مصطفى شوقي
مسئول برنامج حرية الصحافة والإعلام
ترى مؤسسة حرية الفكر والتعبير أن إقرار القانون الموحَّد للصحافة والإعلام -بعد مناقشة البرلمان وتصديقه- لا يمكن التعويل عليه بشكل كامل لضبط مناخ وبيئة العمل الصحفي والإعلامي بشقيه الخاص والمملوك للدولة، وانما يجب أن يكون خطوة ضمن استراتيجية أوسع تستهدف بناء منظومة إعلامية تقوم بدورها في نقل الحقيقة لجمهور الناس بحرية وشفافية ومهنية ودون قيود تعسفية (تشريعية أو من خلال الممارسة) قد تعيقها عن القيام بدورها أو تهدد أمن وسلامة المشتغلين بها.
ذلك إلى جانب عملية منهجية ومدروسة لإعادة هيكلة وتطوير منظومة إعلام الخدمة العامة الذي أصبح بفعل عقود من هيمنة الأنظمة السياسية المتعاقبة عليه، بوقًا للسلطة الحاكمة مهمته الرئيسية الترويج لسياسات القائمين على إدارة أمور البلاد وتشويه معارضيهم. ذلك فضلًا عن الخسائر الهائلة التي تتعرض لها منظومة الاعلام المملوك للدولة منذ سنوات.
بالإضافة إلى ذلك فإنه لا يمكن لأي تشريع مهما كان أن يضبط منظومة ما دون وجود إرادة سياسية حقيقية لضبط وتطوير هذه المنظومة، وهو ما يستدعي إعادة النظر في الممارسات المعادية لحرية الصحافة والإعلام التي تُعبِّر عن ثقافة راسخة منذ عقود في أغلب مؤسسات الدولة ترى في الحصول على المعلومات ونشرها وتداولها خطر يهددها وتتعامل مع الإعلام بتوجس وعنف شديدين، وهي الممارسة التي جعلت من الأعوام الثلاثة الماضية الأسوأ على صعيد حرية الصحافة والاعلام في مصر.
ومن هنا ارتأت المؤسسة أن تقدم قراءتها لقانون الصحافة والاعلام الموحد من خلال قراءة المشهد الصحفي والإعلامي بالكامل بهدف استيضاح رؤية عامة حول ما تعانيه حرية الصحافة والاعلام اليوم من أزمات وعقبات وتحديات؛ لتضع المؤسسة بين أيدي البرلمان المصري -المنتظر مناقشته وتصديقه على القانون- وكافة المهتمين بحرية الصحافة والإعلام في مصر دراسة حالة لأوضاع الصحافة والإعلام في مصر وكيف يمكن للتشريع أن يساهم في ضبط تلك الأوضاع. إلى جانب خطوات أخرى تؤكد المؤسسة أنها تحتاج لإرادة سياسية ومجتمعية واعية وحاسمة لتلبيتها.
تنشر المؤسسة تلك القراءة في سلسة من عدة أجزاء نسعى جاهدين أن يكتمل نشرها وفتح النقاش حولها قبل مناقشة البرلمان للقانون. يحاول الجزء الأول أن يُجاوب على التساؤل الجوهري “ما الحاجة إلى قانون جديد؟ وكيف مرت عملية إقراره؟”، متضمنًا مناقشة حول محاولات إعادة ترسيم المشهد الإعلامي ألخاص وإن كانت هناك علاقة بين ذلك وبين القانون الذي يجري إقراره.
ما الحاجة إلى قانون جديد؟ وكيف مرت عملية إقراره؟
انفجر الحديث عن ضرورة إعادة هيكلة وتطوير وتحرير الإعلام المصري بشقيه المملوك للدولة والخاص بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وتحديدًا بعد الدور الذي لعبته وسائل الإعلام المملوكة للدولة (مرئية ومسموعة ومقروءة ورقمية) في دعم الرئيس المخلوع مبارك ونظامه السياسي والتحريض ضد الثورة وتشويه أهدافها ومضامينها والمشاركين فيها، إلا أن السنوات الخمس الماضية لم تشهد أية إرادة سياسية من الحكومات المتعاقبة تستهدف تحرير وسائل الإعلام من قبضة السلطة السياسية والتنفيذية، واستعادة إعلام للناس يؤدي دوره في نقل الحقيقية للجمهور بحرية ويدعم ويرسخ قيم الديمقراطية والتعددية والاختلاف وقبول الآخر، بل اجتمعت إرادة الأنظمة المتعاقبة بعد يناير 2011م -رغم اختلاف توجهاتها ومرجعياتها- على ضرورة أن يظل الإعلام المملوك للدولة بوق للنظام السياسي؛ وظيفته الدعاية والترويج لسياساته وتشويه خصومه ومعارضيه. هذا التوجُّه صاحبه انفجار آخر على مستوى الإعلام الخاص؛ فقد انطلقت عشرات المبادرات لإنشاء صحف وقنوات تليفزيونية ومواقع خبرية حاولت الاستفادة من مناخ الحرية المنتظر بعد الثورة، ومع تدفق التطور التكنولوجي أصبحت شبكة الإنترنت الحاضنة الأهم لتجارب صحفية وإعلامية رقمية بات لها نصيب الأسد اليوم في التأثير على الرأي العام وصنع مواقف وانحيازات شريحة معتبرة من الجمهور، ومع التوسع في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي دخلت صحافة المواطن خط المواجهة وامتلكت تأثير مهم في الأعوام القليلة