الحبس الاحتياطي في التشريع المصري

تاريخ النشر : الخميس, 30 ديسمبر, 2021
Facebook
Twitter

المحتوى

منهجية

مقدمة

أولًا: ماهية الحبس الاحتياطي

ثانيًا: التطور التشريعي للحبس الاحتياطي

ثالثًا: تعارض النصوص الحاكمة للحبس الاحتياطي مع الغاية منه في الدستور

أ- انحراف مبررات الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية عن الغرض الذي شرع من أجله

ب- التوسع في أسباب الحبس الاحتياطي

ج- غاية الحبس الاحتياطي في التشريع الفرنسي

رابعًا: وجوب صدور الحبس الاحتياطي عن جهة قضائية والالتزام بطابع التأقيت

أ- سلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي

ب- وجوب الالتزام بالحد الأقصى للحبس الاحتياطي

ج- بطلان وسقوط الحبس الاحتياطي إذا تجاوز المدة المنصوص عليها قانونيًّا

خامسًا: بدائل الحبس الاحتياطي في التشريع المصري

خاتمة وتوصيات

 

منهجية

اعتمدت الورقة على استعراض النصوص الواردة بقانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950 في شأن الحبس الاحتياطي، والتحليل الموضوعي لهذه النصوص. إضافة إلى استعراض بعض ضمانات الحبس الاحتياطي في التشريع الفرنسي.

 

مقدمة

حظيت الحرية الشخصية بالحماية الدستورية في المادة (54) من الدستور المصري، كما تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذا العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، لذلك لا يجوز المساس بحرية التنقل إلا بإجراء القبض أو الحبس الاحتياطي، على أن يتم أيٌّ من الإجراءين في إطار ضمانات يرسمها الدستور والقانون، في ظل الحماية الدستورية لجوهر الحرية الشخصية، وأن الأصل في المتهم البراءة، وتعد تلك الضمانات المشروعية لتقييد الحق في حرية التنقل.(1)

وفيما يخص الحبس الاحتياطي كونه إجراءً بغيضًا كما عرَّفه العديد من الفقهاء والتشريعات لِما فيه من مساس بالحرية الشخصية، حيث يكون سببًا للزج بالمتهمين في السجون لسنوات على ذمة قضايا، دون أدلة كافية على نسبة الاتهام. كما تصدر أوامر الحبس الاحتياطي عن جهات غالبًا ما تجمع بين سلطة الاتهام والتحقيق.

وقد مر الحبس الاحتياطي في القانون الوضعي من خلال التشريعات المصرية الحديثة بمراحل مهمة حتى يضمن أن يحقق التوازن بين مصلحة التحقيق وحرية المتهم في التنقل، بداية من قانون التحقيقات الجنائية الصادر في 13 نوفمبر 1883، وتعديلاته مرورًا بقانون التحقيقات الجنائية الصادر عام 1904، وحتى صدر قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950 انتهاءً بالتعديل الذي طرأ على القانون الأخير والرقيم 145 لسنة 2006.

وفي ظل تطور ضمانات الحبس الاحتياطي في التشريعات المقارنة، وحتى لا يتحول الحبس الاحتياطي إلى اعتداء مستمر على الحريات المحمية دستوريًّا، يجب أن يواكب التشريع المصري الضمانات الخاصة بإجراء الحبس الاحتياطي.

فقد أصدر المشرِّع الفرنسي القانون رقم 1062 لسنة 1987، والذي عهد بسلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي إلى جهة قضائية مشكلة من ثلاثة من القضاة، ليس من بينهم قاضي التحقيق الذي يُجري التحقيق مع المتهم المعروض أمر حبسه احتياطيًّا. وتتولى محكمة النقض الفرنسية مراقبة مشروعية الحبس الاحتياطي.

وفي التشريع المصري، يعد الحبس الاحتياطي بمثابة عقوبة تصدر عن سلطة التحقيق لا المحكمة، قد يترتب عليه أذى شديد وصدمة عنيفة، إذ أنه يؤذي المتهم في شخصه وسمعته.

فهل المواد الحاكمة للحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية المصري تمثل توازن حقيقي بين حق الدولة في العقاب وحق المتهم في حريته الشخصية كمبدأ دستوري كونه مستمد من مبدأ أن الأصل في المتهم البراءة. هذا ما تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عنه.

 

أولًا: ماهية الحبس الاحتياطي

لم تعرف التشريعات المصرية الحبس الاحتياطي وإنما وضعت القواعد المنظِّمة له، حيث أوردت أسبابه، ومبرراته، المحل الواقع عليه، والجهة التي تصدره، ومدته، والرقابة عليه والتظلم منه، وذلك باعتباره إجراء قضائيًّا من إجراءات التحقيق، سواء كان التحقيق ابتدائيًّا، أو كان التحقيق نهائيًّا تباشره المحكمة المختصة.

لكن ذهب الفقهاء إلى عدة تعريفات نذكر منها ما ذهب إليه الدكتور عبد الرؤوف مهدي، حيث قال: “الحبس هو سلب حرية المتهم فترة من الزمن بإيداعه أحد السجون والأصل فيه أنه عقوبة، وبالتالي يجب ألا يوقع إلا بحكم قضائي بعد محاكمة عادلة تتوفر فيها للمتهم ضمانات الدفاع عن نفسه، وذلك إعمالًا لأصل عام من أصول المحاكمات الجنائية – بل هو حق من حقوق الإنسان – هو أن الأصل في المتهم البراءة، ومع ذلك أجازه المشرِّع للمحقق في التحقيق الابتدائي بمجرد أن يبدأ التحقيق أو أثناء سيره، فالحبس الاحتياطي إجراء من إجراءات التحقيق يتعارض مع أصل البراءة المفترض في الانسان”(2).

