إعداد: حسن اﻷزهري، مدير وحدة المساعدة القانونية بمؤسسة حرية الفكر والتعبير
للإطلاع على الدراسة بصيغة PDF إضغط هنا
المحتوى
منهجية
مقدمة
مدخل: حرية التعبير وعلاقتها بالمرفق العام
القسم الأول: البيئة التشريعية الناظمة للعاملين بالدولة وأثرها على حرية التعبير
أ- غياب الضمانات مقابل سلطات واسعة لجهة الإدارة
ب- الطبيعة الخاصة للنظام التأديبي
ج- دور القضاء التأديبي
– القيود الواردة على حرية التعبير
أ- مقتضيات الوظيفة العامة (الإخلال بواجبات الوظيفة العامة)
ب- المساس بكرامة الوظيفة وشرط حسن السمعة
القسم الثاني: الحالات محل الدراسة
- منع القضاة من الظهور الإعلامي وحظر نشر أخبارهم
- طبيعة قرارات المنع من الظهور الإعلامي وحظر نشر أخبار القضاة
- الصلاحية ومجالس التأديب أداة لتقييد حرية التعبير
أولًا: الطريقة رصد آراء القضاة
ثانيًا: التحقيق مع القضاة في وقائع تتعلق بالتعبير الحر عن آرائهم
– القضاة والأزمة الاقتصادية (أزمة الكارت الذهبي)
– أزمة قضاة نادي مجلس الدولة وانتخابات البرلمان
– قضاة تيران وصنافير
- أزمة قيادات ماسبيرو “أحداث تيران وصنافير”
- أثر المخالفات الإدارية خارج نطاق الوظيفة
- التوسع في نطاق التجريم (تجاوز النيابة الإدارية ااختصاصها)
- حظر ظهور أعضاء هيئة التدريس بوسائل الإعلام ونشر المقالات
- قرارات وتعليمات إدارية بحظر الظهور الإعلامي
- أسباب قرارات حظر الظهور الإعلامي
- حجج إدارات الجامعات في حظر الظهور الإعلامي
خاتمة
منهجية
اعتمدت الدراسة بشكل رئيسي على القرارات الصادرة عن بعض الجهات الإدارية وغيرها من مؤسسات الدولة بحظر الظهور الإعلامي أو الكتابة، كما اعتمدت الدراسة على أحكام المحاكم العليا وبعض الفتاوى الصادرة عن إدارة الفتوى والتشريع بمجلس الدولة. واستخدمت الدراسة تصريحات بعض المسئولين وتقارير صحفية منشورة مرتبطة بحق العاملين بالدولة في حرية التعبير.
مقدمة
تحاول هذه الدراسة أن تواكب توسع الجهات الإدارية خلال السنوات الأخيرة في استخدام أداة التأديب، لكي تحرم الموظفين العموميين من الحق في حرية التعبير. ولم يقتصر التأديب على موظفي الجهاز الإداري بالدولة فقط، بل امتد إلى فئات تتمتع باستقلالية نسبية عن السلطة التنفيذية، مثل أعضاء هيئة التدريس وطلاب الجامعات الحكومية وأعضاء الهيئات القضائية. ولذلك تتطرق الدراسة إلى تناول بعض الحالات التي تتعلق بالقضاة وأساتذة الجامعات.
وتنقسم الدراسة إلى قسمين رئيسيين، حيث يناقش القسم الأول السمات الأساسية المُتعلقة بالبنية التشريعية الناظمة لعملية التأديب، وما يرتبط بها من مخالفات إدارية. ويتطرق القسم الأول كذلك إلى الإشكاليات المُتعلقة بالمخالفات الإدارية، من خلال عرض بعض النصوص التشريعية، وبيان مدى تطبيق وتفسير هذه النصوص، من خلال استعراض أحكام المحاكم العليا المصرية وما دونها من محاكم. وينتهي القسم الأول من هذه الدراسة بعرض أهم القيود الواردة على العاملين بالدولة وغياب الضمانات المتعلقة بالتعبير الحر لآرائهم.
أما القسم الثاني، فيُناقش عددًا من الحالات التي اعتمدت عليها الدراسة في تناول الأوضاع القانونية المرتبطة بتأديب العاملين بالدولة وتقييد حقهم في حرية التعبير، وتختلف هذه الحالات حسب اختلاف الجهات الإدارية لها، ومدى استقلالية هذه الجهات عن السلطة التنفيذية. وتعرِض الدراسة بعض المُمارسات المتعلقة بوضع قيود على حق العاملين في الدولة في التعبير عن آرائهم، وتبين الدراسة استناد هذه الممارسات إلى تطبيقات وتفسيرات خاطئة لنصوص القانون والدستور.
