرام اعتذار في عدديها الصادرين بتاريخ 11،18 أبريل 2016م على لسان “النجار” يعتذر فيهم عن كتابة مقاله الأسبوعي، إلى أن فاجأ النجار الجميع بنشر مقاله عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك” تحت عنوان “تيران وصنافير وقواعد تأسيس الأوطان والدول” . وربما يكون من النادر إن لم يكُن حدثًا استثنائيًا أن تمنع جريدة الأهرام مقالًا لرئيس مجلس إدارة المؤسسة.

وفي شهادته لمؤسسة حرية الفكر والتعبير والمنشورة بتاريخ 24 أكتوبر 2016م؛ قال الدكتور أسامة الغزالي حرب أن ما حدث معه هو من الٱثار المباشرة للصحافة المؤممة. وأنه لا يوجد مجتمع محترم ديمقراطي لسه فيه حاجة اسمها “صحافة مؤممة” بحسب الغزالي. وأكد أن الصحافة القومية بمصر صحافة مؤممة وأن رئيس التحرير يقوم بتعيينه رئيس الجمهورية وبالتالي يعتقد أنه يجب عليه نشر فقط ما “يعجب الرئيس” ويمنع ما لا يعجبه. كذلك تكلم الغزالي بوضوح أن من يريد الاستمرار في الكتابة للأهرام عليه أن يبتعد عن المواضيع الحساسة. جاء ذلك على خلفية منع مقالته “المدينة الفاضلة” من النشر في عدد جريدة الأهرام يوم الأربعاء الموافق 12 أكتوبر 2016 بقرار من رئيس تحرير صحيفة الأهرام عبد الهادي علام. ولم تكن هذه المرة الأولى حيث سبق أن مُنعت للغزالي مقالة أخرى في الأول من مايو الماضي بعنوان “لا للبشير” ناقش فيه علاقة مصر بنظام الرئيس السوداني البشير وأكد على ضرورة أن تعيد السلطات المصرية النظر في علاقتها بنظام البشير وأن تضع حدودا لها. وهو ما دفع الغزالي ليُصرِّح في شهادته أنه “يوجد اليوم رقابة واضحة علي حرية التعبير وحرية الصحافة والإعلام في مصر”. يُذكر أن “الغزالي” أكمل عامه الأربعون في الأهرام مع مطلع 2017 م، تولى خلالها رئاسة تحرير مجلة السياسة الدولية لعشرين عامًا متواصلة كما ترأس خلال هذه الفترة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

 

البرلمان ضمن قائمة أعداء الصحافة

منذ اللحظات الأولى لانعقاده أبدى مجلس النواب تفاعلًا مُتحفظًا بشدة تجاه الإعلام والصحافة بشكل عام، تجلى هذا التحفظ بعد رفضه القاطع لبث جلساته بشكل علني لجمهور الناس عبر شاشات التلفزيون، وذلك رغم ما نصَّ عليه الدستور في مادتيه (120،68) واللتان تؤكدان على مبدأ غلنية جلسات البرلمان إلا في حالات بعينها تحددها اللائحة الداخلية للمجلس، وكذلك أكد الدستور على أن المعلومات والبيانات والوثائق الرسمية ملك للشعب، وهو ما دفع مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى إقامة دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري اختصمت فيها رئيس الجمهورية ووزير الشئون القانونية والبرلمانية وأمين عام مجلس النواب. وطالبت مؤسسة حرية الفكر والتعبير في الدعوى بإلزام مجلس النواب بإذاعة الجلسات العامة للبرلمان المصري، وإنشاء موقع متخصص على شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت”، لنشر وأرشفة جلسات ومضابط البرلمان بشكل دوري، بما يسمح بالوصول إليها.

وفي نفس السياق شهد البرلمان وقائع عدة انتهكت خلالها حقوق الصحفيين والمصورين في تأدية عملهم داخل البرلمان، حتى أن الأمر وصل لتعدى النائب محمود خميس، عضو مجلس النواب، على محمد طارق، الصحفي بجريدة “الوطن”، بالبهو الفرعوني للمجلس، عندما حاول الزميل محمد طارق أخذ تصريحات صحفية من النائب توفيق عكاشة عقب طرده من الجلسة بتصويت الأعضاء.