وقد عرفه الدكتور أحمد فتحي سرور: “إن الحبس الاحتياطي لا يخرج عن كونه إجراء من إجراءات التحقيق في جميع الأحوال، وأنه بهذه الصفة ليس عقوبة كما أنه ينبغي ألا يتحول إلي تدبير احترازي يجعله في مصافِّ العقوبات”.

كما تضمنت التعليمات العامة للنيابات فى المادة رقم 381 تعريف الحبس الاحتياطي بأنه: “إجراء من إجراءات التحقيق غايته ضمان سلامة التحقيق الابتدائي من خلال وضع المتهم تحت تصرف المحقق وتيسير استجوابه أو مواجهته كلما استدعى التحقيق ذلك، والحيلولة دون تمكينه من الهرب أو العبث بأدلة الدعوى أو التأثير على الشهود أو تهديد المجني عليه، وكذلك وقاية المتهم من احتمالات الانتقام منه وتهدئة الشعور العام الثائر بسبب جسامة الجريمة”.

 

ثانيًا: تطور الحبس الاحتياطي في التشريع المصري

نظَّم قانون الإجراءات الجنائية المصري الحبس الاحتياطي عبر قانون تحقيق الجنايات الأهلي الصادر عام 1883 ليطبق على المحاكم الأهلية، ولن نسهب في ذلك القانون حيث عُطل العمل به حتى عام 1889 ثم تم تعديله عام 1904. وعقب إلغاء الامتيازات الأجنبية بموجب معاهدة 1936 صدر قانون تحقيق الجنايات عام 1949، والذي تضمن تنظيم الحبس الاحتياطي حيث منحه سلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي لقاضي التحقيق المنوط به مباشرة التحقيق لمدة شهر وذلك إذا كانت الجريمة التي يحقق فيها يعاقب عليها بالحبس دون وضع حد أدنى لمدة الحبس أو عقاب آخر أشد من الحبس.

وفي حالة مد الحبس الاحتياطي، تُعرض الأوراق قبل انقضاء مدة الشهر على غرفة المشورة دون إلزام قاضي التحقيق بتسبيب الأمر بالحبس الاحتياطي. ولغرفة المشورة سلطة تمديد الحبس شهرًا فشهرًا حتى الانتهاء من التحقيق، على أن تختص محكمة الموضوع سواء الجنح أو الجنايات بأمر الحبس الاحتياطي دون التقيد بحد أقصى.

ثم صدر قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، والذي فرض مزيدًا من الضمانات على الإجراءات المنظِّمة للحبس الاحتياطي، وهو ما ستتطرق إليه الورقة تفصيلًا عند الحديث عن غاية الحبس الاحتياطي وشروطه. ومع إصدار دستور 1971، تم إضافة مزيد من الضمانات إلى الحبس الاحتياطي، تتمثل في مبرراته ووجوب توقيته. ولكن ظلت تلك الضمانات حبيسة وغير مطبقة، حتى صدر القانون رقم 145 لسنة 2006، بشأن تعديل قانون الإجراءات الجنائية، فيما يخص الحبس الاحتياطي.

 

ثالثًا: تعارض النصوص الحاكمة للحبس الاحتياطي مع الغاية منه في الدستور

أوردت المادة (54) من الدستور المصري في تعديلات عام 2014 الحالات التي يجوز فيها المساس بالحرية الشخصية للفرد وتقييد حريته، واشتراط صدورها عن جهة قضائية، على أن يكون الأمر بالحبس يستلزمه التحقيق. ويعني ذلك أن الأمر بالحبس الاحتياطي لا بد أن يكون لمصلحة التحقيق فقط، وأحال الدستور في تنظيم أحكام الحبس الاحتياطي ومدته وأسبابه والتظلم منه وحالات التعويض عنه إلى القانون والمقصود بالقانون هنا هو قانون الإجراءات الجنائية أو القوانين الخاصة بالحبس الاحتياطي، مثل القانون رقم 94 لسنة 2015 بشأن مكافحة الإرهاب، أو قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958.

لذلك وجب على المشرع عند تقرير الحبس الاحتياطي، وكونه إجراء ماسًّا بجوهر الحرية الشخصية التي قد حظيت بالحماية الدستورية، أن يلتزم بالمشروعية الدستورية من خلال مراعاة الضمانات التي وردت على الحبس الاحتياطي وأن يوازن القانون بين الحرية الشخصية للمتهم ومصلحة التحقيق.

وهنا يدق ميزان التوازن بين مصلحة المجتمع وحرية التنقل في مسألة الحبس الاحتياطي بوصفه إجراء بالغ المساس بهذه الحرية وقد كان له ماضٍ ملوث شهد إساءة استخدامه في كثير من الدول، خاصة في النظم التسلطية التي تتفوق فيها حقوق السلطة على حقوق الفرد.(3)

لذلك نستعرض مبررات وأسباب الحبس الاحتياطي الواردة بالمادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية وما بها من عوار وتوسع يخالف الدستور، ما يتطلب تدخلًا تشريعيًّا حتى تتماشى مع الغرض من الحبس الاحتياطي وذلك من خلال النقاط التالية:

أ –  انحراف مبررات الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية عن الغرض الذي شرع من أجله

باستعراض نص المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية نجد أنها توسعت في الهدف من الحبس الاحتياطي كما ورد في الدستور الحالي، وفيها افتئات على حق المتهم في الحرية الشخصية وتدحض قرينة البراءة، فتنحرف تلك المبررات عن الغرض الذي شرع من أجله الحبس الاحتياطي وهو مصلحة التحقيق حيث عنيت المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية بإيراد دواعي ومبررات الحبس الاحتياطي وحصرها المشرع  في أربع حالات:

1 – إذا كانت الجريمة في حالة تلبس، ويجب تنفيذ الحكم فيها فور صدوره.

2 – الخشية من هروب المتهم.

3 – خشية الإضرار بمصلحة التحقيق سواء بالتأثير على المجنى عليه أو الشهود، أو بالعبث في الأدلة أو القرائن المادية، أو بإجراء اتفاقات مع باقى الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها.

