القضاء وتفسير الدستور في قضايا الإبداع

تاريخ النشر : الأحد, 25 مارس, 2018
Facebook
Twitter

القضاء وتفسير الدستور في قضايا الإبداع: بين مصلحة الأسرة وحرية الإبداع

“ورقة قانونية”

 

أعد الورقة: محمود عثمان، المحامي بمؤسسة حرية الفكر والتعبير.

وحررها: محمد عبد السلام، مدير الوحدة البحثية بالمؤسسة.

 

مقدمة

تابعت مؤسسة حرية الفكر والتعبير قضايا متنوعة تتعلق بحرية الإبداع على مدار سنوات، ولكن منذ صدور الدستور الحالي في عام 2014، وهناك متغير جديد على مستوى حماية الدستور لحرية الإبداع بنص واضح. وقد عُرف عن الدستور أنه يسمو على كافة القواعد القانونية، ويعتبر ركيزة للبناء القاعدي للنظام القانوني، ويتمتع بالسيادة على كافة أجزاء هذا البناء. هذا بشكل نظري، ولكن تجربة السنوات الماضية تثبت أن هناك ممارسات عملية قادرة على تعطيل الدستور، خاصة عندما تختار المحاكم أن تغلب نص دستوري على الآخر، تحت شعار حماية مصلحة المجتمع، وبما يجعل مصلحة الفرد وحريته في مرتبة تالية من الأهمية.

ومع نهاية العام 2017 برزت مجموعة من الأحكام التي صدرت ضد المبدعين وشملت عقوبات سالبة للحرية، مرتكزة على عدة قوانين تم إقرارها قبل صدور الدستور الحالي. احتوت هذه الأحكام على تفسير لنصوص الدستور، وادعت عدم تماشي نص الدستور على حرية الإبداع مع غيره من النصوص الدستورية.

لذا، تواترت الأحكام القضائية في قضايا الإبداع على تغليب ما أسمته “مصلحة الاسرة” على حق المواطن في الابداع. وعلى هذا الأساس، رفضت المحاكم العادية كل الطلبات المقدمة لها بعدم دستورية المواد العقابية المرتبطة بالإبداع، ورأت عدم جديتها. يثير هذا السلوك الذي انتهجته المحاكم المصرية تساؤلات حول دورها في تفسير الدستور، ومدى الالتباس الذي قد يقع نتيجة وضع نص دستوري في مواجهة نص آخر.

ولمحاولة الإجابة عن تدخلات المحاكم في تفسير نصوص الدستور، ينبغي التطرق لعدة نقاط أساسية منها مدى قانونية تفسير القضاء العادي للدستور، ودور المحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور، وكذلك اﻷثر الذي يتركه الدستور على ما سبقه من تشريعات لا تتفق ونصوصه.

 

تمهيد: ولاية القضاء العادي في المسائل الدستورية

لا يمكن التطرق لتفاصيل قضايا حرية الإبداع في مصر، دون شرح ماهية دور القضاء العادي في المسائل الدستورية، وهي المهمة التي خصصنا لها هذا التمهيد. ويستعرض التمهيد الفروق بين تجارب الدول وبعضها في هذا الجانب، إضافة إلى بيان طبيعة الحالة المصرية.

وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أسبق الدول إلى تبني فكرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين، إذ منحت القضاء العادي هذا الاختصاص. أرسى القضاء الامريكي هذا المبدأ في القضية الشهيرة المعروفة بإسم قضية ماربيري ضد ماديسون، لذا فجميع المحاكم الامريكية على اختلاف درجاتها تباشر عملية دستورية القوانين والرقابة عليها، كما ذهب الفقه الدستوري الأمريكي إلى أنه يجب على القضاة احترام الدستور بوصفه القانون الاسمى وعليهم تغليبه إن وجد بينه وبين القانون تعارض لا سبيل إلا الى إزالته.

