للاطلاع على الورقة كاملة بصيغة PDF
تحرير: محمد ناجي، الباحث بمؤسسة حرية الفكر والتعبير
مقدمة
بدأت الحكومة المصرية، في 24 مايو 2017، حملة واسعة للرقابة على الإنترنت نتج عنها حجب ما لا يقل عن 500 موقع إلكتروني متنوع ما بين مواقع صحفية وأخرى تتبع منظمات مجتمع مدني وكذلك مواقع البروكسي/ مواقع تخطي الحجب. إلا أن محاولات الحكومات المصرية المتعاقبة للسيطرة على الإنترنت ليست وليدة هذا التاريخ حيث بدأت تلك المساعي مع تصاعد أهمية الإنترنت كأداة للتعبئة والضغط السياسي.
كانت المحطة الأبرز في هذا السياق هي حجب الحكومة المصرية الإنترنت عن مصر بشكل كامل إبَّان ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011. إلا أن هذا السعي أصبح حثيثًا في الفترة التي تلت عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي وتولي الجيش زمام الأمور، تزامن ذلك مع مساعي السلطة إلى خنق المجال العام ككل، والتضييق على أي مظاهر مناهضة للحكومة الجديدة في الشارع المصري حيث بزغ الفضاء الإلكتروني كوسيلة _وحيدة تقريبًا_ للتعبير الحر عن الرأي.
منذ بدء الدولة في حجب المواقع الإلكترونية، لم تفصح أي جهة مسئوليتها عن عمليات الحجب الواسعة أو أسبابها رغم مطالبات حقوقية عديدة، وكذا وجود ثلاث قضايا منظورة أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة تطالب بالإفصاح عن الجهة والسند القانوني وراء الحجب. عدا قرارًا واحدًا صدر عن لجنة التحفظ على/ وإدارة أموال جماعة الإخوان المسلمين بحجب 33 موقعًا فقط.
إلى جانب الحجب، ألقت السلطات المصرية القبض على ناشطين كُثر عبر الإنترنت ووجهت إليهم تهمًا وفقًا لعدد من القوانين المختلفة، أهمها قانون الاتصالات وقانون العقوبات المصري وقانون مكافحة جرائم الإرهاب. ومع أن نصوص هذه القوانين عامة فقد استطاعت السلطات أن توجه من خلالها اتهامات إلى ناشطي ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، مثل: إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، نشر الأخبار الكاذبة، والانضمام إلى جماعة إرهابية.
ونظرًا إلى أن عمليات حصار الإنترنت وقمع مستخدميه أصبحت أوسع مما تحويه القوانين القائمة، فقد سنت الدولة قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. تهدف الدولة من خلال هذا القانون، الذي يأتي في 45 مادة مقسمة على أربعة أبواب، إلى السيطرة التامة على الإنترنت وقمع مستخدميه وتقنين ممارسات الدولة في الرقابة على هذا الفضاء وحجب مواقع الويب والمراقبة الجماعية على الاتصالات. تم تداول مسودة هذا القانون على مدار ثلاث سنوات متتالية، حتى أقره البرلمان في 5 يونيو 2018، وصدَّق عليه رئيس الجمهورية ونُشر بالجريدة الرسمية، ليصبح ساريًا من 18 أغسطس 2018.
في الوقت نفسه، وافق مجلس النواب المصري أيضًا على قانون تنظيم الصحافة والإعلام، والذي يمكن من خلال مواده ممارسة الرقابة على الإنترنت، حيث تُعطي مواده المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام سلطة توقيع العقوبات على كل موقع إلكتروني شخصي أو مدونة إلكترونية شخصية أو حساب إلكتروني شخصي، متى بلغ عدد متابعيه 5 آلاف شخص أو أكثر، وهو ما يُظهر سعي البرلمان إلى وضع نظام للمراقبة الشاملة على الحسابات والمدونات والمواقع الشخصية، وتمكين المجلس الأعلى للإعلام _والذي لا ينص قانون تنظيمه على هذه الصلاحية_ من ملاحقة المواطنين الذين يعبرون عن آرائهم عبر الإنترنت.
صدَّق رئيس الجمهورية على القانون وأصدره تحت رقم 180 لسنة 2018 في الجريدة الرسمية بتاريخ 27 أغسطس ليصبح ساريًا من وقتها.