4 – توقي الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي قد يترتب على جسامة الجريمة.

والبيِّن من البند الرابع من المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية أنه يخالف المادة 54 من الدستور الحالي التي تنص على: “الحرية الشخصية حق طبيعي، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق …”.

وكانت هذه المادة في دستور 1971 تتيح الحبس بأمر قضائي لما تستلزمه مصلحة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ولما كانت عبارة “صيانة أمن المجتمع” قد تم حذفها من النص الدستوري الحالي، فلا بد للقانون أن يتقيد بحكم المادة 54.(4)

أما فيما يخص البندين الأول والثاني من المادة 134 من القانون فيما تضمَّنا من مبررات للحبس الاحتياطي تتعلق بشخص المتهم وجسامة الجريمة لا التحقيق أو ما يتعلق به، فواقع الأمر أنه لا يجوز التوسع في الهدف من الحبس الاحتياطي واعتباره تدبيرًا احترازيًّا، لأن ذلك يجعله في مصاف العقوبات، الأمر الذي يتعارض مع طبيعته المؤقتة – أما مراعاة الشعور العام للناس بسبب جسامة الجريمة فلا يجوز مواجهته بحبس الأبرياء، والخوف من هروب المتهم عند الحكم عليه لا يجوز أن يكون سندًا لحبسه وإلا كان ذلك مصادرة على المطلوب، وهو التأكد من إدانته، ما يتعارض تمامًا مع أصل البراءة.(5)

ب – التوسع في أسباب الحبس الاحتياطي

في ظل مناقشة الورقة البحثية لإشكاليات الحبس الاحتياطي في التشريع المصري، يمكن تناول السبب الآتي لما به من توسع في إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي، والمتمثل في وجود دلائل كافية على نسبة الجريمة إلى المتهم:

حيث ورد بصدر المادة 134 إجراءات جنائية: “يجوز لقاضي التحقيق، بعد استجواب المتهم أو في حالة هربه، إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة معاقبًا عليها بالحبس لمدة لا تقل عن سنة، والدلائل عليها كافية، أن يصدر أمرًا بحبس المتهم احتياطيًّا،…”.

البين من نص المادة المشار إليها أنه اعتمد على مصطلح “دلائل” وهو وصف واسع النطاق وغير كاف للإدانة، حيث يمكن للنيابة العامة اعتبار التحريات مثلًا من ضمن الدلائل، وهو ما نشهده في أوامر الحبس الاحتياطي المتكررة خلال الآونة الأخيرة. بينما يجب أن يستند الحبس الاحتياطي إلى “دليل”، حسب توجهات الأحكام الصادرة عن محاكم الجنايات ومحكمة النقض، مثل: التقرير الفني، أو الاعتراف، أو شهادة الشهود. وهو ما يستتبع تدخل تشريعي لعدم صدور قرار بالحبس الاحتياطي إلا بناء على وجود دليل، إذ أن الأمر بالحبس الاحتياطي سالبًا لحرية المتهم مثل العقوبة.[1]

ومن شروط سلامة الأمر بالحبس الاحتياطي أن تكون أمام المحقق أدلة كافية على نسبة الجريمة إلى المتهم سواء بوصفه فاعلًا أصليًّا أو شريكًا (مادة 134 إجراءات جنائية) وقد استعمل المشرِّع كلمة “الدلائل الكافية” دون الإفصاح عن مقصده منها، بمعنى هل تكفي الشبهات أو الدلائل أم يجب أن تكون هناك أدلة قوية على نسبة الجريمة إلى المتهم.(7)

ويتجه الفقه إلي أنه إذا تبينت محكمة الموضوع عدم توافر الدلائل الكافية على الاتهام لتبرير الأمر بحبس المتهم احتياطيًّا كان هذا الأمر باطلًا ويتعين بطلان ما يترتب عليه من إجراءات واستبعاد الدليل المستمد منها(8)، وحيث أن الأمر بالحبس الاحتياطي في غاية الخطورة لذلك يجب أن تكون هناك أدلة واضحة.

ج – غاية الحبس الاحتياطي في التشريع الفرنسي ومبرراته

استخدم المشرِّع الفرنسي تعبير “الحبس المؤقت” بدلًا من “الحبس الوقائي” ويكون طبقًا للمادة 144/1،2 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي “للمحافظة على الأدلة أو الأمارات المادية أو لمنع الضغط على الشهود أو التدبير السيئ مع الشركاء، أو المحافظة على النظام العام من الإضراب الذي أحدثته الجريمة، أو لحماية المتهم أو لوضع حد للجريمة أو منع العودة إلى ارتكابها، أو لضمان بقاء المتهم تحت تصرف القضاء”.

ورغم توسع المشرع الفرنسي في مبررات الحبس الاحتياطي لا سيما فيما يخرج عن مصلحة التحقيق، فإنه جعل بدائل الحبس الاحتياطي (الرقابة القضائية) هي الأصل والحبس الاحتياطي بديلًا، حيث نصت المادة 144 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي على “لا يؤمر بالحبس الاحتياطي أو بإطالة مدته إلا إذا تبين من عناصر وظروف واضحة أنه يعد الوسيلة الوحيدة لتحقيق هدف أو أكثر من أهداف الحبس الاحتياطي، وأن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها في حالة الخضوع للرقابة القضائية والالتزام بالبقاء في المسكن مع الخضوع للرقابة الإلكترونية”.

وقد نصت المادة 138 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي على أنه “يجوز أن يؤمر بالرقابة القضائية إذا كان المتهم معرضًا لعقوبة الحبس أو عقوبة أشد جسامة”، وقد حددت تلك المادة تدابير الرقابة القضائية.

