إعداد: محمود عثمان، محامي بمؤسسة حرية الفكر والتعبير
تحرير: محمد عبد السلام، مدير الوحدة البحثية بالمؤسسة
مقدمة
للمرة الثانية في مشوار المخرج خالد يوسف تتدخل الجهات الامنية لمنع فيلم له، ولكن هذه المرة فيما يتعلق بفيلم كارما تجنب يوسف اللجوء للقضاء، مفضلا التواصل مع أجهزة أمنية. تحاول هذه الورقة أن ترصد وتحلل دور الأجهزة الامنية خلال العقدين الأخيرين، من حيث تدخلها في عرض الأعمال الابداعية، وتحديدا الأعمال السينمائية.
يمتد تدخل الأجهزة اﻷمنية في الأعمال السينمائية إلى ثلاثينات القرن الماضي، عندما كشرت الرقابة عن أنيابها بمصادرة فيلم “لاشين” عام 1938، حين منع من العرض بأمر وكيل وزارة الداخلية، الذي رأى فيه مساسا بالذات الملكية ونظام الحكم. وكان ذلك إيذانا ببدء توغل هذه الوزارة كرقيب، على الرغم أنه تم السماح للفيلم بعد ذلك بالعرض بتدخل من طلعت حرب. وكانت صحيفة وادي النيل قد نشرت في 2 سبتمبر 1916 أنه:
“بدأت إدارة الأمن في تنفيذ القرار الخاص بمراقبة الصور المتحركة التي تعرض في محال السينما، وأصبح كل ما يعرض الآن بموافقة إدارة الأمن بحيث يمكن اعتبارها من الآن مسئولة عن مغزى الروايات التي تعرض على الجمهور”
لم تتوقف تدخلات الأجهزة الأمنية على مدار عقود، حتى فوجئنا بأزمة فيلم “كارما”، والذي كان صناعه يستعدون لعرضه في عيد الفطر، قبل أن يتم إبلاغهم أن الأجهزة الأمنية لها رأي آخر.
جهة غير معلومة تأمر بمنع “كارما”
بعد الحصول على جميع التراخيص والتصاريح اللازمة، وقبل يوم من عرضه الخاص، نُشر على موقع فيسبوك قرار مكتوب لجهاز الرقابة على المصنفات الفنية، يوم الاثنين 11 يونيو 2018، بسحب ترخيص عرض فيلم “كارما” للمخرج خالد يوسف، وإنتاج شركة مصر العربية للإنتاج السينمائي. حدث ذلك بعد أن حصل صناع الفيلم على حزمة من التصاريح والتراخيص بداية من الجهات النقابية، وحتى ترخيص السيناريو نفسه بالتصوير، وترخيص العرض الساري لمدة 10 سنوات من تاريخ منحه، الصادر في 30 أبريل 2018، وفقا للمادة الحادية عشر من اللائحة التنفيذية لقانون رقم 430 لسنة 1955 الخاص بالرقابة على المصنفات الفنية، والصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 162 لسنة 1993.
ويحق للإدارة المركزية للرقابة على المصنفات سحب ترخيص العرض العام الممنوح، طبقا للمادة التاسعة من قانون الرقابة على المصنفات الفنية، والتى تنص على:
” يجوز للسلطة القائمة على الرقابة أن تسحب بقرار مسبب الترخيص السابق إصداره في أي وقت إذا طرأت ظروف جديدة تستدعي ذلك ولها في هذه الحالة إعادة الترخيص بالمصنف بعد إجراء ما تراه من حذف أو إضافة أو تعديل دون تحصيل رسوم”
واستخدم القانون استخدم ألفاظ فضفاضة، مثل القول بحدوث ظروف جديدة، دون تحديدها، لسحب الترخيص الصادر. ورغم ذلك لم تراعي إدارة المصنفات الحد الأدنى من قانونية القرار الإداري بأن يكون مُسببا، وفق نص المادة التاسعة، حيث أصدرت اﻹدارة قرارها بلا أسباب مفصلة. وهنا جاءت قرارات محكمة القضاء الإداري فيما سبق بعد قبول خطابات الرفض الصادرة عن الرقابة كدليل على تسبيب قرارتها بسحب ترخيص العرض، وألزمت الإدارة أن تكون الأسباب تفصيلية، بحيث تشمل أجزاء الفيلم التي خرج فيها صانعوه عن حدود الترخيص.
وتواترت أحكام القضاء الإداري على أن الأصل هو حرية الابداع، وما دون ذلك يلزمه سبب قاهر، حيث يحق للادارة أن تشير للمبدع بتعديل السيناريو قبل أن ترفضه، وعندما تمنحه الترخيص يصبح بذلك حائزا لمركز قانوني مستقر لا يجوز نزاعه فيه، بحيث تترتب معاملاته المالية والقانونية عليه، وبذلك يضر سحب الترخيص بالمبدع وبغيره من ذوي المصلحة.