اتبع القضاء في تطبيق ذلك نهج رقابة الإمتناع، حيث يمارس رقابة دستورية القوانين من خلال الامتناع عن تطبيق القاعدة التي يحكم بعدم دستوريتها، ويكون حكمها فى هذا الشأن ذا حجية نسبية بين أطراف الخصومة، وإن كان تدخل القضاء العادي في سوابق قضائية ووفق آراء الفقهاء في الولايات المتحدة الامريكية، إلا أنه قد تم النص عليه صراحة في دساتير بعض الدول وفق نموذج رقابة الامتناع مثل أيرلندا الحرة عام 1922 و 1938 والمانيا الغربية عام 1949 ورومانيا عام 1923 ومعظم دول أمريكا اللاتينية. وبذلك، يتضح أن عدد من الدول سمحت للقاضي العادي أن ينظر مدى دستورية القانون المطروح أمامه للتطبيق على الوقائع المطروحة.

وهنا ينبغي النظر في حال صدور دستور جديد وأثره على القوانين السابقة عليه وتتعارض مع نصوصه. يرى الفقيه الدستوري هانز كيلسن – ﻷفكاره دور مؤثر في نشأة المحكمة الدستورية النمساوية وغيرها فى العالم – أن العلاقة بين الدستور الجديد والقانون السابق عليه تتمثل فى إحلال نظام قانوني جديد محل نظام قانونى قديم، ومن ثم فإن القانون القديم لا يكون مقبولاً إلا فى الحدود التى لا تتعارض مع الدستور الجديد.

وقد أكدت المحكمة الدستورية الألمانية، أنه من واجب القاضي العادي التحقق من سريان التشريع (القانون) واستبعاد تطبيقه إذا تناقض مع الدستور. وفي سنة 1962، عدلت المحكمة الدستورية الألمانية عن رأيها، وذهبت إلى أن سلطة القاضي العادي في عدم تطبيق التشريع يجب أن تتوقف على المشرع، فهو الذي يحدد النص واجب التطبيق. وانتهت المحكمة الدستورية الألمانية بناءا على ذلك إلى بسط رقابتها فى جميع الأحوال على القوانين الصادرة قبل العمل بالدستور.

أما في ايطاليا، اعتنقت محكمة النقض الإيطالية مبدأ اختصاص القاضي العادي، باعتبار التشريع (القانون) السابق على الدستور منسوخًا بقوة الدستور إذا كان مخالفًا له، وذلك تطبيقًا للمادة 15 من القانون المدنى الإيطالى، التى تنص على مبدأ اللاحق ينسخ السابق، وقد اعتمد هذا القضاء على أن الشرعية الدستورية لا تبحث إلا بالنظر إلى تشريعات واجبة النفاذ، وهى التشريعات غير المنسوخة بقوة الدستور. بينما في فرنسا، يتم مراقبة التشريعات (القوانين) دستوريا قبل صدورها، عن طريق المجلس الدستوري، وأدى ذلك بالتبعية إلى تمتع هذه التشريعات بقرينة الدستورية، التي يملك المجلس الدستوري وحده دحضها قبل إصدار القانون.

وقد أكد المجلس الدستوري الفرنسي عام 1985 أنه يمكن المنازعة أمامه فى صحة تشريع سابق على الدستور، بمناسبة بحث مدى دستورية تشريع معدل أو مكمل له أو مؤثر فى نطاقه. وهذا ما رسخه المجلس الدستوري عام 1989، فلم يعد الإلغاء الضمني للتشريعات السابقة على الدستور والمتعارضة معه هى الوسيلة الوحيدة لإبطالها، ولكن كذلك يتدخل المجلس الدستوري وفق صلاحياته ليقرر عدم دستورية القانون الذي سبق الدستور.

أما وقد استعرضنا تجارب متنوعة، تنتقل الورقة إلى الحالة المصرية وحدود ولاية القضاء العادي في مصر على المسائل الدستورية. قبل أن تستأثر المحكمة الدستورية العليا باختصاص البت في دستورية القوانين، تواترت أحكام المحاكم العادية على التصدي لبحث دستورية القوانين، واعتبرت التشريعات السابقة على الدستور والمخالفة له منسوخة ضمنًا بهذا الدستور. لذا فعند تعارض القانون المطلوب تطبيقه في الدعوى مع الدستور وجب على المحاكم أن تطبق حكم الدستور وتغفل حكم القانون، وذلك إعمالا لمبدأ سيادة الدستور، وسموه على التشريعات الاخرى.