 

رابعًا: وجوب صدور الحبس الاحتياطي عن جهة قضائية والالتزام بطابع التأقيت

أكد الدستور المصري الصادر في 2014 في المادة 54 على أمرين أو شرطين لتقييد حرية الأشخاص، أولًا: وجوب صدور الأمر بالحبس الاحتياطي عن جهة قضائية متمثلة في جهات التحقيق الابتدائي (قاضي التحقيق، أو النيابة العامة) أو التحقيق النهائي محكمة الموضوع عقب اتصالها بالدعوى، وكونه من إجراءات التحقيق الماسة بالحرية الشخصية فلا يجوز ندب مأمور الضبط القضائي في إصداره. وثانيًا: تحديد حد أقصى للحبس الاحتياطي نظرًا إلى طبيعته المؤقتة، فلا يجوز مطلقًا بغير قيد زمني، وقد أكد الدستور على تنظيم القانون مدة الحبس الاحتياطي.

لذلك نظم قانون الإجراءات الجنائية الجهات القضائية مُصدرة أوامر الحبس الاحتياطي ومدته، ومدة كل جهة والحد الأقصى لها، على النحو التالي:

أ- سلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي

  1. قاضي التحقيق: بموجب التعديل الذي طرأ على قانون الإجراءات الجنائية بموجب القانون 353 لسنة 1952، اقتصرت مباشرة قاضي التحقيق للتحقيق في الجرائم، التي يختص بها وفقًا لاحكام المادتين 64 و65 من قانون الإجراءات الجنائية، ولقاضي التحقيق في هذه الحالة وعملًا بنص المادة 142 من قانون الإجراءات الجنائية أن يصدر أمرًا بالحبس الاحتياطي لمدة لا تزيد على خمسة عشر يومًا وله أن يمد الحبس مددًا مماثلة بحيث لا تزيد مدة الحبس في مجموعها على خمسة وأربعين يومًا.

وإذا استنفد قاضي التحقيق المدد المتاحة له لمد الحبس الاحتياطي المقررة في المادة 142، وجب عليه قبل انقضاء مدة الخمسة وأربعين يومًا عرض المتهم على محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة على أن تصدر أمرها بعد سماع النيابة العامة والمتهم ودفاعه إما بالإفراج عن المتهم وإما مد أمر حبسه لمدة خمسة وأربعين يومًا في كل مرة عملًا بنص الفقرة الأولى من المادة 143 إجراءات جنائية.

فإذا لم ينتهِ التحقيق وكانت التهمة المنسوبة إلى المتهم جناية فلا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطي الصادرة عن محكمة الجنح المستأنفة على خمسة شهور إلا بعد الحصول قبل انقضائها على أمر من محكمة الجنايات منعقدة في غرفة المشورة بمد الحبس مدة لا تزيد على خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة في حدود الحد الاقصى للحبس الاحتياطي عملًا بنص الفقرتين 3، 4 من المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية.

 

  1.  النيابة العامة: بموجب المادة 199 المستبدلة بالقانون رقم 353 لسنة 1952 بشأن تعديل قانون الإجراءات الجنائية والذي أسند مباشرة التحقيق إلى النيابة العامة في مواد الجنح والجنايات طبقًا للأحكام المقررة لقاضي التحقيق، أصبح للنيابة العامة سلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطي، حيث تنص المادة 201 من قانون الإجراءات الجنائية على: “يصدر الأمر بالحبس من النيابة العامة من وكيل نيابة على الأقل وذلك لمدة أقصاها أربعة أيام تالية للقبض على المتهم أو تسليمه للنيابة العامة إذا كان مقبوضًا عليه من قبل. على أن تحسب الأربعة أيام من تاريخ القبض على المتهم إذا صدر بناء على أمر من النيابة العامة، أما في حالة القبض على المتهم بمعرفة مأمور الضبط القضائي فإن مدة الحبس الاحتياطي تبدأ من تاريخ تسليمه أو عرضه على النيابة العامة.

إذا ارتأت النيابة العامة مدَّ الحبس الاحتياطي وجب عليها بموجب المادة 202 إجراءات جنائية قبل انقضاء مدة الأربعة أيام أن تعرض المتهم ومبررات مد حبسه على القاضي الجزئي على أن يسمع أقوال المتهم ويصدر أمره إما بالإفراج عن المتهم وإما بمد الحبس الاحتياطي لمدة أو مدد متعاقبة لا تجاوز كل منها خمسة عشر يومًا، وبحيث لا تزيد مدة الحبس الاحتياطي في مجموعها على خمسة وأربعين يومًا، على أن تحسب منها مدة الأربعة أيام الصادرة عن النيابة العامة.

وإذا ما أرادت النيابة العامة مد الحبس الاحتياطي زيادة على ما هو مقرر للقاضي الجزئي وجب عليها قبل انقضاء مدة الخمسة وأربعين يومًا عرض المتهم على محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة على أن تصدر أمرها بعد سماع النيابة العامة والمتهم ودفاعه إما بالإفراج عن المتهم وإما مد أمر حبسه لمدة خمسة وأربعين يومًا في كل مرة، عملًا بنص الفقرة الأولى من المادة 143 إجراءات جنائية.

فإذا لم ينتهِ التحقيق وكانت التهمة المنسوبة إلى المتهم جناية فلا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطي الصادرة عن محكمة الجنح المستأنفة على خمسة شهور إلا بعد الحصول قبل انقضائها على أمر من محكمة الجنايات منعقدة في غرفة المشورة بمد الحبس مدة لا تزيد على خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة في حدود الحد الأقصى للحبس الاحتياطي عملًا بنص الفقرتين 3، 4 من المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية.

وللنيابة العامة سلطات استثنائية في مد الحبس الاحتياطي وفق:

  • قانون الإجراءات الجنائية: حيث تنص المادة 206 مكررًا على: “يكون لأعضاء النيابة العامة من درجة رئيس نيابة على الأقل – بالإضافة إلى الاختصاصات المقررة للنيابة العامة – سلطات قاضي التحقيق في تحقيق الجنايات المنصوص عليها في الأبواب: الأول والثاني والثاني مكررًا والرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات. ويكون لهم فضلًا عن ذلك سلطة محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة المبينة في المادة (143) من هذا القانون في تحقيق الجرائم المنصوص عليها في القسم الأول من الباب الثاني المشار إليه بشرط ألا تزيد مدة الحبس في كل مرة على خمسة عشر يومًا.