مدخل: حرية التعبير وعلاقتها بالمرفق العام
تُثار دائمًا نقاشات حول حدود ممارسة العاملين بالدولة حقهم في التعبير الحر عن آرائهم داخل المرفق العام، وخاصة في ظل نظم سياسية متعاقبة تعاني من حساسية شديدة تجاه ممارسة العامل بالدولة لأي شكل من أشكال حرية التعبير داخل المرفق العام، مثل الحق في الإضراب والحق في الشكوى والنقد المُباح للسياسات الوظيفية/ سياسة جهة الإدارة.
تواجه السلطات هذا الأمر بتعسف مُفرط من خلال اتخاذ إجراءات وتوقيع عقوبات صريحة ومُقنعة على العاملين بالدولة بدواعي الخوف على سير العمل داخل المرفق، وما يؤكد على ذلك حالة التنوع التي نجدها في الأحكام الصادرة عن المحاكم التأديبية والمحكمة الإدارية العليا، والتي بحثت أمورًا عديدة تتعلق بتفسير نصوص الدستور والقوانين واللوائح المُنظمة المتعلقة بحدود حرية التعبير داخل المرفق العام.
وازدادت القضايا المنظورة أمام المحاكم التأديبية منذ أحداث 30 يونيو 2013. ونتيجة لحالة الاستقطاب الشديدة آنذاك، والتي انتقلت إلى الجهاز الإداري للدولة، اتخذت الجهات الإدارية بمستوياتها المختلفة إجراءات استثنائية تجاه العاملين بالدولة، من خلال مراقبة حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتبع آرائهم المُعلنة خارج نطاق العمل.
وقد تبع ذلك توقيع جزاءات وعقوبات شديدة تجاه بعض العاملين، ونظرًا إلى اعتبار قضايا حرية التعبير في المرفق العام من المُستجدات التي طرأت على الحياة الوظيفية، فما زالت أحكام المحاكم المصرية المختلفة غير مستقرة على رؤية الخط الفاصل بين الحياة الوظيفية والتعبير الحر عن الآراء خارج نطاق العمل.
وربما أدى إلى ذلك الظرف السياسي الذي تمر به البلاد، فالقضاة أنفسهم يواجهون متغيرات ليست بالقليلة، سواء على مستوى القوانين المنظمة المُستحدثة، والتي أعطت مساحة كبيرة للسلطة التنفيذية في اختيار رؤساء الهيئات القضائية، أو على مستوى بيئة العمل نفسها والتي يصعب معها العمل بتجرد وحيدة دون الخوف من العواقب المُحتملة لصدور حكم أو قرار.
وثمة ضعف في الوعي العام لدى العاملين بالدولة في فهم حقوقهم الوظيفية كعاملين أو كمواطنين، يكفل لهم الدستور والمواثيق الدولية حرية التعبير عن الرأي.
القسم الأول: البيئة التشريعية الناظمة للعاملين بالدولة وأثرها على حرية التعبير
لا ينصرف الحديث عن البيئة التشريعية مُباشرة إلى النصوص القانونية الحاكمة للموضوع محل البحث، إذ أن قراءة النصوص دون الإشارة إلى سياقاتها وأبعادها السياسية والاجتماعية سوف تنتهي بنا إلى تصور مبتسر وهزيل وربما خاطئ عن واقع الأمور.
كما تحتل القوانين المنظِّمة لشئون العاملين بالدولة والوظيفة العامة أهمية كبرى في المجتمع المصري، الذي نظر دومًا إلى الوظيفة العامة بكونها أمانًا وملاذًا من التقلبات الاقتصادية والظروف المعيشية الصعبة. وهو ما أعطى السلطة السياسية مساحة في وضع قيود على الوظيفة العامة، سواء فيما يتعلق باختيار الموظفين أو استمرارهم في العمل.
ولا يؤدي نقد النصوص المنظِّمة دون تناول الممارسات العملية إلى استنتاجات دقيقة، لذا من المهم عرض سمات البيئة التشريعية وكيفية تطبيقها من خلال حالات الدراسة.