وهكذا فقد خلى قرار الرقابة بسحب ترخيص فيلم كارما من الأسباب. وعلى جانب آخر، لم يستطع صناع الفيلم الحصول على معلومات بشأن دوافع الرقابة لاتخاذ هذا القرار، حتى أن عمرو سعد بطل فيلم كارما أوضح أنه اجتمع بوزيرة الثقافة، والتي بدورها لم توضح أى سبب لسحب ترخيص عرض الفيلم.
نشر بعدها المخرج خالد يوسف فيديو على صفحته الرسمية بموقع فيسبوك، في الثلاثاء 12 يونيو 2018-وهو اليوم التالي لنشر قرار الرقابة بسحب الترخيص- يؤكد فيه عرض الفيلم. وأعلن بعد ذلك خالد يوسف مخرج ومؤلف فيلم كارم، في تصريحات صحفية، تفاصيل مكالمة رئيس جهاز المصنفات الفنية له، لإعلامه بسبب سحب ترخيص عرض الفيلم، وكان رد الأخير هو مخالفة شروط العرض، إلا أن رئيس المصنفات اعترف في النهاية أنها أوامر وقال: ” مش عارف، بس هي الأوامر كده”، كما أوضح خالد يوسف أن الجهات السيادية راجعت معه محتوى الفيلم ووافقت عليه. وزاد من غموض المشهد ردود خالد يوسف حول الجهة التي منعت الفيلم، فكان يهرب من الرد الصريح، وتمسك أن السبب هو شخص في جهة غير معروفة أصدر قرارا بمنع الفيلم.
أفلام تحت وطأة المنع “السيادي”
لم يكن فيلم “كارما” أول أفلام خالد يوسف، التي تدخلت فيها جهات سيادية، فقد رفضت المصنفات الفنية الترخيص لفيلم “الرئيس والمشير” بالتصوير في نوفمبر 2000. وكان الرد حينها صريحا من قبل مديرة إدارة الأفلام العربية والفيديو بالإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية برفض المعالجة المقدمة لمشروع الفيلم. وبعد أن تقدم المخرج خالد يوسف بتظلم، انتهى رأي المصنفات إلى الموافقة على منح ترخيص الرقابة بتصوير السيناريو، بشرط الحصول على موافقة كل من المخابرات العامة والمخابرات الحربية.
تقدم المخرج خالد يوسف آنذاك بطعن أمام محكمة القضاء الإداري، ﻹلغاء قرار المصنفات الفنية بضرورة الحصول على موافقة الجهات السيادية، والتي حكمت لصالحه بإلغاء قرار المصنفات الفنية وسمحت له بتصوير سيناريو “الرئيس والمشير”، وكذلك أيدت المحكمة الإدارية العليا لاحقا نفس الحكم. وفيما يتعلق بفيلم “الرئيس والمشير”، فقد تسلم المخرج خالد يوسف قرار المصنفات الفنية من خلال وثيقة رسمية مكتوبة، مما سهل حينها من امكانية الطعن عليه أمام القضاء، واستغرقت المحكمة 9 سنوات حتى أصدرت حكمها في نوفمبر 2009. وكان ذلك إيذانا بالبدء في تصوير الفيلم، ولكن لم يتم تصوير الفيلم إلى وقتنا هذا.
صدر حكم مجلس الدولة بشأن فيلم “الرئيس والمشير” ليؤكد عدم جواز تدخل الجهات السيادية كرقيب على الأعمال الابداعية، إلا أن الواقع العملي أثبت أن قضية “الرئيس والمشير” لم تدفع الرقابة على المصنفات الفنية إلى تشجيع المبدعين ورفض تدخل الأجهزة الأمنية. بل على النقيض من ذلك، أصبحت الرقابة تصدر قرارات غير مسببة برفض الأعمال الفنية، لتصعب جهد المبدعين في الطعن على قراراتها.
وربما يكون صناع فيلم “الرئيس والمشير” قد تخوفوا أن يتكبدوا عناء التصوير وتكاليفه، ثم يتم رفض عرضه العام؛ فهنالك ترخيص آخر لم يحصل عليه الفيلم حينها، وهو ترخيص يصدر بعد تصوير الفيلم، تراجعه لجنة مشاهدة بالمصنفات الفنية وتقرر عرضه او رفضه.
