صكوك الإبداع .. عن تقييم القضاء للأعمال الإبداعية

تاريخ النشر : الإثنين, 20 مارس, 2017
Facebook
Twitter

أعد الورقة: محمود عثمان، المحامي بمؤسسة حرية الفكر والتعبير وقام بالمراجعة القانونية: حسن الأزهري مدير الوحدة القانونية بالمؤسسة، وقام بتحرير الورقة: محمد عبد السلام، الباحث بمؤسسة حرية الفكر والتعبير

لقراءة الورقة بصيغة PDF اضغط هنا

مقدمة

تظهر الدعوات من آن ﻵخر إلى انتظار تقييم العمل الإبداعي، كلما ارتفعت الأصوات المنادية بحرية الإبداع، وهناك الكثير من الحجج التي تدور حول فكرة أساسية: كيف تعتبرون هذا النص إبداعا ؟ كيف نقبل بهذه الألفاظ باعتبارها إبداعا ؟ هل يحق لكل مواطن أن يعبر عن أفكاره بشكل فني دون ضابط ولا رابط.

وهكذا تزداد الضغوط على الحق في اﻹبداع، وكأن ثمة صكوك يجب أن يقتنصها العمل الإبداعي، وهنا يبرز دور المحاكم باعتبارها ساحة لتقييم الإبداع، ما يؤدي إلى انتهاك الحق في حرية الإبداع، وتقليص حدوده، وفقا لما تراه هيئة المحكمة، ووفقا لمواد عفا عليها الزمن في القوانين المختلفة، ويتعرض المبدعون كذلك لاتهامات بخدش الحياء العام، وازدراء الأديان.

لذا تحاول هذه الورقة أن تتناول الطريقة التي يتعامل بها القضاء المصري مع قضايا حرية الإبداع، من خلال طرح عديد من النماذج لأحكام قضائية، صادرت على حق المواطنين في الإبداع، وهنا يبرز التناقض بين النصوص الدستورية التي تحمي حرية الإبداع والتعبير الفني، وبين الواقع والقوانين التي تكبل وتضع المزيد من القيود على الأعمال الإبداعية

ومفهوم تقييم اﻷعمال اﻹبداعية يختلف عن النقد الفني، فالتقييم يقوم بالأساس على إذا ما كان هذا العمل يستحق أن يوصف «باﻹبداع» أم أنه لا يستحق هذه الصفة، وبالتالي يخرج عن نطاق حماية حرية الإبداع، ويترك صيدا ثمينا لكل من أراد مصادرة الإبداع وملاحقة المبدعين، وهذا ما يتضح من قراءة حيثيات اﻷحكام ومذكرات النيابة العامة.

 

تمهيد: حرية اﻹبداع في الدستور

شغل الاهتمام بإطلاق حرية الإبداع الحيز الأكبر من جهود المبدعين، أثناء نظر مواد الدستور التي تمس اﻹبداع، فالنصوص الدستورية التي مست الأعمال الإبداعية على مر تاريخ الدساتير المصرية، كانت تذكر أشكالا محددة من اﻷعمال الإبداعية وتوليها بالرعاية، وصولا إلى دستور عام 1971 الذي نص في المادة (47) على ضمان حرية الرأي والنشر بأي صورة وفي حدود القانون. كان الدستور يحمي في الأساس حرية التعبير عن الرأي، والتي يمكن أن تشمل التعبير عن الرأي بشكل إبداعي، بل أن حرية الإبداع التي تقوم على الخيال تتمتع بحماية أكبر، إذ أن الخيال لا توضع عليه قيود.

وبعد ثورة 25 يناير تركزت التوقعات حول زيادة الضمانات للحريات في الدستور بشكل أكثر تفصيلا و احكاما، ومع تشكيل لجنة الخمسين لوضع الدستور المصري الحالي الصادر عام 2014، ظهر أثناء هذه الجلسات ما يؤكد صحة هذا التوقع، فقد أصر غالبية الأعضاء على إضافة فقرات جديدة لحماية حرية الإبداع، ولعل من المهم أن يتم التطرق بشيء من التفصيل ﻷحد اجتماعات لجنة الخمسين، والذي شهد نقاشا محموما ما بين مؤيدي إطلاق حرية الإبداع ورافضيه1.

فقد حضر هذا الاجتماع 48 عضوا من لجنة الخمسين، اقترح المُخرج خالد يوسف نص المادة 67 2 من الدستور المصري لكي تكون مادة حرية الإبداع، ووافق على الإبقاء على نص مادة3 الدستور الصادر في عام 2012 مع إضافة فقرتين،الأولى: “ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة»، و الثانية «ولا توقع عقوبة سالبة للحرية للجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري في غير الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز».

واتفق الحضور على أن هذه المادة تطلق حرية الإبداع، و انقسموا حول قبولها، فرأى عدد منهم رفض الإضافة كلية، حيث أن إطلاق حرية الإبداع الفني والأدبي وغيره – من وجهة نظرهم – معروف عالميا أنه أدى إلى ظهور منتجات «أكثرنا لا يرضاها»، كما أنها تُعيق من له الحق في رفع الدعاوى بشكل مباشر، فكان الأحرى من وجهة نظر أصحاب هذا الرأي أن تبقى المادة كما كانت عليه في دستور 1971.

في حين أن أصحاب الرأي الآخر، يرون أن هذه المادة لا تغلق الباب أمام الحق في التقاضي، بل تنظمه حتى لا تغرق المحاكم بسيل من الدعاوى التي قد تكون كيدية، مما يؤدي إلى أن تشغل المحاكم بغير حق و تؤدي إلى التأثير في حق التقاضي. ورأوا أنه لا خوف من النيابة العامة، بل هي ضمانة لحسن سير العدالة، ورأوا أنه نص شديد الانضباط، ويسد أي تعويق لحرية الإبداع، «فليس من حق كل شخص يتصور أن الكتاب فيه عوج أن يحكم على الكتاب بصفته الشخصية»، بحسب تعبير أحد أعضاء لجنة الخمسين.