ويكون لهؤلاء الأعضاء من تلك الدرجة سلطات قاضي التحقيق فيما عدا مدد الحبس الاحتياطي المنصوص عليها في المادة (142) من هذا القانون، وذلك في تحقيق الجنايات المنصوص عليها في الباب الثالث من الكتاب الثاني من قانون العقوبات.”

  • قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015: حيث تنص المادة 43 على: “تكون للنيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة، بحسب الأحوال، أثناء التحقيق في جريمة إرهابية، بالإضافة إلى الاختصاصات المقررة لها قانونيًّا، السلطات المقررة لقاضي التحقيق، وتلك المقررة لمحكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة، وذلك وفقًا لذات الاختصاصات والقيود والمدد المنصوص عليها بالمادة (143) من قانون الإجراءات الجنائية.”

وجدير بالذكر أن مدة التحفظ على المتهم بجرائم الإرهاب والمنصوص عليها في المادة 40 من قانون مكافحة الإرهاب تحسب من ضمن مدة الحبس الاحتياطي التي تمتلكها النيابة العامة أو سلطة التحقيق في المادة 43 من نفس القانون ويجوز استئناف أمر التحفظ أمام المحكمة المختصة وتفصل فيه خلال ثلاثة أيام من تاريخ التقرير به.

وتنص المادة 40 من قانون مكافحة الإرهاب على أن لمأمور الضبط القضائي، لدى قيام خطر من أخطار جريمة الإرهاب ولضرورة تقتضيها مواجهة هذا الخطر، الحق في جمع الاستدلالات عليها والبحث عن مرتكبيها والتحفظ عليهم لمدة لا تجاوز أربعًا وعشرين ساعة. ويحرر مأمور الضبط القضائي محضرًا بالإجراءات، ويعرض المتحفظ عليه صحبة المحضر على النيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة بحسب الأحوال. وللنيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة، لنفس الضرورة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة وقبل انقضاء المدة المنصوص عليها فيها، أن تأمر باستمرار التحفظ، لمدة أربعة عشر يومًا، ولا تجدد إلا مرة واحدة، ويصدر الأمر مسببًا من محامٍ عام على الأقل أو ما يعادله. وتحسب مدة التحفظ ضمن مدة الحبس الاحتياطي، ويجب إيداع المتهم في أحد الأماكن المخصصة قانونيًّا. وتتبع في التظلم من أمر استمرار التحفظ الأحكام المقررة بالفقرة الأولى من المادة (44) من هذا القانون.

كما تنص المادة 44 من قانون مكافحة الإرهاب على: “للمتهم ولغيره من ذوي الشأن أن يستأنف بدون رسوم الأمر الصادر بحبسه احتياطيًّا أو بمد هذا الحبس أمام المحكمة المختصة. وتفصل المحكمة في الاستئناف بقرار مسبب خلال ثلاثة أيام من تاريخ تقديمه، وذلك بعد سماع أقوال النيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة ودفاع المستأنف، فإذا انقضت هذه المدة دون الفصل تعين الإفراج عن المتهم المقبوض عليه فورًا.

يتضح أنه رغم إلغاء القانون رقم 105 لسنة 1980 بإنشاء محاكم أمن الدولة بموجب القانون رقم 95 لسنة 2003 فقد تم الإبقاء على سلطة النيابة العامة في الحبس الاحتياطي بالإضافة إلى سلطة محكمة الجنح المستأنفة، وبذلك يكون للنيابة العامة سلطة الحبس الاحتياطي حتى ستة أشهر (خمسة أشهر طبقًا للتعديل الأخير)، ما لم يكن المتهم قد أحيل إلى المحكمة فيصبح من اختصاصها الأمر بحبسه احتياطيًّا والإفراج عنه. كان هذا التوسع في سلطة النيابة العامة في الحبس الاحتياطي في جرائم الإرهاب محل نقد شديد من أعضاء مجلس الشعب عند مناقشة مشروع القانون، وفق مضبطة مجلس الشعب الجلسة رقم 103 في 16 يوليو 1992 ص 281.(6)

لذا، فإن الضمانات التي استحدثها القانون رقم 145 لسنة 2006 بشأن تعديل قانون الإجراءات الجنائية للمادة 206 مكررًا من ألا تقل درجة من يجوز له ممارسة هذه السلطة من أعضاء النيابة عن رئيس نيابة، ومن اشتراط ألا تزيد مدة الحبس الاحتياطي على 15 يومًا هي ضمانات غير كافية. وذلك لأنها تتغول على حق المتهم ولا تحقق التوازن بين مصلحة التحقيق وحق المتهم في الحرية الشخصية. من جانب آخر، فإن الإبقاء على سلطة الاتهام والتحقيق في يد النيابة العامة من شأنه خلق تضارب المصالح، الذي قد يؤدي إلى الإضرار والافتئات على حق المتهم.

 

  1.  سلطة محكمة الموضوع: تختص المحكمة المحال إليها الدعوى الجنائية بإصدار الأمر بالحبس الاحتياطي أو الإفراج عن المتهم وذلك استنادًا إلى نصوص المواد 151 و380 من قانون الإجراءات الجنائية مع مراعاة الحد الأقصى للحبس الاحتياطي المنصوص عليه بالمادة 143 إجراءات جنائية، حيث تلتزم المحكمة الجزئية أثناء نظر الدعوى الجنائية في مواد الجنح بالحد الأقصى للحبس الاحتياطي والمقرر بثلث الحد الأقصى المقرر للعقوبة السالبة للحرية بحيث لا يتجاوز ستة أشهر.

