فاعل مجهول ! العنف الجماعي كأداة لتقييد حرية التعبير

تاريخ النشر : الثلاثاء, 27 ديسمبر, 2016
Facebook
Twitter

للإطلاع بصيغة PDF

قام بإعداد الورقة الباحث محمد عبد السلام، وأعد الاحصائيات الباحث وسام عطا

مقدمة

يدور النقاش العام بشأن حالة حرية التعبير في مصر حول مواقف مؤسسات الدولة على المستويات التنفيذية والأمنية والدينية والتشريعية، حيث ترتبط  أنماط انتهاكات حرية التعبير بشكل رئيسي بأداء هذه المؤسسات وتوجهاتها، بدءا من تصريحات لمسئولين على رأسهم رئيس الجمهورية تظهر شكلا من الضيق والضجر من تعبير وسائل الإعلام والقوى السياسية عن الرأي، وصولا إلى نصوص قانونية وأحكام قضائية تزج في حالات عديدة بالمواطنين إلى السجن، فقط لأنهم عبروا عن آراء اعتبرتها الدولة تجاوزا للقيم والأخلاقيات العامة. من هنا انصبت المساعي الحقوقية على نقد البنية التشريعية التي تتيح إصدار العقوبات على المواطنين لتعبيرهم الحر عن الرأي، وعلى توثيق ممارسات المؤسسة الأمنية في تقييد حرية التعبير كملاحقة النشطاء والمواطنين من خلال مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك على كشف أوجه لمعاداة المؤسسة الدينية الرسمية لحرية التعبير، منها عدم السماح بالتعبير عن معتقدات مذهبية مختلفة، وما يعرف بقضايا ازدراء الأديان.

وقد تناولت مؤسسة حرية الفكر والتعبير هذه السياسات والممارسات المعادية لحرية التعبير من خلال تقاريرها وأبحاثها المنشورة خلال السنوات الماضية، وكذلك لم تغفل التطرق إلى تأثير العنف الجماعي الذي تقوم به مجموعات من المواطنين، والمواقف المختلفة لشرائح من المجتمع التي تسهم في تقييد حرية التعبير. ويمكن القول أن تصاعد أصوات من داخل المجتمع  تدعو لتقييد حرية التعبير وتستهدف منع أشخاص أو مجموعات بعينها من الكلام بمثابة خطورة لا ينبغي تجاهلها أو التقليل من شأنها، خاصة وأن تطورات كثيرة ساهمت في تطبيع ممارسة العنف كبديل للحوار كوسيلة لإسكات الآراء غير السائدة في المجتمع.

وعادة يربط البعض العنف الجماعي ضد الأفراد والمجموعات بما يرونه “حدودا” لحرية التعبير، و إذا تجاوز أحدهم هذه الحدود، يصبح من حق “الأمناء” على تلك الحدود أن يلقنونه الصواب باستخدام العنف  وتعريض سلامته الشخصية للخطر. وهكذا أصبحت حرية التعبير في مرمى استهداف الدولة وشرائح مجتمعية في آن واحد، ومن ثم تظهر الدعوات لضرورة تدخل الدولة لعقاب أشخاص عبروا عن آرائهم.

وعلى جانب آخر تمتد المخاطر إلى طبيعة فهم مجموعات سياسية واجتماعية – من بينها المجموعات المؤمنة بقيم الديمقراطية – لمسألة الدفاع عن حرية التعبير، إذ تنظر هذه المجموعات لقضايا التضامن مع ضحايا انتهاكات حرية التعبير، وفقا لتحيزات سياسية وفكرية مسبقة. من هنا يُنحى النظر لحرية التعبير كحق يتمتع به جميع المواطنين. ويبدو في النهاية أن كلً يدافع عن حريته وغيره في التعبير عما يتحيز له، ويسعى لمصادرة آراء الآخر وإسكاتها، أو الاعتداء عليه إن لزم الأمر.