وسط مناقشات محتدمة لتحديد نص المادة، أتى صوت أحد الفنانين التشكيليين محاولا بإيجاز وصف ماهو فني و ما يخرج عن نطاق حماية حرية الإبداع، حيث أوضح الفنان التشكيلي محمد عبلة أنه: «لو أن هناك شخص يقوم بعمل فني ويقدم سبا وقذفا مباشرا، فهذا سب وقذف وليس له علاقة بالعمل الفني، العمل الفني لا يعرض لهذه الموضوعات، فالعمل الفني يتكلم عن أفكار الشخص تجاه ما يراه في الحياة».

وعلى الرغم من هذه المناقشات المفصلة حول حرية الإبداع، والمادة التي تم النص عليها في الدستور لحماية حرية الإبداع، إلا أن الممارسات اللاحقة أتت على النقيض من هذه الخطوات الجيدة، وهذا ما تتناوله الورقة في المحاور التالية، في محاولة للإجابة على تساؤل رئيسي: هل انحازت أحكام المحاكم – سواء في فترات سابقة أو بعد صدور الدستور الحالي – إلى إطلاق حرية اﻹبداع، وكيف أثرت محاولات تقييم اﻹبداع من قبل الجهات القضائية على الحق في حرية الإبداع.

 

المحور اﻷول: نماذج من تدخل النيابة والمحاكم في تقييم الإبداع

لعله من المهم أن يتم التطرق إلى نماذج تظهر دور النيابة والمحاكم في تقييم الأعمال الإبداعية، وما ارتبط بهذه النماذج من وقائع ومناقشات، والتي تمهد لفهم أفضل ﻹشكالية تدخل المنظومة القضائية في تقييم الأعمال اﻹبداعية. وذلك من خلال تناول قضية من فترة تاريخية سابقة، وقضية أخرى جرت وقائعها في الآونة الأخيرة، ويجمع بينهما توجه النيابة والقضاء بشكل واضح لتقييد اﻹبداع، كما يلي:

قضية طه حسين – نموذج لتدخل النيابة في تقييم الإبداع – :
في مُقدمة كتاب «في الشعر الجاهلي» للدكتور طه حسين، توقع الكاتب سخطا من بعض الناس، خاصة بعد أن عرض فكرته على تلامذته، ونشر الكتاب في عام 1926، إلا أن السخط لم يقف عند حد النقد، فقد تقدم الشيخ خليل حسنين «الطالب بالقسم العالي بالأزهر» ببلاغ إلى النائب العام4، وسرعان ما تدخل الأزهر ببلاغ آخر عن طريق «شيخ الأزهر»5 يتهمه فيه بالتعدى على الدين الإسلامي و ذلك بتكذيب القرآن والطعن في نسب النبي والدعوة للفوضى، وطالبوا بتقديمه للمحاكمة، تلك الجريمة المعروفة بـ «ازدراء الأديان»، والملفت أنه لايزال يحاكم بها ذوي الرأي إلى وقتنا هذا، ويُحبسون لمُدد كبيرة.

استدعت النيابة العامة الدكتور طه حسين لمواجهته بالاتهامات والأدلة، التي لا تتعدى الكتاب المنشور. وأثناء سرد النيابة العامة لتفاصيل القضية، تأسست قراءته على منحيين: منحى ذاتي اعتمد فيه وكيل النائب العام على اجتهاده، وكفاءته أثناء إعادة قراءة كتاب (في الشعر الجاهلي) والبحث عن مصادر خارجية تدعم معلوماته وتصححها، في حين اعتمد المنحى الثاني على المساجلة والمطارحة والمحاورة مع الكاتب لبناء المعرفة واستكمالها إتماما للقراءة الأولى.6

تدخلت النيابة العامة بشكل واضح وصريح في تفسيرها للنص الأدبي المعروض أمامها، بل وتقييمه أدبيا، وهنا تحول وكيل النائب العام إلى ناقد أدبي، ينتقد المنهج الذي سلكه الكاتب لتبرير طرحه. يشير وكيل النائب العام إلى أن طه حسين خرج في بحثه عاجزا في الوصول إلى غرضه «على أننا نلاحظ أيضا على المؤلف أنه لم يكن دقيقا في بحثه وهو ذلك الرجل الذي يتشدد كل التشدد في التمسك بطرق البحث الحديثة». ولم يخل هذا التقييم من الحماسة الزائدة في النقد لتتماس مع دور النيابة العامة في حفاظها على القيم الأساسية للمجتمع.

«ولكن الأستاذ المؤلف وضع السؤال وحاول الإجابة عليه و تطرق في بحثه إلى الكلام على مسائل في غاية الخطورة صدم بها الأمة الإسلامية في أعز ما لديها»، على حد تعبير وكيل النائب العام،7 وتطرق أيضا لمنهجية البحث التي اتبعها الكاتب «ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين وبين العلم وهو القائل بعكس ذلك».8 بل تطرقت النيابة للألفاظ التي استخدمها الكاتب :»ونحن لانرى اعتراضا على ان يكون مراده بما كتب في هذه المسألة هو ما ذكره، ولكننا نرى أنه كان سيئ التعبير جدا في بعض عباراته».

انتهى التحقيق وقرر وكيل نيابة مصر وقتها السيد محمد نور حفظ التحقيقات ضد طه حسين، لكن ذلك لم يلجم الكاتب عن البوح بما لم يُطرح حينها وقال: «هذان الأمران – الخصومة بيني وبين القصر، وبيني وبين الوفد المصري – هما اللذان أثارا هذه الثورة الهائلة، التي شغلت الناس عاما كاملا، حينما صدر كتاب»في الشعر الجاهلي»، فالخصومة لم تكن دينية ولا أدبية، وإنما كانت سياسية، وشارك فيها الأزهر بإسم الدين، ولكن شيخا من شيوخه – رحمه الله – تبرأ من أن يكون له دخل في هذه الخصومة، ودعا على الذين حرضوه وحرضوا الأزهر على هذه المشاركة وهو القصر من جهة و الوفد من جهة أخرى»9

رأى كثيرون وخاصة من الكتاب والأدباء أن سلوك النيابة العامة محمودا في كونها قد قيمت أدبيا الكتاب وحاولت التعامل معه كنص أدبي خيالي بدلا من كونه معبرا عن ازدراء الكاتب للدين، ولكن ذلك لا ينفي المضايقات والتنكيل الذي تعرض له الكاتب، ولا ينفي أنه ليس هناك من حق للنيابة في تقييم العمل الإبداعي، وإلى وقتنا هذا لازال الأزهر يعتبر أفكار طه حسين إشكالية ومرفوضة، والدعوة إليها تستحق التحقيق، ولو كان مع أستاذ بجامعة الأزهر. 10