أ – غياب الضمانات مقابل سلطات واسعة لجهة الإدارة:
تتميز القوانين المُنظمة لشئون العاملين بالدولة بمجموعة من السمات، فمن جانبٍ يغيب عن هذه التشريعات وجود ضمانات واضحة للموظف، فيما يتعلق بحياته الخاصة وآرائه غير المتصلة بنطاق العمل، ومن جانب آخر تناقش أغلب نصوص هذه التشريعات التفاصيل المتعلقة بالمستحقات المالية والإدارية للموظف، مثل الأجر أو الراتب وطرق الندب والنقل وإنهاء الخدمة وغيرها، ويغيب عنها التطرق إلى الحدود، التي يجب أن تقف عندها سلطة الجهة الإدارية.
ويعني ذلك وجود قصور شديد في توافر الضمانات اللازمة لحماية الموظف. فثمة سلطات واسعة يمكن لجهة الإدارة من خلالها أن تُسائل الموظف وتوقع عليه عقوبات شديدة الوطأة، عن أفعال قد تقع خارج إطار العمل ولا تتعلق بالوظيفة أو المرفق، الذي يمارس به الموظف مهامه اليومية.
يؤدي ذلك إلى غياب الموازنة بين حرية الموظف وبين سلطة الإدارة في المساءلة وتنظيم المرفق، إذ يسمح النظام القانوني بتقييد حقوق العاملين في الجهاز الإداري بالدولة، وذلك منذ عقود بعيدة، حيث كانت المادة (144) قسم أول فصل ثانٍ من قانون المصلحة المالية _وهو قانون كان معمولًا به إبَّان الحكم الملكي_ تنص على:
“لا يجوز لمستخدمي الحكومة أن يعطوا أخبارًا إلى الجرائد ولا أن يبدوا ملاحظات شخصية بواسطتها، ولا يكونوا مكاتبين أو وكلاء لها وأن كل مستخدم يخالف هذا الحكم يكون قابلًا للعزل”.
وقد أضاف قرار مجلس الوزراء، الصادر في 30 يناير 1929، فقرة إلى هذه المادة تنص على: “ويحظر على الموظفين والمستخدمين أيضًا أن يشتركوا في اجتماعات سياسية أو أن يبدوا علانية آراء أو نزعات سياسية”.
وقد جاء في المذكرة المرفوعة إلى مجلس الوزراء آنذاك ما يشير إلى أن المصلحة العامة تقضي بأن يظل الموظفون منصرفين إلى أعمالهم في حيدة كاملة وفي اتزان واعتدال صحيح، حتى لا تتعرض مصالح الجمهور لوجوه الظلم والإيثار المختلفة.[1]
لم يستمر الأمر على هذا المنوال، فسرعان ما أصبحت التشريعات تتضمن نصوصًا عامة ومطاطة، تمكن جهة الإدارة من إحالة الموظف إلى التحقيق أو المحاكمة أو توقيع جزاء بشكل مباشر، من خلال اتهامات، منها: خروج الموظف عن مقتضيات الوظيفة العامة أو ممارسة أفعال تمس بكرامة الوظيفة وغيرها.
وأصبح لجهة الإدارة سلطة تقديرية في تكييف الوقائع دون وجود مخالفات تأديبية محددة. ورغم غياب نصوص قانونية تحظر على الموظف التعبير الحر عن آرائه، فإن ذلك لا يعني أن له قدرة على المشاركة في الحياة العامة أو الاشتباك مع بعض الموضوعات أو نقد سياسات الحكومة.
فإذا غاب النص الذي يمنع بشكل صريح ممارسة هذا الحق، فهناك نصوص أخرى يدخل في نطاقها كل ما يقوم به الموظف وتجعله عُرضة للمساءلة تحت مسميات قانونية فضفاضة كما ذكرنا من قبل. ويصبح الموظف في هذه الحالة أمام إجراء تأديبي يهدد حياته المهنية. ويتم إلزام الموظف باتخاذ مسلك جهة الإدارة في حياته الخاصة، وهو ما عرفته أدبيات قضاء التأديب بولاء الموظف للدولة والنظام الحاكم،[2] وذلك الرأي اتخذته أيضًا أغلب أحكام المحكمة الإدارية العليا.