تحاول هذه الورقة أن تقدم قراءة فيما يتعلق بحالة الإنترنت المتوقعة وفقًا لنصوص القانونين الجديدين. تنقسم الورقة إلى ثلاثة فصول صغيرة: الأول يتناول المواد المتعلقة بالرقابة على الإنترنت، بينما يتناول الثاني المراقبة الشاملة على الاتصالات في مصر، في الوقت الذي يعرض فيه الثالث العقوبات المغلَّظة التي يفرضها القانون على المستخدمين.
قوانين جديدة للتوسع في الرقابة على الإنترنت
يكرس قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لحجب المواقع الإلكترونية، وفقًا لمادته رقم (7) حيث يمكن حجب المواقع في حالة نشر أي محتوًى يُعد جريمة من الجرائم المنصوص عليها بالقانون، شريطة أن تشكل تهديدًا للأمن القومي أو تعرض أمن البلاد أو اقتصادها القومي للخطر، وهي ألفاظ _كما هي عادة المشرع المصري_ فضفاضة. ويتم حجب الموقع في هذه الحالة سواء كان يُبث من داخل مصر أو من خارجها. وخلال الفترات السابقة واجه ضحايا انتهاكات حرية التعبير في مصر اتهامات مماثلة، مثل: التحقيق مع 9 صحفيين من جريدة المصري اليوم على خلفية نشر تحقيق صحفي بعنوان: “الدولة تحشد الناخبين” حيث وجهت إليهم اتهامات بنشر أخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالأمن والصالح العام عن سوء قصد.
إضافة إلى قانون “الجريمة الإلكترونية، تم صياغة المادة (19) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام بصياغات غير منضبطة وغير محددة، بحيث تمنح الجهات المعنية بتطبيق القانون السلطةَ التقديريةَ في حجب المواقع، دون التقيد بمعايير واضحة. وهذا توجه تشريعي معتاد من قِبَل البرلمان المصري، يهدف إلى تطويع القوانين الصادرة لانتهاك حقوق المواطنين. حيث يمكن، طبقًا لهذه المادة، حجب الموقع في حالة نشر أو بث أخبار كاذبة أو ما يدعو أو يحرض على مخالفة القانون، أو إلى العنف أو الكراهية، أو ينطوي على تمييز بين المواطنين، أو يدعو إلى العنصرية أو التعصب، أو يتضمن طعنًا فى أعراض الأفراد أو سبًّا أو قذفًا لهم، أو إهانة للأديان السماوية أو للعقائد الدينية. أغلب ما جاء في هذه المادة ألفاظ فضفاضة غير مُحدَّدة واستُخدمت ضد متهمين على خلفية تعبيرهم عن آرائهم، سواء من خلال الوسائط الرقمية أو غيرها كما في حالة المدون والناشط وائل عباس الذي وُجهت إليه اتهامات بنشر أخبار كاذبة عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي.
لم يكتفِ المشرع بحجب المواقع الإلكترونية فقط في قانون تنظيم الصحافة والإعلام، وإنما أعطى المجلس الأعلى للإعلام صلاحيةَ حجب الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، فطبقًا لنص المادة 19 من القانون، إذا نشر حساب إلكتروني أو بثَّ أخبارًا كاذبة، أو ما يدعـو أو يحرض على مخالفة القانون أو إلى العنف أو الكراهية أو ينطوي على تمييز بين المواطنين، أو يدعو إلى العنصرية أو التعصب أو يتضمن طعنًا في أعراض الأفراد أو سبًّا أو قذفًا لهم أو إهانة للأديان السماوية أو للعقائد الدينية، يحق حينها للمجلس الأعلى للإعلام وقف أو حجب الموقع أو المدونة أو موقعًا أو حسابًا إلكترونيًّا شخصيًّا يبلغ عدد متابعيه خمسة آلاف متابع أو أكثر.
وكانت السلطات المصرية قد عمدت خلال السنوات السابقة إلى توجيه اتهامات إلى النشطاء باستخدام قوانين أبرزها: قانون الاتصالات، قانون العقوبات المصري، وقانون مكافحة جرائم الإرهاب، بحيث تم التركيز في اتهامات: إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، نشر الأخبار الكاذبة، والانضمام إلى جماعة إرهابية. ولكن يرسخ قانون تنظيم الصحافة والإعلام اتهامات أكثر اتساعًا وتعددًا، كما يقنن للمرة الأولى قيام السلطات المصرية بحجب الحسابات الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي وهو ما يعتبر انتهاكًا لنصوص الدستور المصري والمعايير الدولية ذات الصلة بحماية الحق في حرية التعبير.