وفى هذا المعنى، قضت المحكمة الدستورية العليا فى مصر أن النصوص التشريعية لا تصاغ فى الفراغ، ولا يجوز انتزاعها عن واقعها محددًا بمراعاة المصلحة المقصودة منها، وهى تعد مصلحة اجتماعية يتعين أن تدور هذه النصوص فى فلكها، ويفترض دومًا أن المشرع رمى إلى بلوغها متخذًا من صياغته للنصوص التشريعية سبيلاً إليها، ومن ثم تكون هذه المصلحة الاجتماعية غاية نهائية لكل نص تشريعى وإطارًا لتحديد معناه. وفى هذا السياق، فإن المحكمة الدستورية العليا فى مصر لها سلطة تقديرية في تحديد مدلول النصوص التشريعية ومدى اتفاقها مع الدستور. وبذلك يرجح الأساس الدستوري للنظام القانونى المصري يرجح تغليب النص الأعلى على التشريع – وهو نص الدستور – واعتبار التشريع المخالف له منسوخًا ضمنيًا بقوة الدستور اللاحق عليه.

واستقر القضاء المصري على أن الأصل في دور القاضي العادي هو استبعاد النصوص التشريعية المخالفة للدستور، ويتجلى ذلك من خلال حيثيات الأحكام التي تصدر، إذ أن للحكم منطوق يبدأ بالديباجة المعروفة وهي “حكمت المحكمة …” ويأتي في أخر الحكم القضائي، وتسبقه الحيثيات أو أسباب هذا الحكم بمعنى أكثر تفصيلا. وترجع أهمية الحيثيات إلى حماية أطراف الدعوى من تحكم القاضي، بإلزامه الكشف عن العلة القضائية والاسباب التي انتهت به الى هذا القضاء، فضلا عن أن جميع ضمانات المحاكمة المنصفة، لا دليل على احترامها الا اسباب الحكم. وبخصوص تفسير التشريعات ونصوص الدستور وإنزالها على وقائع الدعوي، فلن يكشف عنها سوى هذه الحيثيات.

 

قضية رغبات ساخنة: كيف يتم تفسير الدستور:

على الرغم من تواتر الدساتير المصرية على حماية حرية التعبير والتي ينبثق منها الحق في النشر والابداع، إلا أن إقرار مادة لحرية الابداع في الدستور تطلب مناقشات مستفيضة، تصدرها الفنانون من اعضاء اللجنة التأسيسية للدستور والمعروفة بلجنة الخمسين،  ولأول مرة في دستور جمهورية مصر العربية يتم النص على مادة مستقلة لحرية الإبداع. لم تُطلق هذه المادة حرية الابداع دون مُحددات، وأقرت أن كل عمل فني أو أدبي او فكري يظل صاحبه محميا ولا تُطبق عليه أي عقوبة سالبة للحرية واستثنت الأعمال التي تحرض على عنف أو تمييز ما بين الأفراد. سخت هذه المادة من الدستور أي قانون يُعاقب الفنانين بالحبس طالما لم يؤدي عملهم بشكل مباشر الى عنف أو تمييز، فعلانية المنتجات الفنية سيظل لها الحماية واقصى عقوبة لها لن تتعدى الغرامة.

على الجانب الاخر تأتي مجموعة من النصوص الدستورية ترتكز عليها أحكام القضاء المصري لوقف العمل بنص حرية الإبداع، مثل المادة العاشرة من الدستور المصري الحالي، والتي نصها : ” الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها”.

الأسرة كانت حاضرة بقوة في مداولات الدعوى التي أقامتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير مُمثلة للسيناريست صلاح سعد، حين طعنت المؤسسة على قرار “المصنفات الفنية” بامتناعها عن منحه ترخيص بتصوير فيلمه “رغبات ساخنة”. تداولت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة القضية، وأمرت بإحالتها إلى “هيئة مفوضي الدولة”، والتي بدورها تُعد الدعوى و تحضرها برأي قانوني تبرزه في تقرير مُفصل يحوي أسباب ما آل إليه تقريرها.