ب- الطبيعة الخاصة للنظام التأديبي:
تثير النظم التأديبية في القوانين المنظمة مخاوف لدى المُخاطَبين بها، وتأتي هذه المخاوف من الطبيعة الخاصة التي تغلف هذه القوانين. فعلى خلاف القوانين الجنائية التي تُجرِّم أفعالًا بعينها على سبيل الحصر وتُعرِّف أبعاد وأركان هذه الجرائم وطرق إثباتها، نجد أن الجريمة التأديبية لا يمكن تحديدها وتوصيفها بشكل مُسبق، لاتساع نطاق العمل داخل المرفق العام، إضافة إلى استحالة حصر وتسمية الجرائم الوظيفية.
لذلك نجد أن أغلب المخالفات التأديبية لم تأتِ على سبيل الحصر، بينما عَدَّدَ المشرِّع العقوبات وأشكالها، ما يعني أن اهتمام المُشرِّع يكاد ينحصر في توقيع الجزاء دون التيقن من الفعل المُجرَّم. فالأصل في التجريم بصفة عامة هو بيان صحة الأفعال المُجرَّمة وضرورة وتناسب العقوبة الموقعة مع الفعل محل التجريم.
ولكن ما تنطق به أغلبية الأحكام التأديبية يأتي على خلاف ذلك، حيث يتم تجريم الموظف بسبب أي فعل أو مسلك بغض النظر عما إذا كان راجعًا إلى إرادته أم لا، وعليه تتحق المخالفة لما يوصف بواجبات الوظيفة أو الخروج على مقتضى الواجب الوظيفي،[3] حتى ولو كان الخطأ الذي ارتُكِب يقع خارج نطاق العمل الوظيفي، وهنا يتم النظر إلى هذا العمل في ذاته كسلوك معيب، ينعكس أثره على كرامة الوظيفة.
يُضاف إلى مشكلة الجرائم غير المحددة سمة أخرى، وهي السلطات الواسعة لجهة الإدارة وجهات التحقيق والمُحاكمة في تقدير وتوصيف وتكييف الوقائع، وسلطة أكثر اتساعًا في تحديد العقوبة المُناسبة.
ج- دور القضاء التأديبي:
بعد الانتهاء من عرض السمات المتعلقة بمحل التجريم وسلطة الإدارة الواسعة في توجيه الاتهامات، نصل إلى دور القضاء في فَهم وتفسير هذه النصوص العامة. بالطبع يلعب القضاء دورًا كبيرًا في القيام بتصنيف الأفعال، التي يرتكبها الموظف وإدراجها تحت توصيفات أخرى، وذلك من خلال إرساء مبادئ قضائية، يمكن لجهة الإدارة الاستناد إليها مستقبلًا.
ويعد طرح الأمر على القضاء وترك مساحة لمناقشة الواقعة كل على حدة مع إمكانية تعديل المبادئ بمثابة طريقة جيدة، في ظل وجود متغيرات تتعلق بالتطور أو التعديل في البيئة التشريعية، وذلك ﻷن القضاء ينظر حالات مختلفة يمكن من خلالها قياس الواقع، ومن ثم تهيئة التشريعات، لكي تواكب هذا الواقع.
إلا أنه وعلى مستوى شئون العاملين بالدولة، يعد ترك الوقائع لتقدير القضاء أمرًا مرهقًا للعاملين بالدولة، حيث يمكن أن يصاحب استخدام الإحالة إلى التأديب بعض التدابير مثل الإيقاف عن العمل. كما أن الإحالة إلى التأديب في حد ذاتها تعد إجراء يضع الموظف في موقف المُهدد بشكل مستمر.
وفيما يتعلق بالمحاكمات التأديبية على خلفية حرية التعبير عن الرأي، ما زال القضاء التأديبي في أغلبية أحكامه يسلك منهجًا مقيدًا لحرية التعبير، ولكن يظل القضاء ضمانة هامة في وجه سلطة جهة الإدارة، ومن هنا تأتي الأهمية الكبرى للمبادئ التي ترسيها المحاكم العليا فيما يتعلق بالتأديب. وهناك حاجة إلى توفير ضمانات في القوانين المنظمة، تكفل الحماية للعاملين بالدولة أمام تلك السلطات التقديرية الواسعة، التي تملكها جهة الإدارة والمحاكم التأديبية.