الماضية، وفي ظل كل تلك التغيُّرات التي طرأت على المشهد الإعلامي والصحفي المصري بعد يناير 2011، إلا أن القوانين الناظمة للمشهد الصحفي والإعلامي ظلت عاجزة عن مواكبة هذه التطورات والتعامل معها أو حتى ضبطها، وهو ما أدى إلى جانب حالة عدم الاستقرار السياسي التي شهدتها البلاد خلال السنوات الخمس الماضية -وخاصة التوترات التي لحقت أحداث 30 يونيو 2013م- إلى حالة فوضى إعلامية عارمة، تُمارس فيها كافة الانتهاكات؛ سواء من أجهزة الدولة المختلفة بحق حرية الصحافة والإعلام أو من وسائل الإعلام بحق الجمهور من انتهاك لخصوصية المواطنين والتحريض العلني على العنف والتمييز الفج بين المواطنين. وهو ما أدى إلى ارتفاع الأصوات مجددًا مطالبة بالتدخل الفوري لوقف تلك الفوضى وإعادة ترتيب بيئة العمل الصحفي والإعلامي واحترام قواعد وآداب المهنة. وسرعة إصدار القوانين المنظمة للشأن الصحفي والإعلامي تلبية للاستحقاق الدستوري باعتباره طوق النجاة للخروج من نفق الفوضى والعشوائية.
ورغم اقرار الدستور الجديد بأغلبية كبيرة في مطلع العام 2014م؛ إلا أننا -وحتى اليوم- ما زالنا في انتظار إقرار تلك القوانين، حيث مرت عملية إعداد وإقرار القانون بمراحل عدة قد تكون مؤشر على الدوافع وراء التأخير الكبير في إصداره.
- ألزم الدستور من خلال مواده (211،212،213)، السلطة التنفيذية بتقديم مقترح قانون يشمل تنظيم الهيئة الوطنية للصحافة، الهيئة الوطنية للإعلام، والمجلس الأعلى لتنظيم الصحافة والإعلام، إلى جانب المواد التي تُنظِّم مسألة العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية وكذلك مقترح لميثاق شرف إعلامي توافقي يهدف ضبط عشوائية المشهد الإعلامي ووقف تجاوزاته ومحاسبة المسئولين عنها طبقًا للقواعد المهنية.
- منذ إقرار الدستور أصاب عملية إعداد تلك التشريعات حالة من العشوائية والتخبُّط الشديدين كانت السبب في تأجيل خروج القانون لفترة طويلة، فبعد تشكيل رئيس الوزراء السابق، المهندس إبراهيم محلب، للجنة الثمانية لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية، انتفضت الجماعة الصحفية والإعلامية ضد اللجنة، كان ذلك بدعوى عدم تمثيلها بشكل فعلي لأصحاب المصلحة الحقيقيين، وهو ما دفع رئيس الوزراء وسط كل تلك الاعتراضات؛ للدعوة لتشكيل لجنة أخرى أكثر تمثيلًا. وبالفعل تشكَّلت اللجنة الوطنية للتشريعات الصحفية والإعلامية، أو ما أطلق عليها (لجنة الخمسين لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية). كان أهم ما يُميِّزها هو التوافق الواسع والدعم والترحيب الذي حظت به بين مختلف فئات المجتمع الصحفي والإعلامي، وقد قسَّمت العمل فيما بينها على خمس لجان، لإعداد مشروع قانون موَّحد لتنظيم المشهد الصحفي والإعلامي، يطوي بين نصوصه مواد تنظيم الهيئات التي أقرَّها الدستور. إلى جانب ميثاق للشرف الصحفي وتعديل على المواد المتعلقة بالحبس في قضايا النشر والعلانية.
- شكَّل مجلس الوزراء (لجنة الثمانية) بقرار منفرد دون الرجوع للجماعة الصحفية والإعلامية مُمثَّلة في مؤسساتها وكياناتها النقابية، ثم عاد ليتراجع تحت وطأة الغضب الواسع الذي عبَّرت عنه قطاعات كبيرة من المجتمع الصحفي والإعلامي، كنقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للصحافة والناشرين ومُلاك الوسائل الصحفية والإعلامية. ورغم تشكيل لجنة جديدة أكثر تمثيلًا وتحظى بقدر عالِ من التوافق، إلا أن لجنة الثمانية استمرت في عملها وأخرجت مشروع قانون قدَّمته للحكومة تمهيدًا لإقراره من قبل الرئاسة. في الوقت الذي كانت (لجنة الخمسين لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية) قد أخرجت نسختها النهائية من مشروع القانون بعد نقاشات وجلسات استمرت قرابة العام. كل ذلك رغم وجود لجنة تعمل تحت إشراف مباشر من مجلس الوزراء ومؤسسة الرئاسة تختص بتقديم مسودات لمشروعات القوانين المُكمِّلة للدستور بهدف استكمال البناء التشريعي والقانوني والتأكد من انعكاس نصوص وروح الدستور في مختلف التشريعات والقوانين، أُطلق عليها لجنة الإصلاح التشريعي، والتي لم يكن لها أي دور يُذكر بشأن عملية إعداد التشريعات الصحفية والإعلامية.