قضية برنامج نفسنه – نموذج لتدخل المحكمة في تقييم الإبداع – :

بعد ما يقرب من قرن على واقعة كتاب طه حسين، لا تزال المنظومة القضائية تقحم نفسها في تقييم الأعمال الإبداعية، وهذه المرة من خلال قضية برنامج نفسنه، حيث ثار التباس ما بين الحق في حرية الإبداع، وما يندرج تحت حرية الإعلام ونشر الحقائق والآراء. ويعتبر برنامج نفسنه من برامج المنوعات وبدأت أولى حلقاته11 في شهر اكتوبر 2015، وهو برنامج مُسجل أي غير مذاع على الهواء، يوضع له «سكريبت»، و يعمل به معدون يرسمون إطار للحلقة ومجرياتها «سكيتشات»، تلتزم بها مقدمات البرنامج الثلاثة.

وهناك مساحة لبعض الارتجال، وتقوم مقدمات البرنامج بإستضافة أحد المشاهير ويطرحن عليه موضوع للنقاش، يتطرقن فيه الى جوانب مرتبطة بحياة الفنان الضيف، من خلال قالب كوميدي، بحسب متابعة محامي مؤسسة حرية الفكر والتعبير لدفاع محامي القناة بغرفة المداولة في المحكمة والتي تقتصر على الخصوم في الدعوى، حين أوضح محامي القناة طبيعة عمل البرنامج.

وقد بدأت المُحاكمة على إثر دعوة تقدم بها أحد المحامين، في 11 أكتوبر 2015، طالب فيها محكمة القضاء الإداري بإصدار قرار بوقف البرنامج الذي يعرض على قناة القاهرة والناس الفضائية، ادعى المحامي أن مقدمات البرنامج يتبارين فيه على التحدث بإسفاف وانحطاط وهو – كما يظن – لا يمكن إدراجه تحت مفهوم حرية الرأي والإبداع، وانهن طرحن في إحدى حلقات البرنامج مسألة مشاهدة الشباب للمواقع الاباحية والافلام الجنسية، و ايدن موقف الشباب الذي لا يستطيع الزواج لمشاهدة هذه المواد الاباحية كنوع من التنفيس عن رغباتهم12.

استعرضت المحكمة مقاطع الفيديو التي تقدم بها مقيم الدعوى، وحجزت الدعوى للحكم، وفيها أوضحت اسبابها لرفض غلق البرنامج، حيث جاء في الحكم: «ومن حيث إنه ولئن كانت المحكمة تشارك المدعي في بعض نعيه على ما يقدمه البرنامج محل الدعوى، من غث في بعض القول أو مدلول اشارة او ايحاء لهو أمر غير مستساغ ولا يحوي معالجة صحيحة للموضوع محل الحلقة، إلا أن غلبة الأمر الفصل في ذلك مرجعه إلى موروث قضائي، يقوم على ترك مجال واسع لحرية الفكر والابداع وان شذ في بعض ما يقدمه، بحسبان أن أمر الحظر هو الوسيلة المثلى لنشر المحظور واتباعه بل وترسيخه في ذهن المتلقي، و يهوى بصاحبه إلى درك أسفل من الاحترام، بيد أن علاجه يكون من داخل المهنة التي ينتمي إليها المنسوب إليه القول أو الفعل حفاظا على احترامها لدى الجمهور المتلقي.13

تدخل هنا القاضي في المعالجة الفنية للحلقة وهو أمر فني من الدرجة الأولى، ويخضع لقرار الفنان القائم عليه، ثم أردف ذلك بحكمه على هذا العمل بكونه عملا فنيا رديئا فاسدا. ولعل هذا الأداء المستخدم في أسباب الحكم يعكس النظرة الدونية للقضاء للأشكال الجديدة من الفنون، حيث أنه حتى في الحالات التي يحكم فيها القاضي، ويقوم على حماية حرية الإبداع، فإنه يضع تقييما فنيا يعتمد فيه على رأيه الشخصي.

وتقود هذه النماذج السابق تناولها إلى ضرورة البحث في الفلسفة التي يتعامل بها القضاء مع حرية اﻹبداع، وهذا ما يتناوله المحور الثاني في الورقة.

 

المحور الثاني: فلسفة أحكام القضاء في تقييم العمل الإبداعي

لطالما تعرض الفن والإبداع إلى هجوم ضاري من جانب شرائح اجتماعية محافظة تحت شعارات حماية الأخلاق، ولا يمكن تجاهل هذا الجانب الاجتماعي في تناول نظرة القضاء لحرية الإبداع ولمساهمات المبدعين على اختلاف مجالاتهم، يستوي في ذلك قضاة عاصروا فترات وحقب سياسية مختلفة، وتشير وقائع وأحكام عديدة إلى هذا التناول الأخلاقي من قبل المحاكم المصرية للقضايا المرتبطة بحرية الإبداع.

ففي أحد المقالات التي كتبها الصحفي والأديب رجاء النقاش، يروي النقاش أن موسيقار وقف أمام إحدى المحاكم الشرعية، في عام 1950، ليدلي بشهادته في إحدى القضايا، وكان ذلك قبل إلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد القضاء بعد ثورة 1952. وحينها رفض القاضي الشرعي أن يأخذ بشهادة الموسيقار قائلا إن هناك نصا قديما من نصوص الفقه الشرعي يقول «الزمار والطبال وكل من يشتغل في اللهو لا يصح الاستماع إلى شهادته”.