القيود الواردة على حرية التعبير:
اعتمدت التشريعات المنظمة للعاملين بالدولة على وضع تعريفات عامة لبعض المخالفات التأديبية أو الجزائية، ولم تحدد أركان هذه المخالفات كما سبق أن أشرنا، إلا أن الممارسات العملية في هذا السياق تشير إلى أن هذه التعريفات اتسمت بالتوسع الشديد في نطاق التجريم، سواء من جهات التحقيق أو المحاكم التأديبية، وهو ما يعطي صلاحيات واسعة لهذه الجهات، على مستوى تكييف الوقائع محل التحقيق.
لذا، استُخدِمت مسميات بعض المخالفات التأديبية في تجريم بعض التصرفات والأفعال الصادرة عن الموظف العام وغيره من العاملين بالدولة، حتى وإن كانت لا تتعلق بسير المرفق العام أو ارتُكبت خارج نطاق العمل. وقد وُجِّه إلى العاملين بالدولة هذه المخالفات بمناسبة التعبير عن آرائهم في سياقات مختلفة.
وسوف تتناول النقاط التالية أهم صور التجريم المستخدمة وأكثرها شيوعًا، إضافة إلى بيان كيفية تناول المحاكم المصرية تعريف المخالفات في مواضع مختلفة، والتي لا تُمثل بالطبع كافة صور القيود الواردة بالقوانين واللوائح والقرارات، ولكن يمكن من خلالها فهم سُبل التضييق على العاملين في الدولة، فيما يتعلق بحريتهم في التعبير الحر عن آرائهم خارج نطاق العمل.
أ- مقتضيات الوظيفة العامة (الإخلال بواجبات الوظيفة العامة):
احتوت أغلب القوانين المنظمة للوظيفة العامة على نصوص تتعلق بمقتضيات الوظيفة العامة والواجب الوظيفي، حيث تناول قانون موظفي الدولة رقم 210 لسنة 1950 في الفصل السادس من الباب الأول واجبات الموظفين والأعمال المُجَّرمة، ونص هذا القانون على: “كل موظف يخالف الواجبات المنصوص عليها في هذا القانون أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته يعاقب تأديبيًّا”.
وهذا نفس ما أشار إليه قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة رقم 46 لسنة 1964 في مادته رقم (59)، وتنص على: “كل عامل يخالف الواجبات المنصوص عليها في هذا القانون أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته أو يظهر بمظهرٍ من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة يعاقب تأديبيًّا”.
وعقب إلغاء العمل بهذا القانون وتطبيق القانون رقم 47 لسنة 1978 بشأن نظام العاملين المدنيين بالدولة، ظل النص على الالتزام بمقتضيات الوظيفة قائمًا، وجاء بالمادة رقم (78) من القانون أنه على “كل عامل يخرج على مُقتضى الواجب في أعمال وظيفته أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة يُجازى تأديبيًّا”. وهو ما استمر عليه النهج عند إقرار قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 المعمول به الآن، ورغم استمرار صياغات القوانين المنظمة للعاملين بالدولة على ما يُعرَف بالواجب الوظيفي، فإنها لم تشهد تطورًا فيما يتعلق بتعريف هذا المفهوم.
يمارس العاملون في الدولة مهامهم الوظيفية طبقًا للقوانين واللوائح المنظمة لهذا العمل، وهي علاقة عمل سواء كانت علاقة تعاقدية قوامها البنود والاتفاق الوارد بالعقد، أو علاقة تنظيمية تحكمها اللوائح والقوانين. ولكل عامل في الدولة حياته الخاصة وأنشطته، التي لا تتعلق بالعمل. ولا يجوز بأي حال وضع هذه الجوانب قيد المساءلة الإدارية، حتى وإن كان للعمل في الجهاز الإداري بالدولة وغيره من المرافق العامة طبيعة خاصة تتعلق بضرورة الانضباط والحفاظ على سير عمل المرفق، نظرًا إلى كونه يقدم خدمات لا يمكن للمواطن الحصول عليها دون اللجوء إلى هذه المرافق.
لذا، يلزم أن يرتبط المقتضى الوظيفي بشكل مباشر بالوظيفة، أو يحمل تبعات مباشرة على المرفق الذي يعمل به الموظف، إن كان يقع خارج نطاق العمل. وقد انتهجت المحاكم المصرية بمختلف درجاتها مسلكين في هذا الأمر، كما يلي:
- المسلك الأول: ويمثل الاتجاه العام، وفيه ترى المحاكم أن الحياة الخاصة والحياة الوظيفية مرتبطتان برباط لا يُمكن فصله، حيث يتم مساءلة الموظف العام تأديبيًّا عن الأفعال والتصرفات، التي تصدر عنه خارج نطاق أعمال وظيفته، إذا كان من شأنها الخروج على واجبات الوظيفة أو الإخلال بكرامتها أو الاحترام الواجب لها.