- ليس هذا فقط؛ حيث أوكلت الحكومة الحالية، برئاسة المهندس شريف إسماعيل، لوزارة التخطيط تحت إشراف الوزير أشرف العربي، مهمة وضع خطة استراتيجية لإعادة هيكلة وتطوير اتحاد الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو)، وتناقلت أنباء عن خطة تشمل بيع عدد من أصول ماسبيرو -الغير مستغلة، وتسريح عدد من العمالة الفائضة عن حاجة الجهاز، إلى جانب اقتراحات أخرى، بهدف تسديد ديون الجهاز وتطوير أداؤه، خاصةً بعد إلغاء وزارة الإعلام طبقًا لدستور 2014م. والمتابع للأمر يجد أن الخطوط لم تتقاطع مطلقًا. فعملية إعداد التشريعات أُديرت بمعزل كامل -تقريبًا- عن نقاشات وضع الخطة الاستراتيجية لإعادة هيكلة وتطوير منظومة الإعلام المملوك للدولة. رغم أن التشريع الخاص -تحديدًا- بالهيئة الوطنية للإعلام، والمنوطة -طبقًا للدستور- بتنظيم شئون الإعلام المملوك للدولة كانت من المفترض أن تُمثِّل المُنطلَق لأي رؤية قد تستهدف تطوير وإعادة هيكلة منظومة الإعلام الرسمي.
- استمر عمل لجنة الثمانية رغم تشكيل اللجنة الجديدة، وخروجها بمشروع قانون قدَّمته للحكومة لتقديمه للرئاسة تمهيدًا لإقراره، يختلف عن ذلك المشروع الذي انتهت إليه لجنة الخمسين سالفة الذكر. إلا أن كلا القانونين ظلَّا حبيسي الأدراج حتى نهاية عام 2015م، انتظارًا لعرضهما على البرلمان بعد أن قررت الحكومة عدم تقديم أي منهما للرئاسة وترك الأمر للسلطة التشريعية.
- مع مطلع عام 2016م؛ صرًّح وزير العدل، المستشار أحمد الزند، بوجود شُبهة عدم الدستورية في عدد من مواد القانون الذي قدَّمته لجنة الخمسين إلى الحكومة، وهو ما أثار حفيظة كل المهتمين بالشأن الصحفي والإعلامي في مصر، وذلك لأن اللجنة كانت تحوي بين أعضاءها فقهاء قانونيين قاموا بمراجعة جميع نصوص القانون المقترح للتأكد من توافقها مع الدستور، كان من بينهم، الدكتور محمد نور فرحات. تسبَّبت تلك التصريحات في خلق اصطفاف واسع بين مختلف شرائح الحقل الصحفي والإعلامي المصري، شمل نقابة الصحفيين، ونقابة الإعلاميين (تحت التأسيس) ومُلَّاك الصحف وأصحاب الشاشات وجمهور الصحفيين والإعلاميين رفضًا لأي محاولات تنوي الحكومة المصرية القيام بها للالتفاف على إرادة الجماعة الصحفية والإعلامية في إقرار التشريعات التي تُنظِّم عملهم بحسب القانون الذي أعدَّه ممثلوهم والذي لاقى كل الدعم من أبناء المهنة والمهتمين.
- في شهر مايو الماضي قررت السلطة السياسية التوجيه بالإسراع في الانتهاء من مراجعة وإقرار التشريعات الصحفية والإعلامية، كان ذلك على خلفية التطورات الكارثية التي لحقت بعلاقة السلطة السياسية والتنفيذية بجمهور الصحفيين والإعلاميين بعد اقتحام قوة أمنية تابعة لوزارة الداخلية لحرم نقابة الصحفيين للمرة الأولى في تاريخها والقبض علي صحفيين من داخله وإحالة النقيب ووكيل وسكرتير عام نقابة الصحفيين للمحاكمة العاجلة بتهمة إيواء أشخاص مطلوبين للعدالة. بناءً عليه ناقش مجلس الوزراء مشروع القانون الذي أعدته لجنة الخمسين وأرسله لمجلس الدولة لإبداء الرأي قبل عرضه على البرلمان للتصديق عليه تمهيدًا لإصداره.