يثار هنا سؤال يتعلق بطبيعة الحجب التي يطرحها القانون: هل هو حجب كلي؟ أم أن ثمة إمكانية لحجب بعض الروابط فقط إذا احتوت على “الجرائم” التي يحددها القانون؟ من الواضح أن القانون لا يفرق بشكل محدد بين الحالات التي يتم فيها حجب الموقع كليًّا، والحالات التي يتم فيها حجب بعض الروابط الموجودة على الموقع فقط. لذلك يمكن على سبيل المثال أن يتم حجب موقع يحوي ملايين الصفحات، بسبب محتوًى منشور على صفحة واحدة فقط. وﻷن القانون لم يحدد حالات الحجب الكلي والجزئي، فسيترك ذلك للوائح التنفيذية، ما يتيح للسلطة التنفيذية التعسف في استخدام النص القانوني. وتحتوي النصوص المنظِّمة لقرارات الحجب _سواء كانت في قانوني تنظيم الصحافة والإعلام أو قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات_ على ألفاظ مطلقة عن حجب (المدونة – الموقع – الحساب)، وهو ما يعني الحجب بالكامل، باستثناء الفقرة الثالثة من المادة رقم (7) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، التي أشارت إلى “الحجب المؤقت للموقع أو المواقع أو الروابط أو المحتوى المذكور”، وهو ما يعني أن هناك مساحة لتطبيق الحجب الجزئي.
تمنح جهاتُ التحقيق أو جهات التحري والضبط (جهاز الشرطة) صلاحية حجب المواقع مباشرة، بينما جُعلت الرقابة القضائية على مثل تلك القرارات رقابة لاحقة، حيث يمكن لجهات التحقيق أن تطلب حجب مواقع إلكترونية إذا ارتأت أن هذه المواقع تشكل تهديدًا للأمن القومي أو تعرض أمن البلاد أو اقتصادها القومي للخطر، على أن تعرض أمر الحجب أمام محكمة مختصة خلال 24 ساعة والتي تصدر قرارها في الأمر خلال 72 ساعة. كما أنه لجهاز الشرطة، في حالة الاستعجال أو لوجود خطر حالٍّ أو ضرر وشيك الوقوع، الحق في أن يطلب من المجلس القومي لتنظيم الاتصالات والذي يطلب بدوره من مقدمي الخدمات الحجب المؤقت لأحد المواقع على أن يُنفَّذ هذا الطلب فور وروده، على أن يعرض الأمر على جهات التحقيق خلال 48 ساعة والتي تقوم بدورها بعرضه على المحكمة كما ورد آنفًا في الحالة الأولى. بينما يملك المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام صلاحية حجب المواقع الإلكترونية وكذلك المواقع والحسابات والمدونات الشخصية التي يزيد عدد متابعيها على 5 آلاف شخص، وفق قانون تنظيم الصحافة والإعلام.
ويُلزم القانون شركات الاتصالات بتنفيذ قرار الحجب فور وروده إليها، وفي حالة عدم التنفيذ (طبقًا للمادة 30) يتم توقيع عقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن خمس مئة ألف جنيه ولا تجاوز مليون جنيه أو إحدى هاتين العقوبتين. وإذا ترتب على الامتناع عن تنفيذ القرار الصادر عن المحكمة وفاة شخص أو أكثر أو الإضرار بالأمن القومى، تصل العقوبة إلى السجن المشدد وغرامة لا تقل عن ثلاثة ملايين جنيه ولا تجاوز عشرين مليون جنيه، وبإلغاء ترخيص مزاولة المهنة.
ينظم القانونان عملية الطعن على قرار الحجب، فوفقًا لقانون “الجريمة الإلكترونية” إذا كانت الجهة مُصدرةُ القرار النيابةَ العامة أو قاضي التحقيق أو إحدى الجهات الشرطية يحق التظلم من قرار الحجب، أو من إجراءات تنفيذه، أمام محكمة الجنايات المختصة بعد انقضاء سبعة أيام من تاريخ صدور الأمر أو من تاريخ تنفيذه. وإذا رُفض التظلم يمكن أن يتم تقديم تظلُّم جديد، كلما انقضت ثلاثة أشهر من تاريخ الرفض، وعلى المحكمة أن تفصل في التظلم خلال مدة لا تجاوز 7 أيام.