وذلك مرده أن المخالفات التأديبية ليست محددة حصرًا ونوعًا، ويكفي لمؤاخذة العامل تأديبيًّا أن يصدر عنه ما يمكن أن يُعتبر خروجًا على واجبات الوظيفة أو متعارضًا مع الثقة الواجبة فيه أو المساس بالاحترام الواجب له. وعلى هذا المنوال، ذهبت المحكمة الإدارية العليا إلى أن:
“المخالفة التأديبية لا تقتصر على إخلال العامل بواجبات وظيفته إيجابًا أو سلبًا بل تنهض كذلك كلما سلك العامل سلوكًا معيبًا ينطوي على إخلال بكرامة الوظيفة ولا يستقيم مع ما تفرضه عليه من تعفف واستقامة وبُعد عن مواطن الريب والدنايا _إذا كان لا يقوم بين الحياة العامة والحياة الخاصة عازل سميك يمنع التأثير المتبادل بينهما فإنه لا يسوغ للعامل خارج نطاق وظيفته أن ينفصل عن وظيفته كعامل ويُقدِم على بعض التصرفات التي تمس كرامته وتمس بطريق غير مباشر كرامة الجهة التي يعمل بها_ أساس ذلك: أن سلوك العامل وسمعته خارج عمله ينعكس تمامًا على عمله الوظيفي”.[4]
ولم تقف نظرة القضاء المصري في العديد من أحكامه عند حد أثر بعض التصرفات الصادرة عن العاملين في حياتهم الخاصة على الوظيفة، بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك. وجاء في عدة أحكام أن حياة الموظف كلها تتعلق بالوظيفة، وأنه يُمثل جهة الإدارة أمام الجميع. يتضح ذلك في حكم صادر للمحكمة الإدارية العليا، جاء فيه:
“ولئن كانت الواقعة المنسوبة إلى الطاعن قد حدثت خارج نطاق عمله الوظيفي، فإنه لا يؤثر في قيام مسئوليته التأديبية، إذ أن التزام الموظف بأن يسلك في حياته مسلكًا يتفق مع ما أسند إليه من وظيفة عامة يُوجِب عليه ضرورة المواءمة بين نوع الوظيفة المسندة إليه والتزاماتها وسلوكياته العامة والخاصة، إذ لا شك أنه يوجد تأثير من أيهما على الآخر، ذلك أن الحياة الخاصة للموظف العام ليست ملكًا خاصًّا له بل يتعين عليه مراعاة ألا يأتي في سلوكه خارج عمله ما يؤثر على عمله ذاته أو على نظرة الأفراد إليه، إذ يمكن أن يترتب على ذلك إخلاله بثقة الأفراد في الوظيفة العامة ومن يقومون على تدبير شئونهم”.[5]
- المسلك الثاني: وهنا ذهبت بعض الأحكام إلى ضرورة الفصل بين ما يتعلق بالوظيفة العامة وبين ما يقع خارجها، إضافة إلى وضع معايير واضحة تُحدد أسبابًا يمكن الاستناد إليها لتوقيع عقوبة تأديبية، إذا ما صدرت عن الموظف خارج نطاق العمل. فقد ذهبت المحكمة الإدارية العليا إلى أنه:
“إذا نُسب إلى موظف أنه أتى واقعة تمثل خروجًا على وظيفته أو على الاحترام الواجب لها، فإن أول ما ينبغي بحثه هو ما إذا كانت تلك الواقعة التي أتاها الموظف خارج إطار عمله الوظيفي تمس _على فرض ثبوت إتيانها_ شرف الموظف أو ذمته أو أمانته أو سمعته وحسن سلوكه، أم أنها لا تمسه في هذا الإطار، فإذا تبينت المحكمة أنها تمس الموظف في هذا الإطار كانت واقعة مما يؤثر في الوظيفة العامة ومما يستوجب المساءلة التأديبية، أما إذا تبينت المحكمة أن الواقعة التي أتاها الموظف لا تمس هذا الإطار ولا يكون من شأنها أن تؤثر على وظيفته العامة فلا يسأل عنها الموظف تأديبيًّا من جانب جهة عمله، فإذا ما جازته عنها جهة عمله كان الجزاء في غير محله واجب الإلغاء، وإذا ما أحالته عنها النيابة الإدارية إلى المحاكمة التأديبية كانت الإحالة عن واقعة لا تشكل مخالفة تأديبية ومن ثم يجب الحكم ببراءته”.[6]
وثمة منطق قانوني متماسك في هذا المسلك يتمثل في الفصل والتمييز بين الأفعال المُجرَّمة تأديبيًّا وتحديد نطاقها، وكذلك وضع معايير واضحة حتى يمكن مُساءلة الموظف، عما صدر عنه خارج نطاق العمل، إلا أنه يُعاب على هذا المسلك الاستناد إلى معايير فضفاضة مثل حُسن السمعة وحسن السلوك.