- إلا أنه يبدو أن هناك جولة أخرى للقانون داخل مجلس الدولة قد تتسبب في مزيد من التأخير، حيث ينتظر قسم التشريع بمجلس الدولة، الرد على طلبه من مجلس الوزراء ببعض الاستيفاءات منها المذكرة الإيضاحية للقانون، وكذلك ملاحظات وزارة الدفاع على بعض عناصر المشروع، ورأى وزارة المالية، وجهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، ورأى المجلس الأعلى للصحافة، والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، ورأى مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون، كل جهة على حدة فيما يتعلق بها داخل مواد مشروع القانون. وكان قسم التشريع طلب من مجلس الوزراء ضرورة حضور مندوب من الجهة الإدارية التي أعدت القانون وذلك للتعرُّف منه على بعض الاستفسارات. وهو ما دفع بالنائب مصطفى بكري، عضو مجلس الشعب مع 324 نائبًا آخر بالتقدُّم بمشروع يشمل تعديلات على قانون الصحافة 96 لسنة1996م تتعلق بتشكيل المجلس الأعلى للصحافة، ومنح رئيس الجمهورية سلطة اختيار أعضاء المجلس، حيث تم وضع القانون على أجندة مجلس النواب ثلاث مرات خلال أسبوع واحد. وهو ما يعني أن القانون الموحًّد للصحافةوالإعلام أمامه بعض الوقت حتى يناقشه البرلمان ويُصدِّق عليه. وهو ما أكده “بكري” في تصريح صحفي “أن قانون الصحافة والإعلام لن يتم الانتهاء منه في الوقت القريب وهناك أكثر من جهة تعمل على وضع مشروع للقانون، ونحن بحاجة إلى تشكيل مجلس أعلى للصحافة في أقرب وقت، خاصة وأن كل رؤساء الصحف القومية انتهت مدة ولايتهم وهم موجودون حاليا لتيسير الأعمال، لذلك فإن تعديل القانون 96 سيوفر وقتا على الجميع سواء المجلس لحين الانتهاء من القانون الجديد، أو المؤسسات الصحفية باختيار رؤساء تحرير جدد” وينتظر إقرار هذه التعديلات بعد مناقشتها من قبل البرلمان خلال الأيام القليلة القادمة.
- تصريحات “بكري” أعادت القضية لنقطة الصفر من جديد، فقد أشار إلى أن القانون لن يتم الانتهاء منه في وقت قريب وأن هناك أكثر من جهة تعمل على وضع مشروع للقانون. إلا أن المؤسسة لم يتسن لها التأكد ما إذا كان التصريح يعني أن القانون الذي يراجعه قسم التشريع بمجلس الدولة -للتأكد من دستورية مواده- ليس النسخة الوحيدة لمشروع القانون، حيث يشير التصريح إلى أن البرلمان سوف يناقش أكثر من مشروع قانون وهو أمر مقبول إذا كانت عملية إقرار القانون في أولى مراحلها وليس بعد كل ذلك الوقت المهدر والمجهود المبذول دون عائد لقرابة عامين مضوا. وفي ظل كل هذا التأزم في العلاقة بين السلطات المصرية وجمهور الصحفيين والإعلاميين، فضًلا عن قدر هائل من العشوائية والفوضى الإعلامية ومعدل غير مسبوق من الانتهاكات التي مارستها السلطة التنفيذية وعلى رأسها الأجهزة الأمنية بحق حرية الصحافة والإعلام وحقوق الصحفيين والإعلاميين.
- حتى كتابة هذه السطور لا يعلم أحد متى يمكن الانتهاء من إقرار القانون الموحَّد للصحافة والإعلام، إلا أننا وقبل الخوض في نقد مواد القانون وروحه وفلسفته؛ يجب علينا الإشارة إلى أنه التقدُّم بمشروع لتعديل بعض مواد قانون الصحافة 96 لسنة1996م والذي تقدَّم به عدد كبير من النواب ويُنتظر إقراره، وتحديدًا إذا ما وُضِع جنبًا إلى جنب مع عملية إعادة ترسم الخريطة الصحفية والإعلامية الذي نشهده مصر اليوم؛ قد يعطوا قراءة أولية للأسباب الحقيقية وراء تأخير صدور القانون والمماطلة فيه عامين كاملين رغم الضرورة الملحة التي يفرضها الظرف الموضوعي لإصداره .
تأميم المشهد الصحفي والإعلامي
أدركت سلطة 3 يوليو سريعًا دور الإعلام بمختلف وسائله في التأثير الكبير على قطاعات واسعة من الجمهور وصنع المواقف والانحيازات، إلى جانب قدرته الهائلة على خلق حالة من الحشد والتعبئة لم تعد الطرق التقليدية ذات جدوى في القيام بها. وليس هناك دليل على ذلك أكبر من الدور الذي لعبته وسائل الإعلام المختلفة في مناهضة سلطة الإخوان المسلمين وتمهيد الطريق لانتفاضة الجمهور في الثلاثين من يونيو 2013م. لذلك يبدو أن هذه السلطة قررت إعادة تشكيل المشهد الصحفي والإعلامي المصري بالشكل الذي يسمح بترويج سياساتها وخدمة مصالحها، وقد كان لهذه الاستراتيجية محوران رئيسيان؛
المحور الأول؛ تطهير الساحة الإعلامية والصحفية من كافة الأصوات المعارضة والمختلفة مع ما آلت إليه الأمور بعد قرارات الثالث من يوليو، وخاصة تلك الأصوات التي عارضت فض اعتصام أنصار الرئيس السابق “محمد مرسي” بميداني رابعة العدوية والنهضة، في أغسطس من العام 2013م،حيث شهدت الفترة منذ 3 يوليو وحتى اليوم معدلات غير مسبوقة على صعيد الانتهاكات التي مارستها السلطات المصرية بحق حرية الصحافة والإعلام، بالإضافة لذلك، فقد اصطفت وسائل الإعلام الخاصة مع الدولة فيما أسمته الدولة “حربًا على الإرهاب” وساهمت في زيادة رقعة التأييد لسياسات النظام من خلال تبني خطاب تعبوي مساند للدولة نشأ عنه استمرار سياسة ”الإقصاء“ وتكميم أفواه المعارضين وممارسة درجات مختلفة من الرقابة الذاتية –الطوعية والإجبارية- من جانب العاملين في حقلي الصحافة والإعلام، لضمان خلو الخطاب