وقد أصيب الموسيقار بالدهشة الشديدة من موقف القاضي، وقال له انه فنان له اعتباره في المجتمع، كما أن الدولة تعترف به وتعطيه الحق الكامل في وظائف محترمة ومهمة مثل التدريس والعمل في أقسام الموسيقي بالجيش والشرطة. فكيف يباح للموسيقار ذلك كله ولا يباح له أن تكون شهادته مقبولة أمام القضاء؟

أصر القاضي الشرعي في هذه الحادثة علي موقفه، وقال: «انني اعمل بالنص الشرعي الذي لا أستطيع مخالفته»، فعاد الموسيقار يقول للقاضي: إذن فالمحكمة لا تأخذ بشهادة عبدالوهاب وأم كلثوم. فرد القاضي: «نعم.. المحكمة لا تقبل هذه الشهادة، وأنا معجب بأم كلثوم وأحب أن أسمع غناءها في قصائد شوقي، ولكن هذا كله لايغير النص الفقهي».14

وبعد مرور ما يجاوز نصف قرن على هذه الواقعة وصدور الدستور الحالي في 2014 والذي أتى متأثرا بالتغيرات السياسية التي أعقبت ثورة 25 يناير، تقدم عدد من المُبدعين للترشح للانتخابات البرلمانية، ظنا منهم بوجود نص دستوري يُكرمهم و يحميهم و يحث الدولة على تشجيعهم، إلا أن الأمر كان مختلفا عندما تصدى قضاء مجلس الدولة لقضايا ترشح الفنانين للانتخابات البرلمانية.

فقد أقام أحد المحامين دعوى قضائية يطالب فيها برفض قبول ترشح الفنانة سما المصري، وهنا تصدت محكمة القضاء الإداري – وهي محكمة الدرجة الأولى بمجلس الدولة التي يتم الطعن فيها على القرارات الإدارية لمؤسسات الدولة و الموظفين العموميين- ورفضت طلب المحامي، إلا أنه تقدم للمحكمة الإدارية العليا، و تقدم بأسطوانات تحوي مقاطع من اغاني ورقصات للمُرشحة أخذها من مواقع التواصل الاجتماعي، لتكون دليلا ضدها.

وجاء في حيثيات الحكم: «ومن حيث أن المحكمة قد اطلعت على المقاطع التي حوتها الأسطوانات المُدمجة والتي تضمنتها بعض البرامج و الحوارات التلفزيونية التي أجريت مع المطعون ضدها الثانية، وتناولتها الكثير من وسائل الإعلام المختلفة و المتاح مشاهدتها لدى الكافة، واستبان لها إتيانها من التصرفات ما يخرجها عن المسلك القويم والتمسك بحسن الخلق و توشحها بالحياء اللازم للمرأة، وهي أمور يتعين على أهل الفن الصحيح مراعاتها و التمسك بها، حيث لا يجوز التذرع بالإبداع والابتكار للخروج على القيم، إنما يكون الإبداع والابتكار في ظل القيم والأخلاق، وبالتالي فلا يجوز التمسك بالإبداع الفني لتبرير ما اطلعت عليه المحكمة من مشاهد وأفعال، إذ يتعين لتربية النشء و الشباب في المجتمع بما يعينه على تمسكه بالمبادئ والقيم وليس إهدارها، وهذه هي رسالة عضو المجلس النيابي إذا أتاها على وجهها الصحيح وهو ينبري دفاعا عن قويم المسلك و يفزع لما يؤدي إلى إفساد الأخلاق، وهو ما كانت ترجوه المحكمة أن تتوافر في المطعون ضدها ولكنها لم تبرهن على ذلك فيما طالعته المحكمة من مشاهد وحوارات تلفزيونية منسوبة لها… وتشير المحكمة -في هذا المقام- إلى أن وصف المطعون ضدها الثانية بسوء الخصال والأفعال بناءا على ما تقدم، يعوق من قبول طلب ترشحها لانتخابات مجلس النواب المقبلة…”.15

هذه الحيثيات السابق عرضها بمثابة تجميد لنصوص الدستور التي أطلقت حرية اﻹبداع، وتنتقل من تقييم العمل الإبداعي إلى وصم المبدع ذاته، ومن ثم حرمانه من الحقوق السياسية المكفولة له. ومن جهة أخرى فقد استندت المحكمة لقوانين مطاطة و غير محددة في ألفاظها، وتمسكها بمعيار»حُسن الخُلق»و الذي بدوره لا توجد أي تفاصيل تشرح ماهيته.

وعلى جانب آخر تأثرت تقارير «هيئة مفوضي الدولة» بهذا الجانب الأخلاقي في تناولها لقضايا حرية اﻹبداع، وهيئة المفوضين تقوم بتحضير الدعوى وتهيئتها،16 وإبداء الرأي القانوني فيها، وهي خطوة مهمة تسبق إصدار اﻷحكام، وتعود بعدها الدعوى مرة أخرى إلى هيئة المحكمة لتضع الحكم النهائي. وقد تقدم أحد المحامين بدعوى أمام محكمة القضاء الإداري لغلق قناة فلول، اتهم فيها القناة ببث ما يخالف القيم والعادات والأخلاق التي استقر عليها المجتمع المصري، و ذلك بسبب ظهور الراقصة «سما المصري» تتراقص وتتمايل في خلاعة ومجون – على حد تعبيره – و مُتغنية بأغان تحمل معان و إيحاءات جنسية.

وجاء رأي هيئة المفوضين مُقدما بمجموعة من النصوص التي تدعم حرية التعبير والإبداع، إلا أنها انتهت برأي لا يمت بصلة لهذه الحقوق. يقول مفوض الدولة في تقريره: «إن الثابت بالاطلاع على القرص المدمج، المقدم من المُدعِي والمتضمن محتوى القناة المشار إليها، أنها تقوم تحت سمع وبصر كل الجهات ذات الاختصاص ببث أغان وبرامج رديئة و دنيئة و مزرية، تنشر البذيء من القول والفحش في التعبير، بأسلوب رخيص وألفاظ سوقية خارجة، وتعمل على إثارة الغرائز و تحريك الشهوات بما يتم فيها من الظهور بملابس تعري أكثر مما تستر، وبما تحتويه من ألفاظ وإيحاءات جنسية آذت سمع الهيئة .. وكان أهون عليها أن لا تطول آذانها أو سمعها مثل هذا الذي تضمنه لولا أمانة أداء الواجب … قامت القناة المذكورة بتقديم برامج مسجلة على أنها برامج حوارية تستعرض الأوضاع السياسية، ولكنها في الحقيقة مجرد اسفافا في القول، وذكرا لألفاظ نابية تنطوي على إيحاءات جنسية … ومن ثم تكون هذه القناة قد خرجت عن الحياد المفترض في الإعلام، وخانت الأمانة و ميثاق الشرف الإعلامي».