تساعد هذه التوجهات على ترسيخ تدخل مؤسسات الدولة لتقييد حرية التعبير، وتضعف حالة التضامن مع الضحايا ممن يتعرضون للانتهاك، ولا يمكن كسر تلك الحالة من العداء لحرية التعبير في المجتمع دون فتح نقاش جاد ومستمر حولها، وهذا ما تتبناه مؤسسة حرية الفكر والتعبير في عملها نحو ترسيخ الإيمان بحق جميع المواطنين في التعبير عن الرأي. وتأتي هذه الورقة امتدادا لهذا الدور من واقع الجدل العام الذي دار حول مشاهد الاعتداء الجماعي على عدد من الإعلاميين أمام الكنيسة البطرسية، عقب الهجوم الإرهابي على مبنى الكنيسة، والذي سقط ضحيته عشرات المواطنين بين قتيل ومصاب.

تكرار العنف الجماعي: ما قبل مشهد الكنيسة

وقع انفجار عنيف في الكنيسة البطرسية صباح الأحد 11 ديسمبر الجاري. ينتشر الخبر وتهتم وسائل اﻹعلام بعرض تفاصيله، من عدد الضحايا إلى بدء التحقيقات واستطلاع آراء المتخصصين في الأمن، يتجمع عشرات من ذوي الضحايا والمواطنين أمام الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وسط حالة من الصدمة.[1] يزداد الاهتمام بالحادث وتنقل وسائل الإعلام بيانات إدانة الهجوم الإرهابي.

يبدو أن هناك خبر يختلف قليلا عن السياق يتم تداوله بكثافة في المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي يتعلق بالاعتداء على بعض الإعلاميين أمام الكاتدرائية، أبرزهم الإعلامية لميس الحديدي، مقدمة برنامج هنا العاصمة على قناة سي بي سي، والإعلامي أحمد موسى والإعلامية ريهام سعيد. ويتم تداول فيديو موضح للاعتداء الهمجي، الذي قام به عشرات من المتجمعين أمام الكنيسة على الإعلامية لميس الحديدي، اعتداءات بالضرب والدفع، وسط محاولات بعض الشباب وقف الاعتداء. [2]

حظيت المقاطع المصورة لتلك الاعتداءات على الإعلاميين الثلاثة بمتابعة واسعة من جانب وسائل الإعلام ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وإن كان الاعتداء على الاعلامية لميس الحديدي هو الأكثر عنفا. تظهر الحديدي في برنامجها مساء نفس اليوم. “انهارده انا تعرضت شخصيا أنا وزملائي الحقيقة تعرضنا لعنف أمام الكاتدرائية تعرضنا للضرب أمام الكاتدرائية انا كنت رايحة اعمل دوري واعمل شغلي”، هكذا روت الحديدي ما تعرضت له، وأكدت أن ما حدث لها “غير مسبوق” على طول خبرتها في العمل الإعلامي.[3]

ينبغي التوقف هنا أمام سؤال: هل مشاهد العنف الجماعي التي تعرض لها الإعلاميون أمر غير مسبوق ؟

قبل ما يقرب من ثلاث سنوات وقع هجوم إرهابي استهدف مديرية أمن القاهرة باستخدام سيارة مفخخة، تحديدا صباح يوم 24 يناير 2014. سقط عدد من الضحايا وحدثت تلفيات بمبنى المديرية، ومبان مجاورة لها. سعى الصحفيون إلى تغطية الهجوم الإرهابي، انتقلت أطقم إعلامية إلى موقع الحادث. كان بين هؤلاء طاقم القناة الأولى الألمانية، والذي تعرض لعنف جماعي من جانب مجموعة من المواطنين الغاضبين بسبب الهجوم الإرهابي، ربما لم تحظ هذه الواقعة باهتمام يذكر، ﻷن المواقع الإخبارية في مصر لم تسلط الضوء عليها.