استند دفاع السيناريست على أن قانون المصنفات الفنية ولائحته التنفيذية يعتبران الترخيص ممنوحا إذا ما تقاعست إدارة المصنفات الفنية عن إعطاء الفنان الترخيص خلال مدة 3 أشهر من تقديمه الطلب، فضلا عن أنها إذا رفضت فلابد أن يكون الرفض به أسباب مُفصله، وهو امر بديهي إذا علمنا أن من حق الإدارة الرجوع إلى الفنان في البداية لتعديل السيناريو خلال عشرة أيام من تقديمه الطلب، فمن الأولى تقديم أسباب مُفصله لو قررت الرفض. وبعد تداول الجلسات قررت هيئة المُفوضين  التوصية برفض موضوع الدعوى، وعدم احقية سعد في تصوير السيناريو.

جاءت أسباب التقرير شارحة لتأكيد نصوص الدستور على حرية الإبداع، تغير بعد ذلك مسار الأسباب حين ذكر مُحددات هذه الحرية وضوابطها، وهي بحسب التقرير: “أن لا تكون في ممارسة هذه الحرية ما يخالف الدستور والقانون والنظام العام أو الخروج على الاداب او المساس بالمصالح العليا للدولة”. تابع المُقرر تأصيله لحماية الاسرة بأن مواد الدستور الاولى لها حُجية أعلى من ما يليها، وذكر أنه: “لا يجوز مخالفة المواد الاولى من الدستور والقائمة على حماية الاسرة المصرية وحماية قيمها الدينية والأخلاقية والوطنية باعتبارها أساس المجتمع بالحقوق المتضمنة في المواد التي تليها والخاصة بحق التعبير عن الرأي والابداع، حيث إن المواد الدستورية تكمل بعضها البعض”.

بعد ذلك خلا التقرير من أي إضافة واعتمد على تكرار نفس الاسباب. وبهذه الطريقة نكون امام تفسير قضائي لنص حرية الإبداع ووضع ضوابط جديدة لهذه الحرية، وهي “القانون، والاداب العامة والنظام العام للدولة و مصالح الدولة العليا”. بالإضافة إلى أن التقرير سلم بأن النصوص الاولى في الدستور لها حجية اكبر من سابقتها، لذا فنحن بحاجة لقياس ذلك بمبادئ الدستور إن وجدت وأحكام المحكمة الدستورية العليا، و الوقوف على النصوص المنسوخة لإزاحتها كما سبق التوضيح.

وقد أرست المحكمة الدستورية العليا مبادئ لا يمكن ازاحتها عند التعامل مع نصوص حرية الإبداع، يأتي على رأس هذه المبادئ عدم جواز فرض أي قيود إضافية على الضوابط التي أوضحها الدستور والمرتبطة بحرية الإبداع الفني او الفكري او الادبي، نظرا لأن الأصل في الدستور هو تشجيع الأعمال الإبداعية وليس فرض قيود جائرة عليه، اذا فمن أين اتى التقرير بمثل هذه الضوابط؟

في بداية كل تقرير لهيئة مفوضي الدولة أو حكم قضائي تضع المحكمة عدة نصوص قانونية تستند بها على دلالة موقفها وتؤكد سلامة منطقها القانوني، هذا التقرير لم يأتي بأي نص دستوري مرتبط بتحديد هذه الضوابط على حرية الإبداع، وعوضا عنه ادرج نصوص قانون “المصنفات الفنية” والتي تضع على عاتق الرقباء تصفية كل عمل ابداعي من اي مايمس قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية او الاداب العامة او النظام العام.

اذا فنحن امام قانون يقيد من نص دستوري، ويضع ضوابط مطاطة بحيث يصعب تفاديها، إذا استرجعنا المفهوم الواسع للدستور سنرى أن مضمون القواعد الدستورية تسمو بطبيعتها على مضمون القواعد القانونية، وطبقا لنهج القضاء المصري في التعامل مع القوانين المخالفة للدستور كان من الاحرى نسخ هذه القوانين وتعطيلها إعلاء لمبادئ الدستور و نصوصه، او على الاقل أخذ هذه المواد التي رأت محاكم عادية مخالفتها للدستور بعين الاعتبار حين تُعرض على المحكمة الدستورية العليا.