الإعلامي من كل ما يمكنه أن يُعكِّر صفو النظام أو يُظهِر تباينًا في المواقف بين وسائل الإعلام هذه وبين القيادة السياسية. فقد شهدت الفترة من منتصف 2013م وحتى اليوم تضييقًا واسعًا على الصحفيين أثناء تأدية مهام عملهم، بدءًا بمنع وفرم ووقف أعداد لصحف مصرية عديدة بأوامر من جهات سيادية، وانتهاءً بحبس عدد كبير من الصحفيين على خلفية تأديتهم لمهام عملهم الصحفي، فضلًا عما شهدته الفترة الماضية من ارتفاع وتيرة القضايا التي أحيل على إثرها رؤساء تحرير وصحفيين للنيابة العامة بتهم عدة، من بينها نشر أخبار كاذبة وإهانة القضاء، بالإضافة إلى التوسُّع الكبير في قرارات حظر النشر، سواء الصادرة من قبل النائب العام أو هيئات قضائية، في محاولة لاحتكار الجهات الأمنية والتنفيذية للرواية الرسمية حول ما يدور في مصر من أحداث وغلق الطريق أمام أي اجتهادات صحفية أخرى، وهو ما كان من ضمن نتائجه انخفاض مؤشر مصر من المرتبة 158 إلي 159 في ترتيب حرية الصحافة السنوي الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”، وبلوغها المرتبة الثانية عالميًا في اعتقال الصحفيين، بعد الصين في تقرير لجنة حماية الصحفيين، عن العام 2015م، الأمر الذي وصل مرحلة غير مسبوقة باقتحام مقر نقابة الصحفيين ومن بعدها إحالة نقيب الصحفيين وعضوين بمجلس النقابة للمحاكمة العاجلة بتهم تتعلق بممارسة لمهام عملهم في الدفاع عن وحماية أبناء المهنة من تغوُّل السلطات الأمنية.
المحور الثاني؛ هو استعادة النظام السياسي والسلطة التنفيذية قبضتيهما على المشهد الإعلامي والصحفي عبر عملية واسعة لإعادة ترسيم الخريطة الإعلامية بما يتوافق وهوى القائمين على إدارة الأمور في مصر. وبالتالي فإنه لم يكن من الحصافة بمكان أن يتم إقرار القوانين المنظمة للشأن الصحفي والإعلامي قبل إنجاز تلك المهام والتأكد من السيطرة على وتدجين قدر مهم ومؤثر من المنابر الإعلامية ليكون ظهير مساند للسلطة السياسية في معركتها من أجل البقاء على سُدة الحكم.
فعلى سبيل المثال؛ يشهد المجتمع المصري في الشهور الماضية عملية متكاملة ومنهجية -تتدخل فيها أطراف عدة- تستهدف إعادة تشكيل المشهد الصحفي والإعلامي بالكامل، وقد برزت خلال الشهور الماضية بعض الملامح التي تشير لطبيعة هذا التحوُّل الذي يشهده الإعلام المصري، حيث تناولت تقارير صحافية ظهور كيانات وتحالفات جديدة ودمج مجموعة من القنوات والمؤسسات تحت مظلة واحدة، وأخرى في طريقها إلى الظهور في السوق الإعلامي، فيما يمكن أن نطلق عليه عملية لإعادة ترسيم الخريطة الإعلامية التي شهدتها السنوات الخمس الماضية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. حيث أعلن رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة، المموِّل والداعم الرئيسي لحزب مستقبل وطن المؤيد للحكومة، استحواذه على كامل أسهم قنوات “أون تي في” المملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس، وذلك عبر بيان أصدرته شركة “إعلام المصريين” أكدت فيه على نقطتين شديتي الأهمية؛ الأولى تتعلق بتوجهات القناة التحريرية، حيث أشار البيان لاستمرار السياسة التحريرية للقناة في تأدية دورها نحو “دعم استقرار الدولة المصرية والعمل على المساهمة في تحريك الاقتصاد المصري ومساندة القيادة الوطنية المصرية في تحقيق تطلعات شعبنا إلى مستقبل أفضل..” ولم يذكر البيان سوى ثورة “30 يونيو” وهو الأمر الذي قد يعطي انطباعًا عن طبيعة توجُّه القناة خلال الفترة القادمة، وهو ما تدعمه شواهد عدة تشير لعلاقة تربط بين رجل الأعمال “أحمد أبو هشيمة” مع أجهزة أمنية سيادية. إلا أن النقطة الثانية جاءت لتعبَّر عن أبعد من ذلك “وتؤكد شركة إعلام المصريين ، أن خطوة الاستحواذ على قناةON TV تأتى كخطوة أولى ضمن مجموعة خطوات ومشروعات إعلامية مستقبلية أخرى سيتم الإعلان عنها تباعا في مجال التوسع في إطلاق المحطات التليفزيونية ، وشركات الدراما وإنتاج المسلسلات ، فضلًا عن مشروعات أخرى على صعيد الإعلام الرقمي والبث التليفزيوني عبر الإنترنت من خلال مجموعة قنوات موجهة للشباب على الشبكة العالمية، بالإضافة إلى إطلاق محتوى إعلامي باللغة الإنجليزية وبكوادر مصرية شابة.” وهو ما يدعم أننا أمام صرح إعلامي جديد يجري تشييده ليكون قطب مؤثر في المشهد الإعلامي المصري. فإلى جانب قناة “أون تي في” يمتلك “أبو هشيمة” جريدة اليوم السابع وموقع دوت مصر الإليكتروني وجريدة صوت الأمة، كما يستحوذ على نسبة 51% من أسهم شركة “بريزنتيشن” للدعاية. وفي اتجاه آخر قام “أبو هشيمة” بالاستحواذ على نسبة 50% من أسهم شركة “مصر للسينما” ليصبح شريكًا مهمًا للمنتج كامل أبو علي، وتكون أولى ثمرات الشراكة إعلان شركة “مصر للسينما” عن دخولها مجال إنتاج الدراما التليفزيونية، وتبدأ أول أعمالها بإنتاج الجزء الثاني من مسلسل الجماعة للكاتب والسيناريست وحيد حامد المعروف بتاريخه الحافل في صناعة السينما والدراما في مصر، إلا أنه معروف أيضًا بمواقفه المتشددة والناقدة بعنف دومًا لمشروع الإسلام السياسي وخاصةً جماعة الإخوان المسلمين.
