دلالات شطب الرسائل العلمية

في نهاية ديسمبر 2015 نشرت الصحف أخبارا عن قرارات لجامعة قناة السويس بشطب رسالتين علميتين في مجال العلوم السياسية، تناولت الأولى  “الديمقراطية بين الفكر والممارسة لدى الإخوان المسلمين والسلفيين: دراسة تحليلية لحزبي الحرية والعدالة والنور”، بينما كانت الثانية عن “الإخوان المسلمون وانتخابات مجلس الشعب المصري 2005”. وتضمنت الأخبار تصريحات لمسؤولين بالجامعة تبرر القرار بتعارض الرسالتين مع “النظام العام للدولة” و”أحكام القضاء”، وخبر إيقاف المشرف الرئيسي عن الرسالتين عن التدريس وإحالته للتحقيق.

بالطبع يمكن للرسائل العلمية أن تشطب – في أي مرحلة من مراحلها – إذا تجاوزت قواعد وأخلاقيات البحث والكتابة والأمانة الأكاديمية أو القوانين المنظمة للمؤسسات التعليمية، أما أن يتم هذا بحجة أن الكيان السياسي موضوع البحث تم حظره في القضاء فهذا أمر غير مسبوق، ولم نسمع عن حظر دراسة الخصوم السياسيين أو المخالفين في الرأي أو الدول المعادية في أي دولة من دول العالم المعاصر. وكما قررت جمعيات حقوقية مختلفة، فإن قرار الشطب يتعارض مع الدستور والقانون واللوائح المنظمة للجامعات في مصر، والتي لا تسمح ولا تجيز للجهات الإدارية شطب الرسائل العلمية لأسباب سياسية، كما ليس في القانون واللوائح ما يجيز، أو يفهم منه، أحقية الجهة الإدارية في شطب رسائل علمية لمجرد أن المادة موضوع الرسالة لها علاقة بحكم قضائي بحظر الكيان محل البحث.

وبعيدا عن هذه الأبعاد السياسية والقانونية التي تحتاج مقالا خاصا بها، يمثل صمت المجتمع الأكاديمي مشكلة في حد ذاته، فقد كان يمكن أن يستخدم هذا الحدث – الذي ينتهك القانون والحريات الأكاديمية – من قبل هذا المجتمع بجميع أطرافه (إدارات الجامعات والكليات وأعضاء هيئات التدريس ونواديهم بل والطلاب أيضا) لطرح ومناقشة كافة الجوانب الأكاديمية والعلمية والمنهجية للإشراف على الرسائل العلمية وارتباطها بمجمل المنظومة التعليمية. وهنا يمكن الحديث عن أربعة أمور:

– أولا: القانون رقم 49  لسنة 1972 هو وحده الذي يحدد قواعد وإجراءات كافة مراحل الرسائل العلمية، ويجب التقيد بهذه النصوص وتفعيلها. ويوضح هذا القانون قواعد وإجراءات تسجيل رسائل الماجستير والدكتوراه وإلغاء التسجيل عبر موافقة مجلس الدراسات العليا والبحوث بناءً على طلب مجلس الكلية أو المعهد بعد أخذ رأي مجلس القسم المختص. ويوضح القانون بعض الضوابط الأخرى مثل موافقة الجامعة على تسجيل الطلاب بمرحلة الماجستير والدكتوراة.

وتحدد اللائحة التنفيذية بعض الإجراءات الأخرى مثل تعيين المشرف على الرسالة، وتقديم المشرف على الرسالة تقريرا سنويا عن تقدم الطالب في دراسته إلى مجلس القسم، وتقديم المشرف بعد الانتهاء من الرسالة تقريرا آخرا مشفوعا باقتراح تشكيل لجنة الحكم على الرسالة، ثم تشكيل اللجنة لمناقشة الرسالة، ثم صياغة رأي اللجنة بقبول أو رفض الرسالة في تقارير علمية. وتحدد اللائحة التنفيذية الحالة الوحيدة التي يمكن فيها إلغاء قيد الطالب وذلك عن طريق مجلس الدراسات العليا والبحوث بعد اقتراح من مجلس الكلية بناءً على تقارير المشرف على الرسالة.

بمعنى أن قواعد التسجيل والمناقشة أو إلغاء الرسالة، تعتمد حصرا على تقارير المشرف، التي من المفترض أن تسنتد إلى قواعد وضوابط علمية محددة. وتصدر قرارات مجالس الجامعة بشأن قرار إلغاء الرسالة، استنادا إلى تقارير المشرف، ودون أي تدخل من أي جهة إدارية أو سياسية غير متخصصة في الحقل المعرفي موضوع الرسالة.

– ثانيا: هذه القواعد بمفردها أصبحت غير كافية لسببين على الأقل، الأول أنها جاءت في القانون بشكل عمومي وتفتقد الآليات التي تجعلها فعّالة وتربطها بمعايير تقييم الأداء لأعضاء هيئة التدريس. أما السبب الثاني فهو أن الممارسة أنتجت – عبر عقود من الإرتجالية والعشوائية وتحكم الاعتبارات الشخصية والتدخل الأمني والسياسي – العديد من الظواهر السلبية التي تحتاج إلى معالجات جذرية، كتجاوز بعض الطلاب لقواعد البحث والكتابة وانتشار السرقات العلمية، أو تعنت بعض المشرفين وضعف طرق الرقابة وتقييم الأداء، أو تقديم الاعتبارات الشخصية على الاعتبارات العلمية والموضوعية.