من جانب آخر، فإن أحد أسباب تقرير مفوض الدولة كانت بأنه لا يجوز مخالفة المواد الأولى من الدستور – مشيرا الى مادة رقم 10 من الدستور بحماية الاسرة –  بما يليها من مواد قاصدا بها مادة حرية التعبير رقم 67. ولم يأتي التقرير في هذا الشأن بأي حكم قضائي عادي سابق أو مبدأ تم ارساؤه من المحكمة الدستورية العليا يحدد حجية المُسلمة التي أطلقها التقرير، فأصبح من الضروري البحث في الأصول والضوابط التي التزمت بها المحكمة الدستورية العليا في رقابتها على دستورية القوانين واللوائح، إحدى هذه الأصول والتي نشرتها المحكمة الدستورية العليا هي : “الرقابة الشاملة”، بحيث إذا استهدفت المحكمة رقابة دستورية احد المواد ردتها إلى مواد الدستور جميعها، وقاستها عليها كافة، فلو كانت المواد الأولى للدستور ذات اهمية او حجية أعلى، لأشارت لذلك المحكمة الدستورية العليا في أصولها وضوابطها التي تحكم سير الدعاوى المطروحة أمامها.

أكدت على ذلك أصول وضوابط المحكمة الدستورية العليا بإقرارها أن الأصل في النصوص الدستورية انها تفسر بافتراض تكاملها وباعتبار أن كل منها لا ينعزل عن غيره، ويتعين بالتالي التوفيق بينها، بما يزيل شبهة تعارضها، ولا يستوي ذلك التوفيق أن يكون بوضع قيود إضافية لم يشير إليه النص الدستوري، إن كان ذلك ما ذهبت إليه أصول وضوابط المحكمة الدستورية، فمن الضروري متابعة أحكامها لمعرفة الواقع العملي لأحكامها.

كما أكدت المحكمة الدستورية في حكم لها على أن الحقوق في مرتبة واحدة، بقولها أن الأصل في الحقوق التي كفلها الدستور أنها لا تتمايز فيما بينها، ولا ينتظمها تدرج هرمي يجعل بعضها أقل شأناً من غيرها أو في مرتبة أدنى منها، بل تتكافأ في أن لكل منها مجالاً حيوياً لا يجوز اقتحامه بالقيود التي تفرضها النصوص التشريعية، وكان هذا المجال يتحدد بالنسبة إلى الحقوق التي نص عليها الدستور في صلبه على ضوء طبيعة كل حق منها وبمراعاة الأغراض النهائية التي قصد الدستور إلى تحقيقها من وراء إقراره.

وتناول جانب من الفقه وجود نوع من التدرج بين نصوص الدستور، إذ توجد حريات تتمتع بحماية أكثر من حريات أخرى وتسمى بالحريات ذات المرتبة الأولى، وحتى تكون كذلك لابد أن يتوافر في شأنها ثلاثة أمور هي:

  1. عدم خضوع الحرية لنظام الترخيص السابق.
  2. أن المشرع لا يتدخل لتنظيم هذه الحرية إلا لتحقيق مزيد من فعاليتها وبالتالي لا يجوز الانتقاص من هذه الحريات تحت ستار التنظيم.
  3. وأخيراً أن تكون القواعد التي تحكم هذه الحريات واحدة بالنسبة لسائر إقليم الدولة.

ولو افترضنا جدلا أن هذه المواد لا تعوق ولا تنتقص من حرية الإبداع – وهو أمر لا يتصور- فإننا سنجد أن معظم الأعمال الابداعية، يتطلب لنشرها تراخيص،  وهو ما يخل بواحد من شروط الفقهاء.

 

حيثيات حكم رنا السبكي: الإبداع ودين الدولة

هذه المرة يُحاكم الإبداع أمام محكمة جنائية، قضت فيها محكمة أول درجة بحبس الفنانة رنا السبكي لمدة عام وغرامة 10 آلاف جنيه بسبب عرضها لفيلم “ريجاتا” عرضا عاما. لم يفت القاضي ذكر مصلحة أخرى ليقوم بتغليبها على الإبداع، وكانت هذه المرة هي المصلحة الدينية، فأورد في حيثياته ما يفيد تناقض مصلحة العباد في دينهم مع ما يقدمه المبدعون، وقال: وإن كان حق الإبداع من الحقوق التى كفلها الدستور إلا أن ذلك الإبداع مقيدا بالدستور أيضا الذى أورد في مادته الثانية أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، ومن ثم فإن الإبداع لابد أن يكون مقيدا بما أوجبته علينا تلك الشريعة من عدم إثارة الفتن وحسن تربية النشء”.