أما في حالة قانون تنظيم الصحافة والإعلام، فإنه يمكن التظلم من قرار الحجب أمام المجلس الأعلى للإعلام، ثم التوجه إلى محكمة القضاء الإداري للطعن على قرار الحجب، في حالة رفض التظلم أو عدم الرد خلال 60 يومًا.
مراقبة الاتصالات كممارسة دائمة
تُقنن المادة الثانية من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات المراقبة الشاملة على الاتصالات في مصر، حيث تُلزم شركات الاتصالات بحفظ وتخزين بيانات استخدام العملاء، لمدة 180 يومًا. وتشمل البيانات التي تُمكِّن من التعرُّف على المستخدم، والبيانات المتعلقة بمحتوى ومضمون النظام المعلوماتي، وتلك المتعلقة بحركة الاستخدام وبالأجهزة المُستخدمة. ما يعني أنه سيكون لدى مقدمي خدمات الاتصالات بيانات توضِّح كل الممارسات التي يقوم بها المستخدم، فعلى سبيل المثال المكالمات الهاتفية والرسائل النصية، وكل البيانات المتعلقة بهما والمواقع التي يزورها، والتطبيقات المستخدمة على الهواتف الذكية والحواسيب. إضافة إلى ذلك، يُلزم القانون شركات الاتصالات بالالتزام بأي “بيانات أخرى يصدر بتحديدها قرار” عن مجلس إدارة الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات. ما يعني أنه يمكن لاحقًا إلزام مقدمي خدمات الاتصالات بجمع والاحتفاظ ببيانات غير منصوص عليها في القانون، بمجرد صدور قرار إداري عن الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات. وتعطي المادة الحق لجهات الأمن القومي للاطلاع على هذه البيانات، وتُلزم مقدمي خدمات الاتصالات أن يوفروا الإمكانيات الفنية لذلك. ويُعرِّف القانون جهات الأمن القومي على أنها تشمل: “رئاسة الجمهورية، القوات المسلحة، وزارة الداخلية، المخابرات العامة، وهيئة الرقابة الإدارية”.
لا تتناول المادة الثانية المشار إليها أي تفاصيل عن ارتباط المراقبة بوجود تحرك قضائي لكشف التورط في جريمة منصوص عليها قانونيًّا، إنما تفرض المادة بوضوح المراقبة الشاملة على جميع المستخدمين في مصر. وهنا جعل المشرع من شركات الاتصالات مستودعًا للمعلومات المرتبطة بالمستخدمين وألزمها بتوفير تقنيات للمراقبة، وهو أمر لا يتفق مع المادة (57) من الدستور المصري والتي تنص على: “للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفى الأحوال التي يبينها القانون”. وبالتالي فإن المادة الثانية من قانون مكافحة الجريمة الإلكترونية عصفت بالحماية الدستورية لبيانات الاتصال.
ورغم تكريس المادة الثانية المراقبة الشاملة كممارسة قانونية دائمة فإن المادة السادسة من القانون أشارت تحديدًا إلى إمكانية صدور أمر قضائي مؤقت ومسبب من قبل جهات التحقيق المختصة لمأموري الضبط القضائي المختصين، لمدة لا تزيد على 30 يومًا قابلة للتجديد لمرة واحدة، لمراقبة أحد الأشخاص متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة على ارتكاب جريمة معاقب عليها بمقتضى أحكام هذا القانون ويكون ذلك بما يلي:
- ضبط أو سحب أو جمع أو التحفظ على البيانات والمعلومات أو انظمة المعلومات، وتتبعها في أي مكان أو نظام أو برنامج أو دعامة إلكترونية أو حاسب تكون موجودة فيه، ويتم تسليم أدلتها الرقمية للجهة مصدرة الأمر على ألا يؤثر ذلك على استمرارية النظم وتقديم الخدمة إن كان لها مقتضًى.
- البحث والتفتيش والدخول والنفاذ إلي برامج الحاسب وقواعد البيانات وغيرها من الأجهزة والنظم المعلوماتية تحقيقًا لغرض الضبط.