أما في مواد الجنايات فتلتزم المحكمة المختصة بالحد الأقصى للحبس الاحتياطي والمقرر بثلث الحد الأقصى المقرر للعقوبة السالبة للحرية بحيث لا يتجاوز ثمانية عشر شهرًا، وسنتين إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة هي السجن المؤبد أو الإعدام.

هذا وقد أضاف قانونا رقما 153 لسنة 2007 و83 لسنة 2013 إلى الفقرة الأخيرة للمادة 143 عدم التقيد بالحد الأقصى للحبس الاحتياطي لمحكمة النقض ومحكمة الإحالة في مواد الجنايات، إذا كانت العقوبة السجن المؤبد أو الإعدام.

 

ب- وجوب الالتزام بالحد الأقصى للحبس الاحتياطي

لمَّا كان الحبس الاحتياطي كإجراء من إجراءات التحقيق يفترض بحكم طبيعته أن يكون مؤقتًا، وقد اختلفت التشريعات في تحديد أسلوب هذا التأقيت فاتجه البعض إلى عدم تحديد حد أقصى للحبس الاحتياطي وذهب البعض إلى وضع حد أقصى للحبس الاحتياطي.(9)

وقد ذهب التشريع المصري إلى وجوب تأقيت الحبس الاحتياطي حيث أكد في المادة 54 من الدستور على: “وينظم القانون أحكام الحبس الاحتياطي، ومدته، وأسبابه، وحالات استحقاق التعويض التى تلتزم الدولة بأدائها عن الحبس الاحتياطي،…”. وقد أقر القانون رقم 145 لسنة 2006 بشأن تعديل قانون الإجراءات الجنائية الحد الأقصى للحبس الاحتياطي حيث امتثل للقاعدة الدستورية بوجوب تأقيت الحبس الاحتياطي، ورغم النص عليه منذ دستور 1971 فإنه لم يكن كاملًا حتى العمل بالقانون 145 لسنة 2006 حيث عدل أحكام المادة 143 إجراءات.

حيث أكد بموجب نص الفقرتين الثالثة والرابعة والخامسة من المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية على: “…، ولا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطي على ثلاثة أشهر، ما لم يكن المتهم قد أعلن بإحالته إلى المحكمة المختصة قبل انتهاء هذه المدة، ويجب على النيابة العامة في هذه الحالة أن تعرض أمر الحبس خلال خمسة أيام على الأكثر من تاريخ الإعلان بالإحالة على المحكمة المختصة وفقًا لأحكام الفقرة الأولى من المادة (151) من هذا القانون لإعمال مقتضى هذه الأحكام، وإلا وجب الإفراج عن المتهم.

فإذا كانت التهمة المنسوبة إليه جناية فلا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطي على خمسة شهور إلا بعد الحصول قبل انقضائها على أمر من المحكمة المختصة بمد الحبس مدة لا تزيد على خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة، وإلا وجب الإفراج عن المتهم.

وفي جميع الأحوال لا يجوز أن تجاوز مدة الحبس الاحتياطي في مرحلة التحقيق الابتدائي وسائر مراحل الدعوى الجنائية ثلث الحد الأقصى للعقوبة السالبة للحرية، بحيث لا تتجاوز ستة أشهر في الجنح وثمانية عشر شهرًا في الجنايات، وسنتين إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة هي السجن المؤبد أو الإعدام.

ومع ذلك فلمحكمة النقض ولمحكمة الإحالة إذا كان الحكم صادرًا بالإعدام أو بالسجن المؤبد أن تأمر بحبس المتهم احتياطيًّا لمدة خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد دون التقيد بالمدد المنصوص عليها في الفقرة السابقة.

ج- بطلان وسقوط الحبس الاحتياطي إذا تجاوز المدة المنصوص عليها قانونيًّا

وحيث أن قانون الإجراءات الجنائية المصري قد أخذ بنظرية البطلان الذاتي، وهو لا يستند إلى النص عليه في القانون صراحة، وإنما يستند هذا البطلان إلي الإخلال بالضمان الجوهري الذي كفله القانون في العمل الإجرائي.

والمواعيد المنظمة لقواعد الحبس الاحتياطي يترتب على مخالفتها الجزاءات الإجرائية سواء البطلان أو السقوط حسب الأحوال حيث أن إجراء الحبس الاحتياطي من الإجراءات الجوهرية المنصوص عليها في المادة 331 من قانون الإجراءات الجنائية لتعلقها بضمان احترام الحقوق والحريات التي يتمتع بها أطراف الخصومة الجنائية خاصة المتهم، وكل عمل إجرائي له شروط لصحته بعضها شروط موضوعية وبعضها الآخر شروط شكلية تسمى في فقه الإجراءات الجنائية بالشكليات مثل البيانات والمواعيد(10)، وهي تختلف عن القواعد الإجرائية الإرشادية أو التنظيمية التي لا تحتوي ضمانًا للحرية الشخصية وغيرها من حقوق الإنسان وإنما تحمي حقوقًا أخرى تتعلق بتنظيم الدليل وقبوله(11).

إلا أن الثابت من الواقع العملي هو تجاوز المتهمين المدد المنصوص عليها في الحبس الاحتياطي استنادًا إلى خلو القانون من ترتيب الجزاء على ذلك التجاوز في مدد الحبس، ما يجعلنا في أمس الحاجة إلى تدخل تشريعي يرتب البطلان على ذلك التجاوز وعدم الاكتفاء بنظرية البطلان الذاتي.