أمام هذا التفسير للدستور ولمواده، كان من الحتمي إيراد نصوص دستورية في الحكم أو أي ادلة من القانون توضح أين سترجح كفة العدالة، وكيف بنى القاضي منطقه القانوني في ترجيح مصلحة الدين على حرية الإبداع، لم تأتي الحيثيات بأي من ذلك سوى بضع اقوال مُرسلة و ضوابط لم يأتي بها الدستور.

واستعان القاضي فيها بقانون المصنفات الفنية، فرأي القاضي أن الفن بمختلف مجالاته واتجاهاته يصبو  إلى إرساء المبادئ التي يعتنقها المجتمع والمتوارثة له عبر العصور الطويلة، وتعليم الأجيال الناشئة المفاهيم الصحيحة لعادات المجتمع وتقاليده، دون النظر إلى ما يؤدى إليهم كسبهم من تدمير عقول وهدم قيم وأعراف توارثناها عبر آلاف السنين.

إلا أن الواقع الذي لا يستطيع أن ينكره أحد أن الابداع هو الذي يغير من هذه المبادئ بل والقوانين، والاعمال الفنية عالميا وفي مصر تنضح بأمثلة لاحصر لها، كما أن حق المبدع لا يقتصر في نشر عمله الإبداعي على مجرد الشهرة –وهي حق له لا يجوز التبرؤ منه او ادعاء النقاء بالتخلي عنه- بل هو حق في العمل والكسب وهو ما أكدته احكام المحكمة الدستورية من أن تقييد حق المبدع في نشر اعماله هو تقييد لحقه في العمل.

 

حيثيات حكم أحمد ناجي: الإبداع أم الأسرة والتقاليد

هذه القضية الدرامية في أحداثها، طوت بين صفحاتها الكثير من ما يصعب سرده في مقال أو دراسة واحدة، لذا سنكتفي هنا بالبحث في موضوعنا، وكيف أسست المحكمة قضاؤها بتغليب حماية الأسرة على حرية الإبداع. فالكاتب أحمد ناجي صاحب رواية “إستخدام الحياة” والتي تم نشرها في مصر بعد مرورها بالرقابة وحصولها على ترخيص النشر، قامت جريدة أخبار الأدب بنشر فصل منها، قرأها أحد المحامين وادعى تسبب فصل الرواية برفع ضغط دمه و خوفا منه على المصلحة العامة تقدم بشكوى للنيابة العامة والتي رفعت الأمر لمحكمة الجنح والتي برأت الكاتب من اتهامه بخدش الحياء العام.

من بعد براءة الكاتب في أول درجة، صدر حكم بالإدانة بأقصى عقوبة والتي كانت تتطلب لصدورها إجماع قضاة محكمة ثاني درجة وهي الاستئناف. عاد القضاء بهذا الحكم يوازن ما بين النصوص الدستورية ويغلب حماية الاسرة على حق المجتمع في حرية الإبداع، مُفسرا لنصوص الدستور ومضيفا لقيود حين أورد في حيثياته تفسيره الخاص لما يعنيه المشرع الدستوري من حرية الابداع، و أورد في حيثياته  أن المشرع الدستوري قصد الحفاظ على الاسرة التي هي اساس المجتمع، وأردف أن المشرع الدستوري قدمها على مصلحة الفرد أو الطائفة.

استطرد القاضي وادعى وضع يده لقصد المُشرع الدستوري مرة اخرى، ولكن هذه المرة لم يفسر المادة العاشرة واستدار نحو المادة 67 الخاصة بحرية الابداع، وهنا من الضروري سرد ما قاله نصا لخطورته :

” إن المُشرع الدستوري حين نص في المادة 67 من الدستور على حرية الإبداع الفني والأدبي لم يكن ليقصد حماية هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الكتاب يسعون في الأرض فسادا ينشرون الرذيلة ويفسدون الأخلاق بأقلامهم المسمومة تحت مسمى حرية الفكر”.