أوردت القناة الأولى الألمانية تقريرا عن الاعتداء الذي تعرض له طاقمها على موقعها الإلكتروني،[4] حمل شهادة مصور القناة بالقاهرة مارتين كرويجر Martin Krüger، والتي جاء بها:

“سمعنا بوقوع انفجار وذهبنا على الفور إلى مكان الانفجار في منطقة باب الخلق، وتعرضنا مباشرة بعد وقوف سيارتنا هناك، إلى السباب التي أطلقها عدد كبير من الأشخاص، وكانت الأجواء صاخبة والمواجهة ضد الذين أتوا من خارج الحي. وبعد أن قطعنا مسافة 50 مترا، أوقفنا عشرات السكان وسألنا شخص ليس له صفة رسمية: مع أي وسيلة إعلام تعملون ؟ وهل حصلتم على تصريح بالتصوير. وعندما أجبنا بأننا نعمل لصالح التلفزيون الألماني ونحمل تصريحا، تعرضنا للضرب من جميع الجهات وخاصة على الرأس، واتهمونا بأننا “خونة”، و “داعمين للإرهاب”، وحاولنا تهدئة الأمور والعودة على الفور، وقلنا لهم ” اتركونا نذهب في هدوء”، وتراجعنا بعد ذلك. إلا أن هؤلاء العامة تتبعونا وباتوا أكثر عدوانية، وامسكوا بنا وأحاطونا من كل جانب، وحينئذ فقدت القدرة على رؤية ما يحدث لزميلي الآخرين المنتج والسائق”.

يضيف المصور “حاول ما يقرب من 30 شخصا اقتيادي إلى جراج مفتوح، وفي هذه الأثناء تلقيت ضربات في الرأس والبطن والظهر، وحاول أحدهم إسقاطي أرضا. وعندما استطاعوا إدخالي إلى الجراج، تصورت أنه لن يتمكن أحد من مساعدتي. تعرضت خلال فترة احتجازي بالجراج إلى الضرب بوحشية، وأمسكوا بي من الخلف بحيث عجزت عن التنفس بشكل طبيعي. بعد ذلك بقليل رأيت رجلا يحمل بندقية ولم اتبين هل هو أحد هؤلاء العامة أم لا ؟ أطلق الرجل الرصاص في الهواء. وفي الواقع بعد طلقتي رصاص تراجع هؤلاء الأشخاص إلى الوراء، وتركني الرجل الذي أمسكني من الخلف، وهنا أصبحت قادرا على الحركة. تبين لي أن الرجل الذي أنقذني من الشرطة المدنية، وقد أبعد عني هؤلاء، وخرجنا من الجراج إلى الشارع، ولكنهم تعقبونا أيضا وضربونا مرة أخرى، قبل أن ينقذنا في اللحظة الأخيرة شخصان يقودان دراجات بخارية، مرا من المكان صدفة”.

 يكمل مصور القناة الأولى الألمانية شهادته: ” استطعنا الوصول لقسم الشرطة وهناك سجل أحدهم بياناتي الشخصية، وقال لي الشرطي الذي أنقذني ” لو أنهم أمسكوا بنا لقتلونا”. وأكمل المصور شهادته بشرح ما تعرض له المنتج والسائق الذين التقى بهم لاحقا، والجروح التي أصابتهم جميعا، والمعدات التي تم سرقتها منهم.