كما أن المدد التي أوردها القانون كحد أقصى للحبس الاحتياطي بالنسبة إلى كل سلطة من السلطات التي خولها حق الحبس في أثناء مرحلة التحقيق الابتدائي لم تفِ بمتطلبات حكم الفقرة الثانية من المادة 41 من الدستور (مادة 54 من الدستور الحالي) التي أوجبت تحديد مدة هذا الحبس بإطلاق، بما مؤداه: أن التأقيت يجب ألا يقتصر على مرحلة التحقيق الابتدائي دون سائر مراحل الدعوى الجنائية، والملاحظ أن المدد المشار إليها سلفًا يتحدد نطاق سريانها بمرحلة التحقيق الابتدائي، وحتى بالنسبة إلى محكمة الجنايات فلم يكن هناك حد أقصى للحبس الذي تأمر به المحكمة المختصة في أثناء هذه المرحلة بعد استنفاد سلطة محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة، إذا كان يمكن استصدار أوامر بمد الحبس الاحتياطي من المحكمة المختصة دون سقف أعلى، ومهما استطالت مدة التحقيق الابتدائي، أما ما كانت تملكه محكمة الموضوع من حبسٍ احتياطي أثناء نظر الدعوى فلم يكن مقدرًا له حد أقصى، ومفاد ذلك كله: أن الامتثال للقاعدة الدستورية بوجوب تأقيت الحبس الاحتياطي لم يكن كاملًا حتى العمل بالقانون 145 لسنة 2006.(12)

وأوجبت المادة 143 عرض الأوراق على النائب العام إذا انقضى على حبس المتهم ثلاثة شهور وذلك لاتخاذ الإجراءات التي يراها كفيلة للانتهاء من التحقيق. وهو إجراء لا يترتب على مخالفته البطلان، ولا يعدو أن يكون تنبيهًا على أنه لا يصح أن يكون الاستمرار في حبس المتهم احتياطيًّا راجعًا إلى تراخي أو إهمال في التحقيق الابتدائي.(13)

 

خامسًا: بدائل الحبس الاحتياطي في التشريع المصري

استحدث القانون رقم 145 لسنة 2006 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية بدائل الحبس الاحتياطي في الفقرة الثانية من المادة 201 إجراءات والتي نأمل أن تكون هي الأصل والحبس الاحتياطي بديلًا كما ذهب المشرع الفرنسي. وتنص المادة 201/2 من قانون الإجراءات الجنائية على: “ويجوز للسلطة المختصة بالحبس الاحتياطي أن تصدر بدلًا منه أمرًا بأحد التدابير الآتية:

1 – إلزام المتهم بعدم مبارحة مسكنه أو موطنه.

2 – إلزام المتهم بأن يقدم نفسه إلى مقر الشرطة في أوقات محددة.

3 – حظر ارتياد المتهم أماكن محددة.

فإذا خالف المتهم الالتزامات التى يفرضها التدبير، جاز حبسه احتياطيًّا.

ويسري في شأن مدة التدبير أو مدها والحد الأقصى لها واستئنافها نفس القواعد المقررة بالنسبة إلى الحبس الاحتياطي.

والثابت من النص السابق أنه يحتاج إلى تغيير لا سيما في ظل التقدم التكنولوجي وفي ظل جائحة كورونا، فأضحت هناك تدابير من غير الجائز استخدامها ولا بد من إعادة النظر فيها، مثل إلزام المتهم بأن يسلم نفسه لقسم الشرطة، حيث يمكن الاستعاضة عنه بعدم مبارحة المسكن مع وضع القيود الإلكترونية، مثلما ذهب المشرع الفرنسي. حيث نصت المادة 144 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي على: “لا يؤمر بالحبس الاحتياطي أو بإطالة مدته إلا إذا تبين من عناصر وظروف واضحة أنه يعد الوسيلة الوحيدة لتحقيق هدف أو أكثر من أهداف الحبس الاحتياطي، وأن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها في حالة الخضوع للرقابة القضائية والالتزام بالبقاء في المسكن مع الخضوع للرقابة الإلكترونية”.

 

خاتمة وتوصيات

بناءً على ما سبق وانطلاقًا من أن قانون الإجراءات الجنائية ما هو إلا مرآة طبيعية لدرجة احترام الحرية الشخصية، والتي تكتسب حمايتها من الدستور والقانون، فقد وجب أن نتعلم من التشريعات الأخرى وأن نسبقها في احترام المواطن ونحافظ على حقوقه وحرياته وألا نسمح بالافتئات عليها إلا من خلال القانون في ضوء ما نص عليه الدستور.

وإن كنا نرى استحداث نظام جديد للحبس الاحتياطي، أولًا: بأن يصدر عن قضاة مستقلين عن الاتهام أو التحقيق، ثانيًا: أن يكون نظام الرقابة القضائية والإلكترونية هو الأصل على أن يكون الحبس الاحتياطي بديلًا.

وتوصي مؤسسة حرية الفكر والتعبير بتعديل بعض مواد قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950 الخاصة بالحبس الاحتياطي، كما يلي:

  • تعديل نص المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية لتكون: “يجوز لقاض التحقيق، بعد استجواب المتهم، إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة معاقبًا عليها بالحبس لمدة لا تقل عن سنة، والأدلة عليها كافية، أن يصدر أمرًا بحبس المتهم احتياطيًّا، وذلك إذا توافرت إحدى الحالات أو الدواعي الآتية: خشية الإضرار بمصلحة التحقيق سواء بالتأثير على المجني عليه أو الشهود، أو بالعبث في الأدلة أو القرائن المادية، أو بإجراء اتفاقات مع باقي الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها”.

 

  • تعديل نص المادة 136 من قانون الإجراءات الجنائية لتكون: “يجب على قاضي التحقيق قبل أن يصدر أمرًا بالحبس أن يسمع أقوال النيابة العامة ودفاع المتهم. ويجب أن يشتمل أمر الحبس، على بيان الجريمة المسندة إلى المتهم والعقوبة المقررة لها، والأسباب التي بني عليها الأمر. ويسري حكم هذه المادة على الأوامر التي تصدر بمد الحبس الاحتياطي، وفقًا لأحكام هذا القانون. ويترتب البطلان على كل أمر يصدر مخالفًا لما سبق”.