ذلك في الوقت الذي أعلن فيه رجل الأعمال محمد الأمين عن دمج مجموعة قنوات “سي بي سي” مع شبكة قنوات “النهار” ليصبحوا تحت قيادة مؤسسية واحدة واستراتيجية تحريرية عامة تهدُف لصحوة صناعة الإعلام داخل مصر سواء اقتصاديا أو إعلاميا، حسبما ذكر في مؤتمر صحفي للإعلان عن التحالف الجديد. بينما لم ينزوي رجل الأعمال المصري الشهير نجيب ساويرس -المؤسس والمموِّل الرئيسي لحزب المصريين الأحرار- عن المشهد الإعلامي حيث أعلن مؤخرًا عن انطلاق مؤسسة “أونا” تحت قيادة الصحفي مجدي الجلاد لتضم تحت مظلتها مواقع “مصراوي وفيتو ويلا كورة” ووكالة أونا الإخبارية، فضلاً عن إصدار صحيفة يومية باسم مصراوي. وفي تصريح صحفي أكد “الجلاد” أن تجربته الجديدة مع رجل الأعمال البارز نجيب ساويرس في الكيان الإعلامي (أونا) تهدف إلى خدمة مصالح الدولة والدفاع عنها في مواجهة أعدائها وتحقيق الاستقرار الذي يقود جهوده بنجاح الرئيس عبد الفتاح السيسي. ذلك وأفادت أخبار وتقارير صحفية مختلفة غن قرب انطلاق صحيفة وقناة تليفزيونية جديدة تحت اسم “الزمان” تديرها الصحفية إلهام شرشر زوجة وزير الداخلية الأسبق “حبيب العادلي”، وزير الداخلية إبان فترة حكم مبارك، تهدف من ضمن ما تهدف لتصحيح الصورة السلبية لوزير الداخلية الأسبق الذي اتُهٍم عقب ثورة يناير في قضايا عدة أهمها “قضية قتل المتظاهرين” والتي برأته محكمة النقض ومساعديه منها. إلى جانب أخبار عن قرب بيع قناة “الحياة” المملوكة لرجل الأعمال ورئيس حزب الوفد “السيد البدوي” لمستثمر خليجي.
لا تحاول هذه الورقة أن تعطي أحكامًا بشأن مستقبل المشهد الإعلامي المصري أو طبيعة التغيُّرات التي طرأت على سوق الإعلام بل تحاول قراءة ذلك المشهد الجديد وتلك التغيُّرات المهمة في سياق عام تواجهه حرية الصحافة والإعلام منذ قرارات الثالث من يوليو وحتى اليوم، خاصة وأننا في انتظار خروج القانون الموحَّد للصحافة والإعلام -الذي تأخر قرابة العامين- بعد مناقشة البرلمان وتصديقه. ليوفي بالاستحقاق الدستوري. ولعل الشواهد التي حملها مشروع القانون تفضي بحقيقة واحدة -دون مواربة- وهي أن عملية إعادة تشكيل المشهد الصحفي والإعلامي ليست في صالح حرية الصحافة والإعلام في مصر بل العكس.
