ورقة موقف اليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة
تؤكد مؤسسة حرية الفكر والتعبير بمناسبة اليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة, الذي يوافق 24 مارس، على أهمية الحق وعلى أهمية سياسات الدولة المختلفة لتلبية هذا الحق، حيث إن «معرفة الحقيقة» هي اللبنة الأساسية لتحقيق مراحل العدالة الانتقالية “عدالة، محاسبة، إنصاف”، بل أن دور «معرفة الحقيقة» لا ينفك عن مراحل تشكيل وحفط ذاكرة وضمير المجتمعات، وينعكس ذلك بشكل أو بآخر على روايات التاريخ، مما يجعل الحق في معرفة الحقيقة بمثابة حق ليس فقط للفرد المضار أو الذي تم انتهاك حقه؛ بل للمجتمع أجمع، لأنه يمثل حافظ الإرث قومي التاريخي الذي لا يجوز المساس به أو تحريفه.
من هذا المنطلق, تعددت التدابير التي تتخذها الحكومات، والتي نصّت عليها تقارير دولية عدة لصيانة وضمانة الحق في معرفة الحقيقة، فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وفي هذه الورقة نكتفي بتناول 3 آليات أو إجراءات لصيانة الحق وهم:
- لجان الحقيقة/لجان تقصي الحقائق,
- نظم الأرشيف القومي.
- مواقع الضمير والذاكرة,
لجان تقصي الحقائق/لجان الحقيقة
فيما يتعلق بلجان تقصي الحقائق أنشأت الحكومات المتتابعة منذ ثورة 25 يناير 2011 أكثر من 10 لجان، بقرارات إما من قبل رئاسة الجمهورية أو المجالس النيابية أو المجلس القومي لحقوق الإنسان. لم يتم نشر سوى تقرير واحد من كل تلك اللجان, وهو تقرير اللجنة التي تناولت أحداث فض اعتصامي ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة، والتي تم تشكيلها من أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان، وتم نشر ذلك التقرير في منتصف شهر مارس 2014.
هنا يُطرح تساؤلًا.. لماذا امتنعت الجهات المسئولة عن نشر باقي التقارير التي من شأنها إظهار الحقيقة فيما يتعلق بالانتهاكات التي توالت منذ قيام الثورة وحتى قبل تولي محمد مرسي الرئاسة، في حين أنها قامت بنشر تقرير اللجنة التي حققت في أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة؟ من الجدير بالذكر أن هذا التساؤل لا يتعارض مع أهمية نشر تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان، المتعلق بأحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة، وأهمية نشر تقرير اللجنة الأخرى المشكلة بقرار من رئاسة الجمهورية للتحقيق في الأحداث التي وقعت بعد 30 يونيو.
علاوة على ذلك لم يتم الإفصاح عن آليات عمل تلك اللجان وميزانياتها، وهو ما يعد حجبًا لمعلومات أساسية نشرها يمثل مؤشرًا على شفافية واستقلالية اللجان المشكلة. والأجدى من ذلك أنه حتى الآن لم يتم ضم أي من تقارير تلك اللجان إلى ملفات قضايا الثورة, بالرغم من طلب المحاكم التي تداول تلك القضايا ضمها، مما يعد عائقًا وحجر عثرة أمام العدالة المرجوة والإنصاف الذي يستحقه ضحايا الثورة.
* * *
مواقع الضمير والذاكرة
على صعيد آخر, هناك دورًا محوريًا تقوم به مواقع الضمير والذاكرة – كالنُصب التذكارية والمتاحف الشعبية والأماكن التي تمت بها الانتهاكات- في تقدير بطولة ضحايا الصراعات والحروب والثورات والحفاظ على ذاكرة وضمير المجتمعات.
في هذا الشأن شيدت الحكومة المصرية موقعين للضمير والذاكرة على شكل نُصب تذكارية, أحدهما في ميدان رابعة العدوية، والتي قامت قوات الشرطة والجيش باسخدام القوة المفرطة في فضه وراح ضحيته العديد من القتلى والمصابين والمعتقلين؛ والآخر، تم تشييده يوم 19 نوفمبر 2013 في ميدان التحرير، في ذكرى أحداث شارع محمد محمود، والذي قام المتظاهرون ليلة إنشائه بتحطيمه، وكتابة الكثير من العبارات الموحية بأهمية القصاص والمحاسبة لدماء القتلى والمصابين، وانتفاء مصداقية النُصب التذكاري الذي شُيد تكريمًا لدور الشرطة في حماية المتظاهرين، في حين أن قوات الشرطة كانت موضع اتهام في تلك الأحداث.
وهنا يجب أن نبين أن مواقع الضمير والذاكرة تأتي بدورها في معرفة الحقيقة، من خلال الذاكرة والتذكر، في سياق شديد التشابك والتداخل مع حزمة من السياسات التي على الحكومات الأخذ بها، مع آلية إقامة النُصب التذكارية -تلك السياست تتمثل في المحاسبة, سياسات عدم الإفلات من العقاب, إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية التي قامت بدورها بأفعال الانتهاك, وغيرها- وإذا لم تأت الحكومات بتلك السياسات يدًا بيد مع إنشاء المواقع السالف ذكرها, فإن أخذ مواقع الضمير والذاكرة كآلية من آليات الحقيقة يتبدد هدفها ودورها, فتتحول المواقع من رمز لتكريم الضحايا والناجين وتخليد ذكراهم إلى موقع لتزيف الواقع وتبديد الحقيقة.