في تقريرها السنوي للعام 2017، أشارت مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى تورط السلطات المصرية في شراء أجهزة وبرمجيات لمراقبة الإنترنت من إحدى الشركات الفرنسية بمساعدة من قِبَل حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة مقابل 10 ملايين يورو. تساعد تلك الأنظمة والبرمجيات السلطة في مراقبة المستخدمين وتعقب المكالمات الهاتفية والرسائل النصية والبريد الإلكتروني والشبكات الاجتماعية. وأشار تقرير المؤسسة المشار إليه إلى أن تلك الصفقة ليست إلا حلقة ضمن سلسلة طويلة من محاولات السلطات المصرية، على تعاقبها، لمراقبة مستخدمي الإنترنت.
رغم كل تلك المساعي الحثيثة والمستمرة عبر سنوات لمراقبة الإنترنت، فإن هذا القانون يعتبر تطورًا خطرًا في هذا الشأن، حيث أن الممارسات غير القانونية التي سلكتها الحكومات المتعاقبة في مصر أصبحت بموجبه قانونية ولا غبار عليها. ونظرًا إلى المناخ السياسي المصري فإن تخوفًا جديًّا ظهر على السطح من استخدام القانون بقصد جمع المعلومات عن نشطاء ومدونين وصحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان.
العقوبات.. عصا القانون الغليظة
من السمات الرئيسية لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات تغليظ العقوبات والتوسع فيها بشكل ينم عن نية الحكومة إحكامَ قبضة حديدية على الإنترنت ورواده. يتتبع القانون الصفحات والحسابات الساخرة ويلاحق المسئولين عنها. ويوصِّف قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات هذا النوع من الحسابات على أنه “اصطناع المواقع والحسابات الخاصة والبريد الإلكترونى”. وتكون العقوبات طبقًا للمادة (24) من القانون كالتالي:
- في حالة اصطناع بريد أو حساب أو موقع ونسبه زورًا لشخص طبيعي أو اعتباري (لفرد أو لكيان قانوني خاص)، يتعرض القائم بذلك لعقوبة تصل إلى الحبس مدة لا تقل عن 3 أشهر وغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تجاوز 30 ألف جنيه أو بإحدى العقوبتين. حتى لو لم يترتب على ذلك ضرر.
- وفي حالة ترتب ضرر، تكون العقوبة الحبس الذي لا تقل مدته عن سنة وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تجاوز 200 ألف جنيه أو بإحدى العقوبتين إذا استخدم الجانى البريد أو الموقع أو الحساب الخاص المصطنع فى أمر يسيء إلى من نسب إليه.
- وفي حالة اصطناع بريد أو حساب أو موقع إلكتروني ونسبه زورًا لأحد الأشخاص الاعتبارية العامة (على سبيل المثال: الوزارات والهيئات والشركات الحكومية) فتكون العقوبة السجن والغرامة التي لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على 300 ألف جنيه. حتى لو لم يترتب على ذلك ضرر.
تأتي هذه المادة وكأنها محاولة لتقنين المحاولات التي اعتادتها أجهزة الأمن وجهات التحقيق المصرية على تتبع هذا النوع من الحسابات والصفحات، فعلى سبيل المثال، وجهت نيابة أمن الدولة إلى عمرو محمد (الشهير بعمرو سقراط) اتهامات بنشر أخبار كاذبة من شأنها تكدير السلم والأمن العام، والترويج لها عبر وسائل شبكات التواصل الاجتماعى، بسبب إدارته صفحة باسم: “عبد الفتاح السيسي”. وقد تم حبس عمرو سقراط احتياطيًّا على ذمة التحقيقات لمدة 11 شهرًا تقريبًا.
يجنح القانون في إجراءاته العقابية نحو عقاب أفراد بسبب قصور معرفتهم التقنية، فعلى سبيل المثال إذا تعرض أحد الأفراد لاختراق حسابه، أو موقعه الشخصي أو موقع مسؤول عن إدارته تقنيًّا وهو يجهل كيفية تأمين حسابه، أو كانت هناك ثغرة أمنية في النظام المُستخدم، أو يجهل بالأساس تعرضه للاختراق، فسوف يكون معرضًا للحبس. وهذا التناول لا يناسب إطلاقًا وضع التطورات التقنية وكيفية عمل الإنترنت وتأمين أنظمة المعلومات.