بجانب ذلك تطرق تقرير مفوض الدولة إلى الأسرة وحقوقها، وجاء به أن «ما تبثه هذه القناة لا يمت للإعلام أو الفكر بأدنى صلة، فهي لا تنشر إعلاما، ولا تخدم فكرا، ولا تساند رأيا،و إنما تنشر الرذيلة و تثير الغرائز بما يهدم كل العقائد الدينية الراسخة والقيم الأخلاقية والآداب، ويؤدي إلى التفكك الأسري». وعلى الرغم من أن المفوض وضع نفسه كخبير أعلى في المجال الاعلامي، وأجهد نفسه في نفي أن تكون القناة جزءا من اﻹعلام، إلا أنه حين تحدث عن الفن، مر عليه مرور الكرام مُكتفيا باﻹشارة إليه باعتباره خروجا عن الحياء العام، و لم يسمه بغير ذلك، وكأن الرقص في حد ذاته وصمة لمن يؤديه.

وقد عمد المفوض في تأسيس القرار إلى تفسير اتجاهه المُقيد للحريات، وهو ما تطرق له المفوض في عدة مواضع، منها ما ورد به من حيث أن: «العمل الإعلامي سواء كان مقروءا أو مرئيا أو مسموعا أو رقميا يتعين أن يتمتع بوظيفة اجتماعية، فيقيم التوازن بين حرية الرأي والتعبير و بين مصلحة المجتمع وأهدافه وحماية القيم والتقاليد، فالحرية حق وواجب ومسئولية في وقت واحد والتزام بالموضوعية و بالمعلومات الصحيحة غير المغلوطة، و تقديم ما يهم عموم الناس بما يسهم في تكوين رأي عام مستنير و عدم الاعتداء على القيم والتقاليد والآداب .. فلا يجوز بأي حال من الأحوال تشجيع أو إثابة العبث بحرية الاتصال و التواصل و التعبير…”.

هذا التوجه في تقرير المفوضين لم يكن وليد الصدفة، بل إن له أصل في أحكام محكمة النقض المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي، إذ أن ذات الألفاظ التي وصفت بها محكمة النقض التعبير عن اﻷفكار الإبداعية استعانت بها النيابة في مُذكرتها وكذلك تقارير المفوضين وأحكام المحاكم المصرية التي تبنت الاتجاه المُحافظ الرافض لإطلاق حرية الإبداع بدعوى الحفاظ على اﻷخلاق.

فقد جاء في حيثيات حكم صادر عن محكمة النقض في العام 1933 أن: «الكتب التي تحوي روايات لكيفية اجتماع الجنسين، وما يحدثه ذلك من اللذة كالأقاصيص الموضوعة لبيان ما تفعله العاهرات في التفريط في أعراضهن، وكيف يعرض سلعهن وكيف يتلذذن بالرجال و يتلذذ الرجال بهن. هذه الكتب يعتبر نشرها انتهاكا لحرمة الآداب و حسن الأخلاق لما فيه من الإغراء بالعهر خروجا على عاطفة الحياء، وهدما لقواعد الآداب العامة .. بحيث أصبح عرض مثل تلك الكتب لا ينافي الآداب العامة استنادا الى ما يجري في المراقص و دور السينما و شواطئ الاستحمام، لأنه مهما قلت عاطفة الحياء بين الناس، فإنه لا يجوز للقضاء التراخي في تثبيت الفضيلة وفي تطبيق القانون».17

هذا الاتجاه المحافظ والذي يرى أن التحرر من الملابس في الشواطئ و عرض ذلك بالطرق الفنية المختلفة لابد أن يندثر، جاءت نصوص الدستور التي تطلق حرية الإبداع لتضع نهاية له، لا لكي تترك الباب مفتوحا لاستخدام هذه اﻷحكام مجددا والاستناد عليها من قبل النيابة العامة، والدستور عندما منح الحق للنيابة العامة لكي تحرك الدعوى الجنائية في القضايا المرتبطة بعلانية المنتج الفني والأدبي والفكري، كان ذلك استنادا على نصوص الدستور التي وفرت الحماية لحرية الإبداع، وليس اﻷحكام التي تجاوزها الزمن.

ولم يغفل تقرير المفوضين اﻹشارة إلى مواد الدستور: «ولا ينال من كل ما سبق ما نصت عليه المادة 71من الدستور من حظر غلق او وقف وسائل الاعلام المصرية. ذلك أن هذا النص خاص بوسائل الإعلام المصرية دون غيرها… ومن ثم لا تستطيل هذه الحماية إلى هذه القناة الأجنبية…”. وهنا تعدى المفوض بشكل واضح على سلطة المحكمة الدستورية العليا، فقد تطرق إلى تفسير النص الدستوري، وكان من الأولى به إبداء رأيه بإحالة المادة المتنازع في صلاحيتها الى المحكمة الدستورية العليا، حتى تفسر المقصود من النص الدستوري وفقا لاختصاصها بذلك.18

وتتشابه الحجج التي شملها هذا التقرير بشكل كبير مع مضمون المُذكرة التي تقدمت بها النيابة العامة في قضية الكاتب أحمد ناجي، من حيث استخدام أوصاف تتعامل مع الألفاظ الجنسية بمبالغة لإظهار مدى بشاعتها، و تكرار أن اللسان يعف عن ذكر الألفاظ، والتطرق للتأثير على الأسرة، وتعد هذه المذكرة مثالا واضحا على سيطرة المنحى اﻷخلاقي المحافظ على عمل المنظومة القضائية.

فقد تقدمت النيابة بمذكرة لإستئناف حكم براءة الكاتب أحمد ناجي، ولدحض حكم البراءة، ومما جاء في هذه المذكرة: “2-…أن الكثير من الأعمال الأدبية التي حوت عبارات قد نشرت قبل التأثيم الجنائي لتلك الأفعال، كما أن عدم تحريك الدعوى الجنائية قبل بعض التجاوزات الأخرى الخادشة للحياء العام، نتيجة عدم الإبلاغ عنها أو اتصال علم النيابة العامة بها، ليس من شأنه أن يبيح ما حرمه الدستور والقانون».19 بهذه الروح العدائية للنص اﻹبداعي تصدت النيابة العامة للقضية، بهدف حبس كاتب روائي شاب، نشرت عمله موضع الاتهام إحدى الصحف المملوكة للدولة، و صدر الحكم بحبسه عامين مع الشغل.