حتى هذه الحيثية فلازلنا أمام مانع دستوري من عقاب المبدع، فحتى إن ثبت قيام المبدع بما يعد جرم ولكنه لم ينحدر للتمييز بين أفراد أو تحريض على عنف فلن يستطيع حبسه و سيظل أمام عقاب وحيد بالتغريم كما نص الدستور، ولكن لم يكتف القاضي بتجريد الكاتب من صفته كمبدع، إلا أنه اورد في حيثياته تفسيرا اخر للدستور يخص العقوبة يقول فيها إن ما ورد بنص الدستور على منع العقوبات السالبة للحرية ضد علانية المنتج الفنى أو الأدبي أو الفكرى، “إلا أنها لم تمنع توقيع العقوبة المقيدة للحرية بسبب صنع المنتج الخادش للحياء”.

على الجانب الآخر قام دفاع الكاتب بعرض مذكرات تحوي مناقشات اللجنة التأسيسية للدستور و اجتماعهم لوضع المادة 67، مما يقطع اي شك بأن مقصد اللجنة هنا كان خلافا لما ذهبت إليه المحكمة الاستئنافية، فضلا عن أن أحد أعضاء هيئة الدفاع كان عضوا بلجنة الخمسين تلك، وحضر من الشهود في المحكمة الابتدائية من وضعوا النص و اوضحوا نيتهم انها كانت بوقف أعمال هذه النصوص التشريعية ونسخها لحين تعديلها او حذفها، كما رفض قضاة المحكمة الاستئنافية طلب الدفاع بالاستماع لشهود آخرين من نفس اللجنة.

استرسل الحكم في حيثياته مدعيا أن حرية الفكر والابداع لها ضوابط تتقيد بها –بحد الفاظه- وأنها لا تعمل الا في اطار المقومات الاساسية للمجتمع من دين وتقاليد وقيم اخلاقية راسخة في المجتمع المصري، وطالب مع نهاية حيثياته وناشد الجهات المسئولة وعلى رأسها المصنفات الفنية ” على الرغم من أنها غير معنية بالرقابة على الكتب” طالبها بمحاربة هذه السموم قاصدا فصل الرواية، وطالب السلطة التشريعية بتشديد عقوبات جرائم النشر.

وفي قضية الراقصتان شاكيرا وبارديس بسبب أغاني مُصورة، اصدرت محاكم الدرجة الاولى الجنائية حكم بعقوبات سالبة للحرية ضد عمل إبداعي لأول مرة في قضية معروفة إعلاميا منذ ثورة 25 يناير ، وعلى الرغم من أن الحكم لم يأتي بمقارنة مباشرة ما بين النصوص الدستورية لتغليب أحدها على الاخر كسابقتها، إلا أنه أسس أسبابه على حماية المجتمع، وأوضح أن في نشر هذا النوع من الفن إهدارا لقيمه وإساءة لسمعته، وهو منحى تواترت بعده الأحكام الصادرة ضد الأعمال الابداعية والقائمين عليها.

وأعادت قضية المطربة شيما  إلى الأذهان الأحكام القاسية ضد المبدعين حين حكم عليها بالحبس لمدة عامين، لم تأتي حيثيات الحكم بتفسير مباشر للدستور، واكتفت بالامتناع عن تطبيق النص الدستوري، إلا أنه قد ورد في الحيثيات ما يمس المجتمع والحفاظ على قيمة حين تساءل القاضي: “أى رسالة تلك شرع المتهمون فى توجيها للأجيال القادمة، وأى صورة تلك التى صور بها المتهمون مربى أجيال الوطن”،ولكن يبقى تساؤل مُلح، هل عدم ورود رسالة بالعمل الإبداعي سببا للحبس عامين. أتى حكم محكمة الاستئناف مُخففا لعام حبس واحد.