فطبقًا للمادة 29 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، يمكن معاقبة من تم اختراق حسابه الإلكتروني أو موقعه، بسبب عدم اتخاذه التدابير والاحتياطات التأمينية اللازمة. وتصل عقوبة الحبس إلى مدة لا تقل عن 6 أشهر وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تجاوز 100 ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل مسئول عن إدارة الموقع أو الحساب الخاص أو البريد الإلكتروني أو النظام المعلوماتي، تسبب بإهماله في تعرض أي منهم لإحدى الجرائم المنصوص عليها في القانون. ولم يُحدد القانون ماهية التدابير والاحتياطات اللازمة وترك تنظيم الأمر للائحة التنفيذية للقانون. وفي حالة وقوع إحدى الجرائم على الحساب أو الموقع الإلكتروني، ولم يقم المسئول عن الإدارة الفعلية للشخص الاعتباري بالإبلاغ عن الجريمة، فإنه يتعرض لعقوبة الحبس لمدة لا تقل عن 3 أشهر وبغرامة لا تقل عن 30 ألف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين، وفق نص المادة (35).
ليست هذه هي العقوبات الوحيدة التي تنتظر مديري المواقع، وهم أولئك الذين عرَّفهم قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات بأنهم “كل شخص مسئول عن تنظيم أو إدارة أو متابعة أو الحفاظ علي موقع أو أكثر على الشبكة المعلوماتية، بما فيها حقوق الوصول لمختلف المستخدمين على ذلك الموقع أو تصميمه، أو توليد وتنظيم صفحاته أو محتواه أو المسئول عنه”. يتعرض هؤلاء للعقوبات التالية:
- طبقًا للمادة (27): يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد عن 300 ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًّا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا.
- طبقا للمادة (28): يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وبغرامة لا تقل عن 20 ألف ولا تجاوز 200 ألف أو إحدى هاتين العقوبتين، كل مسئول عن إدارة موقع أو حساب خاص أو بريد إلكتروني أو نظام معلوماتي، إذا أخفى أو عبث بالأدلة الرقمية لإحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، والتى وقعت على موقع أو حساب أو بريد إلكتروني بقصد إعاقة عمل الجهات الرسمية المختصة.
- طبقًا للمادة (29): يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وبغرامة لا تقل عن 20 ألف ولا تجاوز 200 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل مسئول عن إدارة الموقع أو الحساب الخاص أو البريد الإلكتروني أو النظام المعلوماتي عُرِّض أي منهم لإحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون.
ساوى القانون من حيث تعريف مدير الموقع بين مسئوليات مختلفة، حيث أن إدارة محتوى الموقع هي مسئولية مختلفة عن مسئولية تأمينه وكذا عن مسئولية تصميمه أو تطويره وبرمجته. ومن جانب آخر، فإن القانون قد فرض عقوبات لا تتناسب مع حجم الأفعال المجرمة. كما أن ثمة غيابًا للمنطق القانوني وراء توقيع عقوبة سالبة للحرية، بسبب التقصير في حماية الموقع أو الحساب الإلكتروني، ﻷن المشرع بذلك يفترض أن الجميع لديهم إلمام ومعرفة تقنية بنفس المستوى، ويتجاهل طبيعة أنظمة المعلومات المتعلقة بوجود ثغرات غير معروفة أو بقاعدة: عدم وجود نظام معلوماتي آمن بشكل كامل.
إضافة إلى عقاب من يُخترق حسابه، يوقع القانون بعض العقوبات على بعض التصرفات غير العمدية على الإنترنت، في حالة الموظف الحكومي المُصرح له بالدخول إلى أحد الأنظمة الإلكترونية يمكن أن يواجه اتهامًا بالاعتداء على الأنظمة المعلوماتية الخاصة بالدولة، ومن الوارد توقيع عقوبة عليه في حالة دخوله عمدًا أو بخطأ غير عمدي وبقائه بدون وجه حق، أو تجاوز حدود الحق المخول له من حيث الزمان أو مستوى الدخول أو اخترق موقعًا او بريدًا إلكترونيًّا أو حسابًا خاصًّا أو نظامًا معلوماتيًّا يدار بمعرفته أو لحساب الدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة، أو مملوك لها أو يخصها. ويواجه الموظف الحكومي أيضًا عقوبة حبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تجاوز 200 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، حسب نص المادة (20) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات.