حملت حيثيات الحكم ما يتعدى تطبيق القانون إلى الاشتغال بتقييم العمل الإبداعي، ويظهر ذلك كما ورد بالحكم من أن: «والمحكمة إذ تمهد لقضائها أن الأصل اللغوي لمعنى كلمة الأدب هو الدعوة إلى الطعام، وتوسعا الذي يأدب أي يدعو إلى المحامد و التحلي بالخلق الفاضل..حتى يحظى بقبول المجتمع به.. والرواية هي أحد فنون الأدب وأكثرها انتشارا ولها تأثير كبير في المجتمع حيث تتحدث عن المواقف وتجارب البشرية في زمان ومكان معين وتعطينا عبرة ونصيحه أو قصة ودرس نستفيد منه في حياتنا».20

وتكمل الحيثيات بحيث ينصب القاضي نفسه روائيا، إلى الحد الذي يختار فيه لكاتب الرواية أن يستخدم أدوات بلاغية بعينها، كما ورد في الحيثيات: «وغني عن البيان أن من علوم اللغة العربية علم البلاغة ومن أساليبها أسلوب الكناية والتورية، فلو كان المتهم عالما بأساليب اللغة وآدابه،ا لاستخدم ايا منهما في التعبير عما أراد، إذا ما اقتضى سياق الرواية ذلك».

لا يكتفي القضاء بتقييم العمل الإبداعي من منظور أخلاقي محافظ فقط، بل ينصب نفسه في مكانة الخبير الأعلى، الذي يضع القول الفصل بما لا يترك مساحة للاختلاف، كما سيتضح ذلك في المحور الثالث من الورقة.

 

المحور الثالث: القاضي كخبير أعلى في تقييم اﻹبداع

بداية يجب التطرق لمفهوم الخبرة في القوانين المصرية، فالقانون رقم 96 لسنة 1952 بشأن تنظيم الخبرة أمام جهات القضاء، يحدد من لهم الحق في ابداء رأيهم أمام المحاكم في المسائل الفنية و العلمية21. و منحهم صفة مأموري الضبط القضائي22. والاشتراطات التي يجب ان تتوافر فيهم كعدم مزاولة التجارة أو أي أعمال لا تتفق وكرامتهم، وللإدارة التي يتبعها ان تمنعه من اداء اي عمل، ترى فيه إخلالا بأداء وظيفته كخبير فني أمام القضاء23. وقد قسم القانون الخبراء إلى: خبراء الجدول ويتم قيدهم في جداول المحاكم من خلال لجنة خبراء الجدول، 24 وخبراء وزارة العدل ويختصون بقضايا الضرائب 25، وخبراء مصلحة الطب الشرعي ويتبعون كذلك وزارة العدل، وقد أتاح القانون لوزير العدل استحداث فروع أخرى لأشكال من الخبرة والحاقها بالمحاكم، 26 ولكن ينحصر الخبراء الذين يتم تعيينهم في ثلاث مجالات الهندسة والمحاسبة والزراعة.

ويبيح القانون الاستعانة بآخرين من ذوي الخبرة، ممن ترى جهات القضاء عند الضرورة الاستعانة برأيهم الفني من غير ما ذُكروا آنفا. وتنظم ندب الخبراء مجموعة من اﻹجراءات القانونية، ولكن فيما يتعلق بأهمية تقرير الخبير وما يؤول إليه رأيه، فقد صدر حكم من محكمة النقض يوضح أن من حق القاضي كخبير أعلى تقدير مدى قوة رأي الخبير،27 وعلى مستوى قضايا حرية اﻹبداع، لا يوجد نص يخص أعمال الخبرة في مجال الإبداع بحد ذاته في هذه القوانين، وبالتالي ليس هناك ما يحدد كيفية التعامل مع العمل الإبداعي، وما هي الحالة التي يتم فيها تطبيق قانون العقوبات على المبدعين.

وتخرج الدعوى من يد هيئة جمع الاستدلال ( وزارة الداخلية بأقسامها المختلفة وعلى رأسها المباحث العامة أو المصنفات على حسب الأحوال ) لتصل إلى جهة التحقيق، وهى النيابة العامة. ويصبح ندب الخبراء حينها إجراء من إجراءات التحقيق تباشره سلطات التحقيق، وهي بصدد مسألة فنية تقتضي الإلمام بعلم أو فن معين،28 فهي أيضا غير مُلزمة أن تعهد بالأمر إلى خبير. وهنا تثار إشكالية جديدة فيما يتعلق بقضايا حرية الإبداع، إذ أن جداول الخبراء لا تحوي متخصصين في مجال الإبداع الفني أو اﻷدبي أو الفكري، وبافتراض وجود هؤلاء الخبراء لا يمكن إصدار تقييم ملزم للأعمال الإبداعية التي تختلف الآراء حولها بشكل شديد النسبية.

يؤول بنا هذا التسلسل في سير الدعاوى إلى طرح أسئلة حول دور القضاء وسلطته في تقدير الدليل على ترجيح الاتهام، في حالة عدم الاستعانة في خطواتها الأولى بخبير قادر على الفصل في الجانب الفني. ففي قضايا حرية الإبداع قد يكون ندب المحكمة للخبراء من تلقاء نفسها أو بناء على طلب الخصوم، إلا أن الأصل يبقى أنها غير مُلزمة بإجابة طلب ندب الخبير. وفي هذه الحالة لا يكون أمام المبدعين الذين يبحثون عن الحريات التي كفلها الدستور، إلا البحث في أحكام المحاكم السابقة أو ما تعرف «بالسوابق القضائية».