ثمة قدر من التشابه بين الواقعتين، من حيث وقوع هجوم إرهابي، والسعي لتغطيته، ثم تجمع حشود تسيطر عليها مشاعر سلبية تجاه الإعلام، وأخيرا الاعتداء على الصحفيين والإعلاميين. وتمر الواقعة دون معرفة الفاعلين أو المبادرة إلى التحقيق فيها. ولا يمكن إنكار أهمية البحث في الدوافع والظروف التي تمهد لهذه الاعتداءات، فعلى سبيل المثال، ربما أدى تصاعد الخطاب المعادي للأجانب في السنوات الأخيرة إلى تشكك شرائح واسعة من المواطنين في الصحفيين الأجانب، وقد يكون لتراجع مهنية بعض وسائل الإعلام في تغطية القضايا الاجتماعية والسياسية دورا في إضعاف ثقة المواطنين باﻹعلاميين المعروفين، وإذا كان هناك غياب لدور اﻷمن في حماية الصحفيين، أو بشكل آخر إذا كانت الأجهزة الأمنية نفسها تمارس انتهاكات تجاه الصحفيين، فإن هذه الدوافع والظروف تمنح الفرصة لحشود غاضبة لكي تمارس العنف الجماعي ضد الاعلاميين والصحفيين. ولكن مع أهمية فهم هذه الدوافع ينبغي التركيز على واقع العنف الجماعي الذي يمارس ضد الصحفيين ومدى ارتباط ذلك بطبيعة فهم شرائح المجتمع لحرية التعبير، وما يمكن أن يكون عليه شكل التضامن اللازم من المؤمنين بالحريات وحكم القانون مع ضحايا انتهاكات حرية التعبير.

تشير الإحصائيات التي قامت بها وحدة الرصد والتوثيق في مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى تكرار الاعتداءات على الصحفيين والإعلاميين بغرض منعهم من أداء عملهم، وتشمل: الاحتجاز غير القانوني، إصابة بطلق ناري أو خرطوش، التعدي بالضرب أو اﻹصابة، الاستيلاء على معدات التصوير وتكسيرها أو مسح ما عليها، والمنع من أداء العمل، وبلغ إجمالي الحالات التي وثقتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير في هذه الفترة 272 حالة، تتصدرها حالات التعدي بالضرب أو اﻹصابة والتي بلغت 128 حالة، إضافة إلى 6 حالات إصابة بطلق ناري أو خرطوش، ما يعني أن الاعتداء على الصحفيين والإعلاميين من جانب المواطنين المدنيين يعد أمرا متكررا.

انتهاكات قام بها المدنيين ضد الصحفيين من 30 يونيو 2013 – 25 يونيو 2016

احتجاز غير قانوني

33

إصابة بطلق ناري أو خرطوش

6

التعدي بالضرب أو إصابة

128

الاستيلاء على المعدات وتكسيرها أو مسح ما عليها

57

منع من أداء العمل

48

الإجمالي

272

الاحتفاء بالعنف الجماعي: هل نؤمن بحرية التعبير كحق ؟

جذب الاعتداء على الإعلاميين في محيط الكاتدرائية اهتمام مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي وأبرزها فيسبوك. وجاءت كثير من التعليقات تحتفي بالعنف الذي مورس ضد الإعلاميين، واعتبر البعض أن “تأييد هؤلاء الإعلاميين للنظام السياسي الحاكم” يعد – من وجهة نظرهم – سببا مقبولا للإعتداء على الإعلاميين. بينما تمركز جانب آخر من التعليقات حول مضمون خطاب “تبرير العنف ضد بعض المواطنين”، الذي يتهم هؤلاء الإعلاميين بتقديمه، ومن ثم فإنه من العدل أن يذوقوا من نفس الكأس، بحسب هذه التعليقات.

وفي هذا الإطار كانت الأصوات التي تندد بالاعتداء على هؤلاء الإعلاميين قليلة، منها أحد الحقوقيين المعروفين، والذي اعتبر أن التضامن مع الإعلامية لميس الحديدي يجب أن يكون بدون أي تحفظ، وأنها لم تكن مسئولة عن الهجوم على الكنيسة حتى يلاحقها البعض ويعتدون عليها، وربما فتح ذلك الباب إلى مهاجمة الأصوات الرافضة لاستخدام العنف بدعوى أن هؤلاء لديهم “منظور حقوقي” وطالما أن أصحاب التعليقات التي تحتفي بالاعتداء لا يتفقون مع هذا المنظور الحقوقي، يصبح الاحتفاء بالاعتداء على الإعلاميين أمرا مقبولا، طبقا لهذه التعليقات ! بينما أقر بعض أصحاب هذه التعليقات بأنهم يدركون خطورة العنف الجماعي، ولكنهم لا يستطيعون منع أنفسهم من التشفي في هؤلاء الإعلاميين – بحسب تعليقاتهم -.