ويشدِّد القانون العقوبة في حالة إذا كان الدخول بقصد الاعتراض أو الحصول بدون وجه حق على بيانات أو معلومات حكومية، فتكون العقوبة السجن والغرامة التي لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تجاوز 500 ألف جنيه. وفى جميع الأحوال، إذا ترتب على أيٍّ من الأفعال السابقة إتلاف تلك البيانات أو المعلومات أو ذلك الموقع أو الحساب الخاص أو النظام المعلوماتي أو البريد الإلكتروني أو تدميرها أو تشويهها أو تغييرها أو تصميمها أو نسخها أو تسجيلها أو تعديل مسارها أو إعادة نشرها أو إلغائها كليًّا أو جزئيًّا بأي وسيلة كانت، فتكون العقوبة السجن والغرامة التي لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز 5 ملايين جنيه.
ويعد عدم التفريق في العقوبة الموقعة بين ارتكاب الجريمة بشكل عمدي أو غير عمدي مخالفة للقواعد القانونية، حيث تخالف نصوص المواد المشار إليها ما استقرت عليه الآراء الفقهية المُتعلقة بضرورة وجود نية وإرادة لدى مُرتكب الجريمة. وهذا يعني أن القاعدة القانونية لا تنظر إلى الفعل المكون للجريمة أو إلى النتيجة التي ترتبت على القيام بهذا الفعل بشكل مُنفصل. إذ أنه ينبغي وجود رابط بين توجه فرد لارتكاب جريمة والحصول على نتيجة معينة، وهذا هو أساس الجريمة العمدية، بينما في جرائم الخطأ لا يكون للفرد توجه مسبق للوصول إلى نتيجة فعله.
إضافة إلى العقوبات المتعلقة بالغرامات المالية والعقوبات السالبة للحرية لم يغفل القانون عقوبة المنع من السفر، فطبقًا للمادة (9) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، للنائب العام أو من يفوضه، ولجهات التحقيق المختصة، عند الضرورة، الأمر بمنع السفر خارج البلاد أو بوضع أسماء المتهمين على قوائم ترقب الوصول بأمر مسبب لمدة محددة. ويجوز للنيابة العامة وجهات التحقيق المختصة في كل وقت العدول عن الأمر الصادر منها، كما يجوز لها التعديل فيه برفع اسم المتهم من قوائم المنع من السفر أو ترقب الوصول لمدة محددة، إذا دعت الضرورة لذلك. وينتهي المنع من السفر بمرور سنة من تاريخ صدور الأمر، أو بصدور قرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية أو بصدور قرار نهائي فيها بالبراءة أيهما أقرب.
ويسمح القانون بالتظلُّم من قرار المنع من السفر أو قرار الإدراج على قوائم ترقب الوصول أمام محكمة الجنايات المختصة، خلال 15 يومًا من تاريخ العلم به. وإذا رُفض التظلم يحق لمن صدر في حقه القرار أن يتقدم بتظلم جديد، كلما انقضت فترة 3 أشهر من تاريخ الحكم برفض التظلم، وعلى المحكمة أن تفصل في التظلم خلال مدة لا تجاوز 15 يومًا من تاريخ إقراره، بحكم مُسبب بعد سماع أقوال المتظلم وسلطة التحقيق المختصة.
كانت السلطات المصرية قد توسعت في إصدار قرارات المنع من السفر خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وذلك تجاه نشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان وصحفيين وكتاب. ويرسخ المشرع في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات استخدام المنع من السفر كعقوبة، إذ يمنح النائب العام وجهات التحقيق صلاحية المنع من السفر، على اﻷرجح، لكي يتم استخدامها لاحقًا في التضييق على مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي والصحفيين والنشطاء.
خاتمة
إن إصدار قانونيِ مكافحة جرائم تقنية المعلومات وتنظيم الصحافة والإعلام في هذا الوقت تحديدًا ليسا إلا حلقتين جديدتين في مسعى السلطة إلى فرض سيطرتها الكاملة على الفضاء السيبراني ضمن عملها الدءوب لإغلاق المجال العام ككل وسلب أي مساحة متاحة لحرية التعبير. كما أنها محاولة من قبل الدولة لتقنين الأوضاع غير القانونية السابقة على إصدار القانونين من حجب ومراقبة للإنترنت ومستخدميه.
يجب على البرلمان المصري إعادة النظر في القانونين الجديدين خاصة فيما يتعلق بالمواد المتعلقة برقابة الإنترنت وحجب المواقع ومراقبة بيانات اتصالات المستخدمين.