إن ارتباط تفاصيل قواعد الرسائل العلمية بضمير الطرفين من طلاب وأساتذة أمر جيد، وربما كان صالحا في فترات زمنية سابقة، أما اليوم فهناك حاجة إلى تعزيز هذا الضابط الضميري ولا سيما في ضوء فشل المنظومة التعليمية وقصور كل محاولات الإصلاح في العقود الأخيرة.

– ثالثا: إن المجالات التي يجب أن تمتد لها منظومة الإصلاح بشأن الرسائل العلمية مجالات متعددة ولا يمكن حصرها في هذه المساحة. وهي تتطلب فرق عمل متخصصة حسب الحقول المعرفية المختلفة بحيث يتم ربط قواعد وضوابط هذه المنظومة بمتطلبات وخصوصيات كل حقل معرفي في كافة فروع المعارف الطبيعية والاجتماعية والإنسانية. ومن هذه المجالات على سبيل المثال لا الحصر:

– مدى إلتزام كافة الأطراف بمعايير الأمانة العلمية والنزاهة الأكاديمية.

– مدى إلتزام الطالب بخطة البحث والمعايير المنهجية المستخدمة.

– المعايير الشكلية للرسائل وطرق الكتابة والعرض والإخراج والتوثيق.

– معايير اختيار المشرفين والمناقشين للتأكد من تخصص وكفاءة وأهلية وحيادية ونزاهة وإنصاف المحكمين أنفسهم.

– معايير تحييد الاعتبارات الشخصية.

– معايير متابعة العمل البحثي للطلاب ومدى تقدمهم في القراءة والكتابة أولا بأول.

– موضوعية عملية التقييم والمناقشة والتحكيم من حيث هي عمليات تقويم موضوعية نقدية ولا يمكن تصور وجود عمل علمي رصين بدونها.

– معايير الحكم على الرسائل حسب معايير علمية محددة ويمكن قياسها وذلك من حيث النواحي العلمية والمنهجية، والشكل والإخراج، والجوانب المتعلقة بالباحث ذاته.

– معايير الإستفادة من البحوث وربطها بخطة وطنية عامة.

– تحقيق المساواة والعدالة في التعامل مع كافة الطلاب والأساتذة وفي جميع الحالات في النواحي الإجرائية والإدارية.

– وضع نظم للتنسيق والمتابعة وضمان التقيد بكل هذه الضوابط وربطها بتقييم الأداء والأجور والمكافآت.

– رابعا: إن وضع منظومة من القواعد والآليات والضوابط التفصيلية لعملية الإشراف على الرسائل العلمية والبحوث في الجامعات المصرية لابد أن تكون جزءًا لا يتجزأ من منظومة جديدة للتعليم بشكل عام في مصر من النواحي الأكاديمية والعلمية، والإدارية والمالية، وحسب أيضا خطة وطنية شاملة للإستفادة من العنصر البشري وتكامل جهود بقية المؤسسات الرسمية والمجتمعية في هذا الإطار.  لقد ثبت بالتجارب المتكررة أن الإصلاحيات الجزئية أو المكاسب الصغيرة هنا أو هناك عمرها قصير وفعاليتها ضعيفة، كما أنه يمكن الإطاحة بها في ظل نوعية نظام الحكم الذي تعيشه البلاد منذ عقود طويلة والذي لا يحترم الدستور ولا القانون، ولا يقيم دولة المؤسسات والرقابة والشفافية، ولا يفتح المجال أمام تمكين الأفراد والمجتمع والإستفادة من الكفاءات والخبرات الوطنية في الداخل والخارج.

كما أن وضع هذه المنظومة الجديدة لابد أن يكون على يد أصحاب الشأن أنفسهم من الأساتذة والباحثين والطلاب، وبالإستفادة من كافة الخبرات والكفاءات الوطنية والدولية ودون تدخل أي أجهزة أمنية أو إدارية.

وفوق كل ما تقدم، يمثل قرار شطب الرسائل العلمية انتهاكا صارخا للحرية اﻷكاديمية، فحسب المعايير الدولية المتعارف عليها يجب أن تظل عملية تقييم أداء أساتذة الجامعات في يد زملائهم من أساتذة الجامعات تحديدا، دون تدخل من أي جهة إدارية، وبعيدا عن التدخل السياسي تماما. كما أن مسألة إستقلال الجامعة التي نناضل من أجلها منذ عقود طويلة مسألة وجودية بالنسبة للجامعات المصرية ولن تخرج هذه الجامعات من مشكلاتها، إلا بتحقيق استقلال تام للجامعة عن السلطة التنفيذية وخضوع المؤسسات التعليمية – مثلها مثل بقية مؤسسات الدولة الرسمية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى – إلى دستور ديمقراطي حقيقي وفعال بكافة قيمه المتعارف عليها بما في ذلك أدوات الرقابة والمحاسبة القضائية والبرلمانية.

*عبد الفتاح ماضي، أستاذ مساعد العلوم السياسية – جامعة الإسكندرية، وأستاذ زائر بمركز ودرو ويلسون بواشنطن

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.