وتؤكد هذه الأحكام أن كل ما يُطرح أمام المحكمة، تستطيع المحكمة وحدها تقدير قوته التدليلية، لذلك فلها أن تطرحه جانبا كلية، ولها أن تأخذ برأي خبير دون آخر، ويوضح أحد هذه الأحكام أن السلطة التقديرية للمحكمة تعني أن لها أن تأخذ جزء من تقرير الخبير و تطرح الجزء الآخر دون إبداء أسباب.29 يقربنا مشهد المتخصصين الذين تم استدعاؤهم كشهود نفي في قضية الكاتب احمد ناجي من اداء المحكمة في التعامل مع رأي الخبراء الفنيين، حيث لفت الكاتب محمد سلماوي في جلسة محاكمة الروائي أحمد ناجي المنعقدة في 12 ديسمبر 2015 إلى أنه لا يمكن تقييم العمل الإبداعي بعد القيام بتجزئته، وكان ذلك ردا على سؤال النيابة له إذا ما كان يستطيع قراءة نص الرواية أمام المحكمة، وترد المفارقة هنا في البون الشاسع بين ما توصلت له محكمة الدرجة الأولى بالأخذ برأي هؤلاء الشهود وتأسيس الحكم بالبراءة استنادا له، وبين أداء محكمة الاستئناف الذي أهمل رأي المتخصصين.

فقد ذهب القاضي في حيثيات حكم الدرجة الأولى إلى: « هو في إطار عمل أدبي وسياق عام لقصة حاكها المتهم اﻷول من وحي خياله، كما أن ما احتواه العمل الأدبي ( القصة ) علي الفاظ وعبارات جنسية هو أمر درج في العديد من المؤلفات والأعمال الأدبية والأشعار قديما وحديثا وهذا ما انتهت إليه شهادة كل من الأستاذ / محمد سلماوي والروائي / صنع الله إبراهيم والتي تطمئن إليهم المحكمة من ان العمل الادبي ﻻ يمكن الانقطاع من سياقه أو أخذ جزء منه وترك الآخر «.

بعد ذلك تدخلت النيابة العامة لتفنيد شهادات المتخصصين، في مذكرتها لاستئناف حكم البراءة الصادر لصالح الكاتب، و تدخلت بتقييمها لشهادتهم، حيث جاء في مذكرتها أن: «ما شهد به كل من محمد سلماوي و صنع الله ابراهيم … فلا يجوز إعلاؤه – أو ما استندت إليه من مؤلفات سابقة- على القيم الأخلاقية و الاعتبارات الدينية السائدة في المجتمع».

أما عن حكم الاستئناف الذي أدان الكاتب بأقصى عقوبة بالحبس عامين مع الشغل، فقد طرح أقوال المتخصصين جانبا، حيث جاء بالحيثيات أنه: «و لا ينال مما تقدم ما شهدا به شاهدا النفي أمام محكمة أول درجة من أن العمل محل المحاكمة عمل روائي وأن هناك أعمال روائية تضمنت ألفاظ وإيحاءات جنسية، فإن ذلك مردود عليه بأن تعدد الكتب المتضمنة ألفاظ وإيحاءات جنسية ليس سببا من أسباب الإباحة أو مانعا من موانع العقاب».*

ولا يقتصر القضاء على تناول قضايا حرية اﻹبداع من موضع الخبير اﻷعلى، إنما قد يستعين القضاء أيضا بالمؤسسات الدينية في عملية تقييم الإبداع، كما ستتعرض له الورقة في المحور الرابع والأخير.

 

المحور الرابع: المؤسسات الدينية كمرجعية للقضاء في تقييم الإبداع

وضع المُشرع قانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر، لينظم به حدود السلطة الرقابية للأزهر على المصنفات الفنية، ومن بعده قرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975 باللائحة التنفيذية لقانون الأزهر.

وقد أتى القانون بغير تحديد سلطات بعينها للأزهر، واكتفى بتوضيح دوره، يظهر ذلك في المادة الثانية منه والتي تتناول دوره من : حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره، وتحمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب، والعمل على إظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدم البشر ورقي الحضارة وكفالة الأمن والطمأنينة وراحة النفس لكل الناس في الدنيا وفي الآخرة، والاهتمام ببعث الحضارة العربية والتراث العلمي والفكري للأمة العربية…».

صدر بعد ذلك في عام 1994 قرار رقم 121 لسنة 48 لجنة الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، انتهت فيه الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع إلى أن الأزهر الشريف هو وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص، أو رفض الترخيص بالمصنفات السمعية والسمعية البصرية.

وفي يناير من عام 2012 أصبح هناك نص نهائي بتعديل المادة الثانية من قانون الأزهر ليصبح «الأزهر المرجع النهائي في كل ما يتعلق بشئون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة.” ومن هنا اصبح من حق الأزهر ابداء رأيه وتقدير ما إذا كان العمل الفني، يمس الشأن الإسلامي أم لا، ورأيه هذا ملزم لجميع وزارات الدولة، ومن بينها وزارة الثقافة وما يندرج تحتها من أقسام ومنها المصنفات الفنية.

ويمكن تناول قضية مسلسل يوسف الصديق كنموذج لدور الأزهر في تقييم اﻹبداع من خلال الأطر القضائية. ففي أواخر عام 2011، عرضت أمام محكمة القضاء الإداري دعوى تُطالب بوقف عرض مسلسل «يوسف الصديق» على جميع القنوات الأرضية والفضائية المصرية، ومصادرة جميع نسخ المسلسل، لتجسيده شخصيات دينية اسلامية مثل : النبي يوسف، و يعقوب، و الملاك جبريل.

أحالت المحكمة هذه الدعوى إلى هيئة مفوضي الدولة، وبالفعل تحددت جلسة لإصدار تقرير مفوضي الدولة، وأوضح التقرير أن تجسيد أنبياء الله عليهم جميعا السلام من خلال أعمال درامية يتناول فيها سيرتهم وحياتهم خلال مراحل أعمارهم المتتابعة، وهي من الأمور المتصلة اتصالا وثيقا بجوهر العقيدة،وبناءا على ذلك قررت احالة الدعوى الى دار الافتاء المصرية لتندب بدورها ثلاثة من أهل الفتوى لديها تكون مهمتهم بيان وجه الرأي في مسألة تجسيد الأنبياء من خلال أعمال درامية، وهل جميع الأنبياء على مسافة واحدة من هذا الأمر.30

ويترك القضاء للمؤسسات الدينية لعب دور رئيسي في تقييم الأعمال الإبداعية التي تناقش جوانب دينية، بحيث يصبح لها اليد العليا في المصادرة على الإبداع وملاحقة المبدعين، طالما ناقشت أعمالهم موضوعات أو جوانب دينية.