أما فيلم “آخر أيام المدينة” للمخرج تامر السعيد، فقد رفضت الرقابة عرضه العام في عام 2016، بعد أن وافقت على تصويره، دون إبداء أسباب. وفي العام 2013 مُنعَ فيلم” عن يهود مصر” للمخرج أمير رمسيس من العرض. وفي مقابلة أجراها معه محامي مؤسسة حرية الفكر والتعبير، يقول رمسيس:
“في البداية تقدمنا بسيناريو الفيلم لجهاز الرقابة، للحصول على التصريح بالتصوير، وبالفعل وافق جهاز الرقابة و انتهينا من تنفيذ الفيلم. وعندما اتفقنا على عرض الفيلم في أسبوع (بانوراما الفيلم الأوروبي)، قدمنا الفيلم مرة أخرى لجهاز الرقابة على المصنفات الفنية، وحصلنا على تصريح بالعرض العام للفيلم، دون إبداء أي ملاحظات. وهو التصريح الذي يسري -أيضًا- على عرض الفيلم خارجيًا، ولكن بحسب القواعد نقوم في حالة أي عرض جديد للفيلم بدفع بعض الرسوم للحصول على التصريح الجديد، أيًا كان شكل العرض أو هدفه (تصريح إعادة عرض أو تصدير أو المشاركة في أحد المهرجانات)، لكن لا يتم مشاهدة وتقييم الفيلم من جديد، فهذه المرحلة انتهت. حتى وصلنا لمرحلة العرض التجاري للفيلم، وهو ما يحتاج لبعض الإجراءات التي تختلف عن تصريح العرض العام، فهناك بعض الأوراق التي تتعلق بالنقابات يجب أن يتم إضافتها على الأوراق المرفقة بملف جهاز الرقابة، مثل ورق تسديد رسوم نقابة السينمائيين أو ورق تسديد رسوم نقابة التمثيليين، وهو ما لا يتطلب إعادة مشاهدة الفيلم، كأي تصريح جديد بالعرض أو الذهاب لمهرجان. إلا أن هذه المرة حدثت مماطلات عديدة في الحصول على هذا التصريح، بحجج واهية مثل تغيُّب المحاسب أو المورِّد أو المسئول عن الختم، واستمر الحال هكذا لمدة أسبوعين، حتى ليلة العرض، حيث اعترف لنا رئيس جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، في ذلك الوقت، أ. عبد الستار فتحي، أن أجهزة الأمن الوطني والقومي -بالفعل تم استخدام المصطلحين- لا توافق على عرض الفيلم وأوقفت التصريح”
“كارما” والاعتراف باﻷمن كرقيب أعلى !
لحق خبر سحب ترخيص فيلم كارما سيل من التضامن مع صناع الفيلم، أبرز تجليات هذا التضامن هو الجلسة الطارئة للجنة السينما التابعة لوزارة الثقافة، والتي انتهت بتقديم أعضاء اللجنة استقالتهم لوزيرة الثقافة، اعتراضا على منع الفيلم، مطالبين : “بوضع خارطة طريق لدعم حرية السينمائيين ومنع أسباب انهيار الصناعة التى طالما امتلكنا الريادة فيها”.
لجأ المخرج خالد يوسف إلى الجهات السيادية والتي أنهت المشكلة في أقل من 48 ساعة، وأعادت التصريح للفيلم. وهنا تعامل المخرج مع الجهات السيادية على اعتبار أنها بمثابة الرقيب الأعلى، صاحب القول الفصل بشأن ما يمكن عرضه وما يجب منعه. ويضعف اللجوء للجهات السيادية من قدرة المبدعين على الحشد ضد قرارات منع العرض، والتظلم أمام الجهات القضائية.
وهذا المشهد يمثل خطرا شديدا على حرية الابداع، بحيث يصبح الاحكتام للجهات السيادية هو الحل الوحيد لعرض العمل الفني. ويؤكد ما حدث بشأن فيلم كارما من منعه قبل العرض الخاص بيوم، ثم السماح بعرضه بعد ذلك، أن الأجهزة اﻷمنية والسيادية تنصب من نفسها جهة رقابة بحكم الواقع، وفي انتهاك للدستور المصري والقوانين المنظمة للإبداع. وعلى اﻷرجح، سيؤدي الضغط الذي تمارسه الجهات السيادية على السينما إلى التأثير سلبا على محتوى اﻷعمال السينمائية، كما سبق وحدث في الأعمال الدرامية، والتي اعتبرها عديد من النقاد في اﻵونة اﻷخيرة مجرد صدى صوت للأجهزة الأمنية.
خاتمة
لا شك أن تدخل الأجهزة الأمنية في السينما يأتي ضمن سياق أكبر، يتعرض فيه المبدعون أيا كانت مجالات عملهم إلى قيود وتضييقات رقابية، فالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام نصب نفسه رقيبا على الدراما، بينما يحاكم القضاء العسكري مجموعة من المسرحيين الشباب. ويوجد 8 حالات من الانتهاكات ضد حرية الإبداع التي رصدتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير خلال الربع الأول من العام 2018، تعرضت فيها الأعمال الإبداعية للرقابة على المحتوى الفني بالحذف والمنع من العرض.
لذا فإن مؤسسة حرية الفكر والتعبير تعرب عن رفضها التام لمنع عرض الأعمال الابداعية بقرارات الجهات السيادية، وتؤكد مخالفة قرار سحب ترخيص فيلم كارما للدستور والقانون واللائحة التنفيذية المحددة لعمل الادارة المركزية للرقابة على المصنفات.
كما تطالب المؤسسة بتعديل المادة التاسعة من قانون المصنفات، والتي تسمح للسلطة القائمة على الرقابة أن تسحب بقرار مسبب الترخيص السابق إصداره، في أي وقت إذا طرأت “ظروف جديدة”، بحيث تُحدد المادة على سبيل الحصر هذه الظروف الجديدة، كما يجب أن تنص المادة على صدور قرار مسبب “بالتفصيل”، بمعنى ألا تكتفي الرقابة بذكر تحفظات عامة، دون توضيح موضعها في العمل السينمائي، والمخالفة التي تحملها على وجه التحديد.