 

  • تعديل نص المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية لتكون “إذا لم ينتهِ التحقيق ورأى القاضي مد الحبس الاحتياطي زيادة على ما هو مقرر في المادة السابقة، وجب قبل انقضاء المدة السالفة الذكر إحالة الأوراق إلى محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة لتصدر أمرها بعد سماع أقوال النيابة العامة والمتهم بمد الحبس مددًا متعاقبة لا تزيد كل منها على خمسة وأربعين يومًا إذا اقتضت مصلحة التحقيق ذلك أو الإفراج عن المتهم بكفالة أو بغير كفالة. ومع ذلك يتعين عرض الأمر على النائب العام إذا انقضى على حبس المتهم احتياطيًّا ثلاثة شهور وذلك لاتخاذ الإجراءات التي يراها كفيلة للانتهاء من التحقيق. ولا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطي على ثلاثة أشهر، ما لم يكن المتهم قد أعلن بإحالته إلى المحكمة المختصة قبل انتهاء هذه المدة، ويجب على النيابة العامة في هذه الحالة أن تعرض أمر الحبس خلال خمسة أيام على الأكثر من تاريخ الإعلان بالإحالة على المحكمة المختصة وفقًا لأحكام الفقرة الأولى من المادة (151) من هذا القانون لإعمال مقتضى هذه الأحكام، وإلا وجب الإفراج عن المتهم. فإذا كانت التهمة المنسوبة إليه جناية فلا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطي على خمسة شهور إلا بعد الحصول قبل انقضائها على أمر من المحكمة المختصة بمد الحبس مدة لا تزيد على خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة، وإلا وجب الإفراج عن المتهم. وفي جميع الأحوال لا يجوز أن تجاوز مدة الحبس الاحتياطي في مرحلة التحقيق الابتدائي وسائر مراحل الدعوى الجنائية ثلث الحد الأقصى للعقوبة السالبة للحرية، بحيث لا تتجاوز ستة أشهر في الجنح و سنة في الجنايات، وسنتين إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة هي السجن المؤبد أو الإعدام. وإلا وجب الإفراج عن المتهم.”.

 

  • إضافة مادة ترتب البطلان والإفراج الفوري على مخالفة مواعيد الحبس الاحتياطي سواء المتعلقة بإصداره أو نظر إمداده أو نظر استئناف قراراته.

 

  • تعديل المادة 206 مكررًا بحذف الفقرة الثانية من تلك المادة لتكون: “يكون لأعضاء النيابة العامة من درجة رئيس نيابة على الأقل _ بالإضافة إلى الاختصاصات المقررة للنيابة العامة _ سلطات قاضي التحقيق في تحقيق الجنايات المنصوص عليها في الأبواب: الأول والثاني والثاني مكررًا والرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، ويكون لهؤلاء الأعضاء من تلك الدرجة سلطات قاضي التحقيق فيما عدا مدد الحبس الاحتياطي المنصوص عليها في المادة (142) من هذا القانون، وذلك في تحقيق الجنايات المنصوص عليها في الباب الثالث من الكتاب الثاني من قانون العقوبات”.

 

  • تعديل المادة 43 من قانون الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 بحذف النص الخاص بمنح النيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة السلطات المقررة لمحكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة لتصبح: “تكون للنيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة، بحسب الأحوال، أثناء التحقيق في جريمة إرهابية، بالإضافة إلى الاختصاصات المقررة لها قانونيًّا، السلطات المقررة لقاضي التحقيق، وذلك وفقًا لنفس الاختصاصات والقيود والمدد المنصوص عليها بالمادة (143) من قانون الإجراءات الجنائية”.

 

  • إضافة مادة تقضي بالتعويض عن فترات الحبس الاحتياطي.

للاطلاع على نسخة ال PDF، اضغط هنا

مراجع

(1) تقديم دكتور أحمد فتحي سرور لكتاب الحبس الاحتياطي في التشريع المصري، القاضي: سري محمود صيام نائب رئيس محكمة النقض، دار الشروق، طبعة 2007، ص 8.

(2) شرح القواعد العامة للإجراءات الجنائية د: عبد الرؤوف مهدي، تأليف: نادي القضاة، طبعة 2003 ص 367.

(3) تقديم دكتور أحمد فتحي سرور لكتاب الحبس الاحتياطي في التشريع المصري، القاضي: سري محمود صيام نائب رئيس محكمة النقض، دار الشروق، طبعة 2007 ص 8.

(4) شرح الدكتور: أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، الكتاب الأول، دار النهضة العربية، طبعة 2014 ص 1003.

(5) المرجع السابق.

(6) دكتور: عبد الرؤوف مهدي في شرح القواعد العامة للإجراءات الجنائية – نادي القضاة – طبعة 2003 ص 373، كما أشار بنفس المرجع إلى رأي الدكتور المرصفاوي – أصول الإجراءات الجنائية 1996 ص 424 حيث قال: "الحبس الاحتياطي هو حبس أجيز استثناءً بغير حكم ولكن بقرار من المحقق فلا أقل أن يكون مستندًا في نظر هذا المحقق إلى أدلة واضحة فإن لم يكن الأمر كذلك، فلا ضير من تقديم المتهم إلى المحاكمة وهو مفرج عنه، لتقضي المحكمة في شأنه بما تشاء.

(7) دكتور: عبد الرؤوف مهدي، المرجع السابق ص 373.

(8) الدكتور: أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، الطبعة السابعة، 1993، ص 599.

(9) شرح الدكتور: أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، الكتاب الأول، دار النهضة العربية، طبعة 2014 ص 1007.

(10) د: أحمد فتحي سرور، المرجع السابق، ص 610.

(11) د: أحمد فتحي سرور، المرجع السابق، ص611.

(12) القاضي: سري محمود صيام نائب رئيس محكمة النقض، دار الشروق، طبعة 2007، ص 67.

(13) الدكتور: عبد الرؤوف مهدي، المرجع السابق، ص 377.

تابعونا على :

آخر التحديثات

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.