فعلى سبيل المثال; نصَّت المادة (42) من مشروع القانون على “.. ولا يقل رأس مال الشركة المدفوع عن ثلاثة ملايين جنيه إذا كانت الصحيفة يومية، ومليون جنيه إذا كانت أسبوعية، و(500) ألف جنيه إذا كانت شهرية، و(500) ألف جنيه للصحيفة الإلكترونية، و(500) ألف جنيه للصحيفة الإقليمية اليومية و (200)ألف جنيه للصحيفة الإقليمية الأسبوعية و(100) ألف جنيه للصحيفة الإقليمية الشهرية، على أن تطبع في مطابع فى ذات الإقليم ويكون مقرها في داخله . ويودع رأس المال بالكامل قبل إصدار الصحيفة في أحد البنوك العاملة في مصر ..”، حيث قفزت المادة برأس المال المدفوع في حالة تأسيس صحيفة يومية من مليون جنيه طبقًا لنص المادة (52) من قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996 إلى ثلاثة ملايين جنيه وهو الأمر الذي يجعل من إمكانية إنشاء صحيفة يومية جديدة أمر بالغ الصعوبة وحكر على رجال الأعمال، ويغلق الباب أمام أي مبادرات صحفية تعاونية أو مستقلة أو شابة أو حتى محلية، فقد نصَّت نفس المادة على أن يكون رأس المال المدفوع للصحيفة الأسبوعية مليون جنيه بدلًا من 250 ألف جنيه، والشهرية 500 ألف جنيه بدلًا من مائة ألف جنيه. وأدخلت المادة الصحف الإلكترونية والإقليمية تحت مظلة القانون وقررت مصاريف إنشاء الصحيفة الإلكترونية نصف مليون جنيه والصحيفة الإقليمية كذلك إذا كانت يومية و200 ألف جنيه إذا كانت أسبوعية ومائة ألف جنيه إذا كانت شهرية. حيث يسعى القانون الجديد لتضييق الخناق أمام ذلك التدفق النامي منذ ثورة يناير 2011م نحو تأسيس مبادرات إعلامية مستقلة وشابة. والتي لم يعد في إمكانها -إذا كانت ضعيفة التمويل- حتى إنشاء صحيفة إلكترونية، فقد أدخل القانون الجديد الصحافة الإلكترونية تحت مظلته وجعل شرط إنشاء صحيفة إلكترونية أن تمتلك رأس مال “نصف مليون جنيه” وهو أمر يبدد آمال كثيرة شابة لإنشاء مبادرات صحفية أو إعلامية جديدة بالتمويل الذاتي. أما بالنسبة لوسائل الإعلام المسموع والمرئي الذي يبث على الإنترنت، فيتطلب القانون ألا يقل رأس مال الشركة عن خمسة وعشرين مليون جنيهًا للقناة التليفزيونية الإخبارية أو العامة، وخمسة عشر مليون جنيه للقناة التليفزيونية المتخصصة، وسبعة ملايين جنيه للمحطة الإذاعية، ونصف مليون جنيه للمحطة أو القناة التليفزيونية الرقمية على الإنترنت. هنا يمحي القانون الحدود الفاصلة بين الأشخاص الطبيعيين والأشخاص الاعتباريين، حيث يتطلب أن يكون الشخص الطبيعي مساهمًا في الشركة المساهمة المنشئة للوسيلة الإعلامية. ونفس الأمر مع إنشاء القنوات التلفزيونية و “الرقمية”. فضلًا عن أن المادة نصَّت في فقرتها الأخيرة على “وبخلاف هذا يضاف على المبالغ المقررة سابقاً لتأسيس الصحف نسبة 15% من قيمتها كأحد موارد الصندوق المنصوص عليه في المادة (14)”. وهو صندوق للتأمين ضد البطالة والعجز.
إن هذه المادة في علاقتها بما يجري الآن من إعادة ترتيب للمشهد الإعلامي تجعل إمكانية دخول المشهد بعد إعادة ترتيبه حكر على شريحة محددة وضيقة من الجمهور، وهو ما يعطينا إشارة للسبب وراء تأخير القانون، حتى يتم ضبط المشهد كما يحلوا للقائمين على إدارة الأمور قبل أن يُقفل الباب بدرجة كبرة أمام أي تدفقات جديدة قد تغير في توازنات لعبة صناعة الإعلام. وليس أكثر دلالة على ذلك من اشتراط “نصف مليون جنيه” لتأسيس قناة رقمية على “الانترنت” والأفدح وضع غرامات لا تقل عن ربع مليون جنيه ولا تزيد على نصف مليون جنيه لكل من قدم بثاً رقمياً من دون ترخيص. وبالتالي يتضح أيضاً أن الهدف هو غلق الباب في مواجهة المبادرات الشابة والمستقلة الغير قادرة على تحمُّل تكلفة التأسيس التي اشترطها القانون، وذلك بهدف التضييق على أشكال الصحافة الناشئة “صحافة المواطن وصحافة الانترنت” والتي لاقت إقبالا كبيرًا لدى شرائح معتبرة من الجمهور، كما أن تلك القيود فاقمت من أزمة غياب أشكال الصحافة المحلية التي كان من المفروض أن يشجعها القانون وينميها ويزيل القيود والعقبات في سبيل انشاءها بدلًا من تكبيلها بقيود واشتراطات مالية مبالغ فيها.