* * *
نظم الأرشيف القومي
أقر الخبراء استقاءً من التجارب الدولية المختلفة على أهمية وحيوية نظم الأرشفة القومية في فترات الصراع وما بعد الصراع، وهذا لأسباب عدة أهمها: حماية حقوق الضحايا والناجين، بضمان بيئة ملائمة للعدالة الجنائية من خلال الوثائق المحفوظة, استخدام تلك الوثائق للوصول إلى الحقيقة حول الانتهاكات التي وقعت, الحفاظ على ذاكرة وضمير المجتمع, ضمان عدم تكرار الانتهاكات والتعلم من الماضي.
في هذا السياق نصّ تقرير مفوضية حقوق الإنسان الصادر في أبريل 2011 على بعض من تلك الخبرات، كما أصدر المجلس الدولي للأرشيف في 24 أغسطس 2012 على مبادئ إتاحة الوثائق، وهم 10 مبادئ لتنظيم نظم الأرشيف القومي, نذكر منها المبدأ السادس:
“تضمن المؤسسات المعنية بحفظ المقتنيات الأرشيفية لضحايا الجرائم الخطيرة, بموجب القانون الدولي لإتاحة الوثائق, توفير الأدلة اللازمة لإثبات حقوقهم الإنسانية وتوثيق انتهكاتهم…”
في مصر لدينا جهة تحفظ الأرشيف تسمى “دار الوثائق التاريخية القومية”، والتي أنشئت بموجب قانون رقم 356 لسنة 1954، والجدير بالذكر أن هذا القانون يشوبه الكثير من العوار خاصة في ما يتعلق بتنظيم سرية الوثائق، فهو لا يحدد مدة واضحة لسرية الوثائق, ولا يحدد أسباب لسرية تلك الوثائق, كما أنه لا يوفر نظامًا واضحًا تلتزم به المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المختلفة لتسليم الوثائق، ورخاوة القانون تفتح المجال لحجب الكثير من المعلومات التي قد تمثل إرثًا قوميًا أو دليلًا يمكن الاستعانة به في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان وإثبات الحقيقة.
بالإضافة إلى إشكاليات دار الوثائق، فإن هناك تدابير استثنائية متعلقة بالأرشيف المؤسسات الحكومية؛ خاصة الجهات الأمنية، يجب على الحكومة اتخاذها في فترات الصراع وما بعد الصراع؛ من أهمها إنشاء هيئة مستقلة تنتزع الأرشيف من قبضة السلطات الأمنية، وتدقق في ما يحتويه من وثائق متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، وتجهيزها للتحقيق في تلك الانتهاكات، هذا بالإضافة لدورها الأساسي في حفظ تلك الوثائق.
* * *
خلاصة القول.. في غياب تلك الإجراءات والسياسات, نجد أنفسنا بصدد قانون لحفظ الوثائق “غير مهني” و”غير منضبط” في سياسات الحفظ والإتاحة, وليس لدينا هيئة مستقلة استثنائية تنتزع الوثائق الأمنية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في فترة الثورة منذ 25 يناير وحتى وقتنا هذا, كما نجد أن سياسات الحكومة فيما يتعلق بتشييد مواقع الضمير والذاكرة منفصلة عن حزمة إجراءات وسياسات العدالة الانتقالية، مما يجعلها مواقع لتزوير الذاكرة بدلًا من مواقع رمزية لتكريم الضحايا وحفظ التاريخ, ونجد أن السياسات المعلوماتية للجان تقصي الحقائق غير متاحة للجمهور، مما يطعن في استقلالية وشفافية اللجان, ونجد أيضًا أن تقارير اللجان لم يتم نشرها، بل تم نشر بعض من تقارير اللجان التي تتناول انتهاكات فصيل محدد، وحجب باقي التقارير التي تمد المجتمع بحقيقة انتهاكات وقعت قبل حكم ذلك الفصيل وأثناء تولي «مبارك» والمجلس العسكري شئون البلاد, في غياب كل هذه الإجراءات والسياسات التي يتجلى فيها غياب الإرادة السياسية لحفظ حقوق الضحايا والحفاظ على ذاكرة وضمير المجتمع، وإثراء روايات التاريخ من خلال سياسات معرفة الحقيقة، نطالب المؤسسات الحكومية بالالتزام بالسياسات الدولية للحق في معرفة الحقيقة.
ونحث الهيئات المستقلة على خلق قاعدة معلوماتية مستقلة عن السلطة وعن القبضة الأمنية. وهنا يتجلى دور المجموعات الشبابية والأعمال الفردية الموثقة للتاريخ؛ سواء كان التوثيق للبيانات والإحصائيات، أو كان توثيقًا فنيًا من خلال التأريخ الشفهي وسرد قصص الضحايا، وبالرغم من عدم تبلور تلك المنظومة المستقلة الموثقة للأحداث، إلا أنها ستصبح المعول الأساسي لحماية معرفة الحقيقة.