باستثناء ذلك الصوت الضعيف الذي رفض الاعتداء بتجرد – دون ربط إدانة الاعتداء بسياقات أخرى – كانت غالبية النقاشات مثيرة للقلق على نحو كبير، فهناك من يرى العنف شكلا مقبولا للتعبير عن الغضب، وهناك من يرفض العنف ولكن لديه استعداد لقبوله طالما تعرض له المخالفين لآرائه وتوجهاته.

 يستوجب ذلك التوقف أمام الأطر التي تنظم الحق في حرية التعبير، وإذا ما استعرضنا مواد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، فإن لكل إنسان الحق في اعتناق الآراء دون مضايقة، ولكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها، وفقا للمادة (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية،[5] ويتطرق العهد إلى القيود التي يمكن فرضها على حرية التعبير شريطة أن ينظمها القانون ويتوافر لها شرط الضرورة، ولعل من الضروري الإشارة إلى النقاش حول حرية التعبير وخطابات التحريض على العنف، بمعنى أدق متى يتم معاقبة شخص على الكلام وما المعايير التي تنظم ذلك،[6] وعلى أي حال، مازال الجدل حول ما يطرحه البعض من “حدود لحرية التعبير” مستمرا، ما بين “الحق المطلق في حرية التعبير”، والتوازن بين حرية التعبير وحقوق الإنسان الأخرى.[7]

إن الإشارة إلى حالة الجدل حول مفهوم حرية التعبير مهمة في سياق مناقشة العنف الجماعي الذي يهدف إلى تقييد حرية التعبير، فإذا كان هناك محل لرفض البعض وجود حق مطلق في حرية التعبير، وإذا كان هناك سعي لتنظيم قانوني لما لا يمكن اعتباره مندرجا تحت نطاق حرية التعبير، فإن ذلك الجدل لا يعني أن يتم استبدال الحوار ووسائل الاحتجاج السلمي باستخدام العنف. ومن ثم لا يستقيم توجيه نقد لخطابات الإعلاميين المعتدى عليهم بدعوى تحريضهم على العنف مع أن يتم استخدام العنف والاعتداء البدني ضد هؤلاء الإعلاميين من جانب منتقديهم، لأن ذلك يخرج بالمجتمع إلى مساحة شديدة الغوغائية  يتراجع فيها الالتزام بقيم سيادة القانون وحقوق الإنسان، ويفقد فيها المجتمع الأدوات السلمية لإدارة النقاش والخلاف.

إن تأثير العنف الجماعي لا يتوقف فقط عند انتهاك الحق في حرية التعبير، فإذا كان البعض يرى في تأييد النظام موقفا يستحق من يتخذه أن يتم إسكاته، فذلك بمثابة انتهاك للحق في حرية التعبير. أما عن الأفعال ذاتها التي تظهرها الإحصائية المتعلقة بالاعتداءات على الصحفيين والإعلاميين، فإنها تظهر انتهاكا لجملة من الحقوق الأخرى، ما بين الحق في الحياة والحق في سلامة الجسد، وقد أورد العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، أنه لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، وفق المادة (7)، ولكل فرد حق في الحرية وفى الأمان على شخصه، وفق المادة (9) من العهد. وهكذا أيا ما كانت المواقف من تقييم الأداء الإعلامي أو أية أفكار مطروحة، فلا يجوز أن يمتد الأمر  إلى تأييد الاعتداء البدني أو التعذيب أو الاحتجاز غير القانوني أو تعريض الحق في الحياة للخطر.