ويُذكر -أيضًا- من ضمن أهم هذه الوقائع ما شهده البرلمان بتاريخ الأحد 17 يناير 2016م من منع 12 صحفي من دخول المجلس لتأدية عملهم بدعوى أنهم غير مسجلين بنقابة الصحفيين، وهو الأمر الذي بادر نقيب الصحفيين بنفيه لرئيس المجلس حتى يتمكنوا من العودة وأداء مهامهم في اليوم التالي بعد رفعهم مذكرة لتقيب الصحفيين.

وفي شهادته لمرصد “صحفيون ضد التعذيب” قال المصوِّر الصحفي بجريدة اليوم السابع أن رئيس المجلس علي عبد العال وقبل بدء الجلسة العامة يوم الأحد الموافق 28 أغسطس 2016م أمسك بالميكروفون وقال (يُمنع المصورون من حضور الجلسات العامة منعًا نهائيًا)، ثم أمر بإخلاء القاعة من المصورين تمامًا فيما عدا مصوري الأمانة العامة للمجلس، على أن تُرسل الصور من خلالهم، كما سمح للمحررين البرلمانيين بحضور الجلسات دون تصوير”. وذلك على خلفية التقاط “عبد العزيز” صورة لرئيس المجلس وهو يرسل “قُبلة” للنواب كنوع من الدعابة إلا أن مواقع التواصل الإجتماعي تناولتها بنوع من السخرية ما كان السبب في غضب رئيس المجلس واتخاذه قرار بمنع المصورين الصحفيين.

كل هذه الانتهاكات وغيرها الكثير جعلت من البرلمان ضمن قائمة أعداء الصحافة بامتياز. وهو ما يجعلما نعي بشكل جيد أن النهديد الحقيقي ليس حبس إبراهيم عيسى أو نقيب الصحفيين وإنما تلك الرغبة المتزايدة في تكميم الأفواه وتأميم المجال العام وقمع حرية الصحافة وتلك هي القضية التي تحتاج لوقفة جادة من الجماعة الصحفية وكل المؤمنين بحرية الصحافة، خاصةً وأن نقابة الصحفيين تعيش هذه الأيام أجواء انتخابات التجديد النصفي، والتي تمثِّل معركة الدفاع عن استقلالية النقابة أهم ملامحها، وهو ما يحتاج من الجماعة الصخفية أن تكون على مستوى الحدث في فترة غير مسبوقة من الهجوم الممنهج على حرية التعبير بشكل عام وحرية النشر الصحفي والتناول الإعلامي بشكل خاص.

وختامًا؛ يجدُر القول أنه مع كل انتهاك جديد بحق حرية العمل الصحفي تتعالى الأصوات إما منددة و ناقمة أو مؤيدة وداعمة لهذا الانتهاك، وتتباين الرؤى وفقًا لمواقف الشخص أو المؤسسة التي مورس الانتهاك بحقها، ولم ينجح حتى الآن الفضاء المدني في أن يُبلِور مبادئ عامة ننطلق منها لتحديد موقفنا من كل هذه الانتهاكات بصرف النظر عن الاختلاف السياسي أو الفكري مع الشخص أو المؤسسة التي اُنتهكت حقوقه/ا.

إن الدفاع عن حرية الرأي والتعبير كمظلة عامة وفي القلب منها حرية العمل الصحفي والإعلامي المنوط به نقل الحقيقة ونشر المعلومات لجمهور الناس يجب أن يظل مبدأ عام نُصب أعين كل المهتمين بالمجال العام في مصر، وأي انتقاص من هذا الحق بالمنع أو التقييد هو خسارة للمكتسبات الديمقراطية يجب أن يتصدى له الجميع على قدم المساواة بصرف النظر عن مواقف وتوجهات من وقع الانتهاك بحقه، فوجه الديمقراطية الحقيقي يُختبر عندما يتعلق الأمر بمن نختلف معهم في التوجهات والأفكار.

للإطلاع على التقرير بصيغة PDF اضغط هنا

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.