 

خاتمة

لا مجال للحديث عن حرية الإبداع دون الإلحاح على رفض أن يقترن العمل الإبداعي بتقييم، فكلما اتاحت النصوص القانونية وممارسات القضاء وغيره من جهات الرقابة والمؤسسات الدينية الفرصة لتصنيف الأعمال الإبداعية، والحكم عليها، كلما تقلصت مساحة حرية الإبداع، وصودرت الأعمال اﻹبداعية وقبع المبدعون خلف أسوار السجون في اتهامات لا معنى لها.

وهذا ما تؤمن به مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وقد سعت الورقة لتناول تفاصيل ووقائع وأحكام متنوعة وتغطي فترات زمنية مختلفة، حتى تبرز الدور شديد الخطورة الذي يلعبه القضاء في تقييد حرية الإبداع، ولكي تظهر المراحل المختلفة التي يتعرض فيها الإبداع لرقابة وتدخل جهات التحقيق والتقاضي.

هذه النماذج التي عرضتها الورقة توضح أهمية رفض أن يتم محاكمة الإبداع والمصادرة عليه من خلال إجراءات ونصوص قانونية معيبة لا تتفق وأحكام الدستور، فالقانون لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحول إلى أداة لكبت الحريات وإنفاذ الشعارات والادعاءات الأخلاقية محل الدستور.

1. لجنة الخمسين لإعداد المشروع النهائي للتعديلات الدستورية، الاجتماع السابع والثلاثين، 18 نوفمبر 2013
2. دستور جمهورية مصر العربية، مادة (67): “حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك.ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها.وللمحكمة في هذه الأحوال إلزام المحكوم عليه بتعويض جزائي للمضرور من الجريمة، إضافة إلى التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار منها، وذلك كله وفقاً للقانون.”
3. المادة (46) من الدستور الصادر في 25 ديسمبر 2012
4. بتاريخ 30 مايو 1926
5. بتاريخ 5 يونيه 1926
6. د. وفاء سلاوي- الكتب الممنوعة بين الإبداع والمحاكم (الخطاب والتأويل) – الجزء الثاني- ص27،28 -سنة 2014 – الهيئة العامة لقصور الثقافة
7. مذكرة النيابة العامة في كتاب”الشعر الجاهلي”- محمد نور “رئيس نيابة مصر”- ص7
8. المرجع السابق ص 19
9. دكتور طه حسين – برنامج “كاتب وقصة”المذاع بالتليفزيون المصري
10. http://www.elwatannews.com/news/details/1550348#.WBh_ujK7VfU.facebook
11. https://www.youtube.com/watch?v=p-WHLS292z8
12. حكم محكمة القضاء الإداري- الدائرة الثانية- لدعوى رقم 1620 لسنة 70 قضائية - بجلسة 30 يوليو 2016 - صفحة رقم 1.
13.حكم محكمة القضاء الإداري- الدعوى رقم 1620 لسنة 70 قضائية- بجلسة السبت الموافق 30 يوليو 2016- صفحة 8،9.
14. اﻷهرام، القاضي والموسيقار، 31 اغسطس 2003، العدد 42636
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/8/31/Writ1.htm
15. المحكمة الإدارية العليا- الطعن رقم 105519 لسنة 61 قضائية عليا – الحكم الصادر بجلسة 19 سبتمبر 2015 في الدعوى رقم 78410 لسنة 69 قضائية من محكمة القضاء الإداري
16. قانون - رقم 47 - لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة، المادة رقم(27).
17.نقض 26 نوفمبر 1933 الموسوعة الذهبية رقم 2481س3ق ج – 10ص77.
18. قانون - رقم 48 - لسنة 1979 بشأن إصدار قانون المحكمة الدستورية العليا
المادة 26 “تتولى المحكمة الدستورية العليا تفسير نصوص القوانين الصادرة من السلطة التشريعية والقرارات بقوانين الصادرة من رئيس الجمهورية وفقا لأحكام الدستور وذلك إذا أثارت خلافا في التطبيق وكان لها من الأهمية ما يقتضي توحيد تفسيرها.”
19. مذكرة استئناف النيابة العامة – نيابة وسط القاهرة الكلية- 9 يناير 2016
20. حكم محكمة شمال القاهرة الابتدائية – الدعوى رقم 120 لسنة 2016 جنح مستأنف وسط القاهرة الكلية – 20فبراير 2016
21. المادة رقم (1) من القانون - رقم 96 - لسنة 1952 بشأن تنظيم الخبرة أمام جهات القضاء.
22. المادة رقم (47) من القانون - رقم 96 - لسنة 1952 بشأن تنظيم الخبرة أمام جهات القضاء.
23. المادة رقم (44) من القانون - رقم 96 - لسنة 1952 بشأن تنظيم الخبرة أمام جهات القضاء.
24. المادة رقم (3) من القانون - رقم 96 - لسنة 1952 بشأن تنظيم الخبرة أمام جهات القضاء.
25. المادة رقم (50) من القانون - رقم 96 - لسنة 1952 بشأن تنظيم الخبرة أمام جهات القضاء.
26. المادة رقم (33) من القانون - رقم 96 - لسنة 1952 بشأن تنظيم الخبرة أمام جهات القضاء.
27. حكم محكمة النقض - الطعن رقم 15467 - لسنة 65 قضائية - جلسة 5/1/2004
28. (الدكتور مأمون سلامة»رئيس جامعة القاهرة الأسبق» – الإجراءات الجنائية في التشريع المصري- الجزء الثاني- ص 227- دار النهضة العربية – 2002)
29. نقض 29 مايو 1967، مجموعة الأحكام س 18،رقم 142
*. حكم محكمة جنح مستأنف بولاق أبو العلا- جلسة 20 فبراير 2016
30. تقرير هيئة مفوضي الدولة- الدعوى رقم 8931 لسنة 65 قضائية – فبراير 2012

لقراءة الورقة بصيغة PDF اضغط هنا

تابعونا على :

آخر التحديثات

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.