ولا يتوقف التأثير السلبي لعدم إدانة العنف الجماعي ضد الصحفيين والإعلاميين عند هذا الحد، بل يمتد إلى المجتمع ككل، فالتعامل مع الحق في حرية التعبير بانتقائية، يضعف من التضامن اللازم حتى يتم ضمان حرية التعبير في التشريعات والممارسات المختلفة. وإذا كان من السهل على مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة أن توافق على تقييد حرية التعبير طالما ينعكس ذلك على “الآخر” فإن ذلك يعني ببساطة أن حالة حرية التعبير في المجتمع ستواصل التراجع، وهذا يقود أيضا إلى إسكات الأصوات شيئا فشيئا إلى الحد الذي يصبح فيه الكلام أمر غير مقبول سواء من المجتمع أو الدولة.

خاتمة

تصاعد خطابات معاداة حرية التعبير وتأييد استخدام العنف ينذر بمزيد من التشجيع المجتمعي للممارسات المعادية للحق في حرية التعبير. لذلك من الضروري أن تضطلع وسائل الإعلام والأحزاب السياسية والنقابات والمجتمع المدني بدور كبير في فتح نقاش عام عن أهمية الدفاع عن حرية التعبير، ومدى تأثير ذلك على توفير بيئة ملائمة للمشاركة السياسية ودعم مشاركة المواطنين في العمل العام، وتقييم أداء الحكومة. وعلى القوى السياسية أن تزيد من اهتمامها بالدفاع عن الحق في حرية التعبير، وفتح نقاشات مع كوادرها، لفهم الظروف والدوافع المختلفة التي تؤدي إلى تهميش الحق في حرية التعبير.

إن مؤسسة حرية الفكر والتعبير باعتبارها معنية بدراسة مثل هذه القضايا تعتزم مواصلة نشر الأوراق والتقارير والاحصائيات التي تسلط الضوء على رؤية المجتمع للحق في حرية التعبير، لما لذلك من أهمية كبيرة في ترسيخ الدعم لحرية التعبير والتضامن مع ضحايا الانتهاكات المرتبطة بها، وتدعو كافة المؤمنين بالحريات العامة إلى مواصلة العمل للدفاع عن حرية التعبير كحق لكافة المواطنين.


[1] أصوات مصرية، المئات يحتشدون أمام الكاتدرائية عقب انفجار الكنيسة البطرسية، بتاريخ: 11 ديسمبر 2016

http://www.aswatmasriya.com/albums/details/1039


[2] راجع مقاطع مصورة للاعتداءات، موقع RT عربي، بتاريخ: 11 ديسمبر 2016
https://arabic.rt.com/videoclub/853921-%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D9%8A-%D8%B1%D9%8A%D9%87%D8%A7%D9%85-%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9/


[3] اليوم السابع، لميس الحديدى: مجموعة مندسة حاولت الاعتداء على أمام الكنيسة و4 شباب تصدوا لهم، بتاريخ: 11 ديسمبر

http://www.youm7.com/story/2016/12/11/%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D9%89-%D9%85%D8%AC%D9%85%D9%88%D8%B9%D8%A9-%D9%85%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9-%D8%AD%D8%A7%D9%88%D9%84%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%B3%D8%A9-%D9%884/3006128


[4] ARD, Übergriff auf ARD-Team in Kairo, 24.01.2014
http://archive.li/sIpWH#selection-1347.7-1347.17

*ترجمه إلى العربية محمد عبد السلام


[5] راجع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، http://www1.umn.edu/humanrts/arab/b003.htm

انضمت مصر للعهد بموجب قرار رئيس الجمهورية، رقم 536 لسنة 1981 بشأن الموافقة على الاِتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/12/1966 والتي وقعت عليها جمهورية مصر العربية بتاريخ 4/8/1967. نشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 15 أبريل 1982، عدد 15


[6] راجع مؤسسة حرية الفكر والتعبير، خطابات التحريض وحرية التعبير “الحدود الفاصلة”، بتاريخ: 30 يوليو 2013
http://afteegypt.org/publications_org/2013/07/30/4688-afteegypt.html

تابعونا على :

آخر التحديثات

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.