 

هل من سبيل لتعزيز الحماية القانونية لحرية الإبداع

في نوفمبر 2016 عرض اثنان من أعضاء مجلس النواب مشروع لتعديل إحدى مواد قانون العقوبات، وهي المادة 178 الخاصة بخدش الحياء العام في الأعمال الابداعية، والتي حبس بسببها عدد من المبدعين، وكان حينها بالفعل تم حبس الكاتب أحمد ناجي، بحكم استند على هذه المادة، وعلى الرغم من كونه تشريع مخالف لنص الدستور الجديد الذي يمنع بشكل صريح العقوبات السالبة للحرية ضد المبدعين، إلا أن مجلس النواب صوت برفض تعديل المادة.

تعد مثل هذه التشريعات أكثر التحديات خطرا أمام المبدعين، وتسببت في  حبس عدد ليس بالقليل منهم، ألا وهي التشريعات السابقة على النص الدستوري بمنع العقوبات السالبة للحرية ضد علانية المنتج الفنى أو الأدبي أو الفكري. فقد عرفت بعض النظم القانونية الأجنبية حلول منها الرقابة الدستورية على امتناع المُشرع، وهي رقابة قضائية تشترط فرض الدستور التزام على المُشرع باتخاذ موقف معين.

وقررتها بعض النظم الدستورية، ومنها البرتغال والمجر، تتمثل هذه الرقابة في أن يطلب من المحكمة الدستورية التحقق من عدم الدستورية إذا لم يتخذ المشرع التدابير التشريعية اللازمة لتطبيقها، كما أجازت المحكمة الدستورية في المجر ان تشير على البرلمان بإصدار تشريعات معينة خلال مدة معينة.

وفي مصر لم تراقب المحكمة الدستورية العليا إغفال المشرع معالجة وضع معين طبقا للدستور في حد ذاته، وإنما انصبت رقابتها على النص التشريعي في ضوء الإغفال التشريعي، فلو قررت مصر الاخذ بالنهج العالمي المذكور لسهل على المبدعين التقدم للمحكمة الدستورية، لكي ترصد هذه القوانين المخالفة للدستور والتي امتنع المشرع عن تعديلها.

وعلى مستوى آخر، يقع إختصاص المحكمة الدستورية الاصيل بالرقابة القضائية على القوانين واللوائح، إلا أنه ليس الاختصاص الوحيد. فهناك إختصاص بالتفسير، وهي تلك الحالة التي نص عليها القانون و اكدتها أحكام المحكمة الدستورية ضمانا لوحدة التطبيق القضائي للقوانين اذا أثارت خلافا في التطبيق وكان لها من الأهمية ما يقتضي توحيد تفسيرها، تتدخل حينها المحكمة الدستورية العليا. وتقوم من خلال تفسيرها للنصوص الدستورية على ربطها ببعضها البعض على ضوء المقاصد الحقيقية التي ابتغاها الدستور، وبما يرد عنها الغموض بما مؤداه أن النصوص الدستورية جميعها غير مستعصية على التحديد من ناحية، وأنه يتعين من ناحية اخرى ان يكون لكل منها مجال يعمل فيه متكاملا في ذلك مع غيره من النصوص.

ويكون ذلك بطلب من رئيس مجلس الوزراء أو مجلس النواب أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية، ويكون من خلال تقديم الطلب الى المحكمة الدستورية العليا لتفسير النص القانوني، كما نص الدستور على حق المواطنين في مخاطبة السلطات لذا فمطالبة المبدعين للحكومة بتفسير نص حرية الإبداع ضروري ليقطع اي شك في تفسيره ونظرا لكونه حجة على الافراد والسلطات كافة فسيكون بارقة امل امام الشكاوى الكيدية التي تسببت في حبس المبدعين.

 

خاتمة:

تظل العقوبات السالبة للحرية هي المُهدد الحقيقي لأي طاقة إبداعية، لا يضاهيها سوى الرقابة الذاتية التي يلجأ إليها المبدع للاستمرار في كسب عيشه. وهذه التفسيرات التي تحاول إفراغ نص الدستور على حماية حرية الإبداع من مضمونه لا تليق بما بذله المواطنون المصريون من جهود للمطالبة بحماية وصون الحقوق والحريات في هذا الوطن.

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.