كما أن الهدف الذي أعلنه بعض أعضاء لجنة الخمسين لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية من زيادة قيمة رأس المال المدفوع لتأسيس صحيفة أو قناة جديدة وهو تأمين حقوق العاملين في تلك المؤسسات ، خاصة وأن هناك حالة من عدم الاستقرار في البيئة الإعلامية تسببت في ظهور ثم خروج مفاجئ لعدد من المبادرات الإعلامية والصحفية في الفترة الماضية إلى جانب إعادة هيكلة مؤسسات موجودة بالفعل مما تسبَّب في خروج عدد كبير من العاملين دون الحصول على مستحقاتهم، إلا إن حفظ مستحقات العاملين كان يمكن حمايته والتأكيد عليه عبر أكثر من موضع داخل القانون دون الحاجة إلى اشتراطات تعجيزية فيما يخص شروط التأسيس. أضِف إلى ذلك أن القانون الجديد عرَّف الصحفي والإعلامي باعتبارهم -وفقط- أعضاء نقابة الصحفيين والإعلاميين رغم أن الفئة الأكثر تعرُّضًا للانتهاكات جراء التسريح أو غلق المؤسسة الصحفية أو الإعلامية وخاصة على سبيل الحصول على مستحقاتهم هم هؤلاء الصحفيين الغير مقيدين بنقابة الصحفيين وهو الأمر الذي شهدته عدد من الوسائل الصحفية والإعلامية خلال الفترة الماضية وتسبب في أزمات كبيرة -تدخلت النقابة في بعضها- بين العاملين في تلك المؤسسات وإدارات مؤسساتهم، مثل جريدة التحرير المملوكة لرجل الأعمال أكمل قرطام، والتي أعلنت عن وقف النسخة الورقية المطبوعة وسرَّحت عدد كبير من الصحفيين، فضلًا عن عمليات إعادة الهيكلة التي شهدتها صحف كالمصري اليوم والشروق، وموقع “دوت مصر” بعد شراء أبو هشيمة له، وكذلك قناة “أون تي في” بعد بيعها لنفس الرجل. إلا أن القانون الجديد لم يُقِر أي نوع من الحماية لتأمين حقوق هؤلاء الصحفيين، بل أنه لم يعترف بهم من الأساس، في ظل عجز نقابة الصحفيين -أو عدم رغبتها- أن تكون مظلة حقيقة تضم كافة المشتغلين بالصحافة دون قيود تخلق تمييزًا كبيرًا بين أبناء المهنة الواحدة. لتترك العلاقة بين الصحفيين والمؤسسات الخاصة والمستقلة غير طبيعية، وبدون ضابط أخلاقي، وبدون عقود عمل وبدون راتب، وذلك مقابل الاكتفاء بشهادة لدخول نقابة الصحفيين، ولا يفوتنا التأكيد على أن نقابة الإعلاميين مازالت في طور التأسيس وأمامها الكثير من الوقت والتحديات حتى تكون نقابة مهنية معبرة بشكل حقيقي عن جمهور الإعلاميين في مصر.
رغم التخوفات الكثيرة التي أثارتها عملية إعادة تشكيل المشهد الإعلامي الجارية في مصر اليوم حول إمكانية ظهور احتكارات جديدة لسوق الإعلام واضحة التوجهات؛ إلا أن القانون الجديد لم يقدم الكثير على هذا المستوى، بل أنه حقق تراجعًا عن قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996 والذي نصَّ على عدم جواز زيادة ملكية الشخص وأفراد أسرته وأقاربه حتى الدرجة الثانية في رأس مال الشركة على 10% من رأس مالها، ويقصد بالأسرة الزوج والزوجة والأولاد القصّر”. حيث نصَّ القانون الجديد على “ولا يجوز للفرد الواحد وزوجته و أولاده القصر الجمع بين ملكية أكثر من صحيفة أسبوعية أو شهرية أو إلكترونية، كما لا يجوز للفرد الواحد ملكية أكثر من 10 % من رأس مال الصحيفة اليومية. كما لا يجوز للفرد الواحد وزوجته وأولاده القصر ملكية أو المساهمة في ملكية أكثر من صحيفة”. فرغم التغليظ الشكلي على طبيعة ملكية الصحف إلا أنه استثنى أقارب المالك من الدرجة الثانية وجعل من حقهم مع الفرد الواحد وأسرته ملكية أكثر من صحيفة وكذلك فتح الباب للأسرة الواحدة أن يكون لها الحق في تملُّك كامل رأس مال صحيفة يومية. الأهم هو أن هناك أساليب عدة للتهرب من أشكال الاحتكار التي نصَّ القانون على عدم جوازها، ففي كل الأحوال ستصبح شركة “إعلام المصريين” المملوكة لرجل الأعمال “أحمد أبو هشيمة” غير مدانة بأي شبهة احتكار، رغم أنها تمتلك اليوم قدرًا غير يسير من وسائل الإعلام المختلفة. وكذلك مؤسسة “أونا” المملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس وغيرها. ذلك أن مواجهة الاحتكار فلسفة عامة وليست مجموعة بنود يمكن الالتفاف عليها، فعندما تغلق الباب بشروط تعجيزية لتأسيس الصحف والقنوات أمام مبادرات صحفية وإعلامية جديدة فأنت تساهم بشكل مباشر وغير مباشر في تسهيل عمليات الاحتكار، كما أن القيود المالية التي اشترطها القانون لتأسيس الصحف والقنوات وخاصة الرقمية منها يجعل من إمكانية تقديم إعلام حر، وبكلفة زهيدة، وقادر في الوقت ذاته على مقاومة سطوة الإعلان وهيمنة المؤسسات الإعلامية الكبيرة أمر بالغ الصعوبة. فليس مقابل تنظيم الفوضى قبول الاحتكار.