فمثل هذه المعايير تعد من الأمور النسبية التي يمكن لجهة الإدارة استغلالها، وكذلك هناك اختلاف في تقديرها من قاضٍ إلى آخر. ولكن في كل الأحوال، ما زال هذا الرأي يحمل أسلوبًا يتفق مع احترام حق العاملين في التعبير عن آرائهم، بحرية دون خوف أو قيد من ملاحقات تتعلق بعملهم.
ب- المساس بكرامة الوظيفة وشرط حسن السمعة:
وهي من الاتهامات الأكثر شيوعًا في مجال الوظيفة العامة، ويتم تطبيقها على العاملين بالدولة مع اختلاف مُسماها من جهة إلى أخرى، وذلك عند إتيان الموظف فعلًا من شأنه المساس بكرامة الوظيفة، أو توصيف أحد الأفعال على أنه يُفقِد الموظف شرط حسن السمعة أو يؤثر على حسن سيره وسلوكه.
ورغم التشابه الشديد بين التوصيفات المختلفة أثناء التطبيق، وهو ما يمكن إرجاعه إلى عدم وجود أركان محددة لهذه المخالفات يمكن من خلالها التمييز بين كل منها، فإن جهة الإدارة من جانبها تعمل على توجيه هذه الاتهامات بشكل مفرط. وترى أغلبية الكتابات المتعلقة بفقه التأديب أن مخالفة المساس بكرامة الوظيفة أو افتقاد حسن سير الموظف ترتبط في أكثر الأمور بإتيان الموظف فعلًا سواء داخل العمل، أو في حياته الخاصة، يمس بقدسية الوظيفة وكرامتها ومكانتها الرفيعة في نفوس الناس.
وذكرت بعض الأحكام نماذج لهذه المخالفات، مثل: شرب الخمر في المحال العامة أو السب أو القذف.[7] وذهبت المحكمة الإدارية إلى ترديد هذا المعنى بشكل عام وفضفاض، حيث ارتأت أن الموظف العام مُطالب في نطاق أعمال وظيفته وخارجها أن ينأى بنفسه عن التصرفات، التي من شأن آثارها على الوظيفة العامة، أن تجعله مرتكبًا لمخالفة واجبات هذه الوظيفة. ومن بين هذه الواجبات ألا يسلك الموظف خارج الوظيفة مسلكًا يمس كرامة الوظيفة، أي مسلكًا ينطوي على تهاون أو عدم اكتراث أو عبث ترتد آثاره على كرامة الوظيفة، بما يشكل ذنبًا إداريًّا يستوجب المساءلة.[8]
ويمكن لنا من خلال قراءة بعض الأحكام والتطبيقات العملية أن نستنتج أن المخالفة محل النقاش هنا لا تختلف عن نظيرتها المسماة بالإخلال بمقتضيات الوظيفة، ولكن يتم تناول مخالفة المساس بكرامة الوظيفة من منظور أخلاقي أو ديني، حيث تسعى جهة الإدارة إلى فرض سياج على العاملين بالدولة باستخدام ادعاءات تتعلق بالتحلي بالخلق القويم والعادات والتقاليد، رغم عدم ارتباط الفعل بنطاق الوظيفة. وما يُبرِز هذا المعنى ما ذهبت إليه محكمة الإدارية العليا في أحد أحكامها:
“فإنه وإن كانت الواقعة المنسوبة إلى الطاعن قد حدثت خارج نطاق عمله الوظيفي، فإن ذلك لا يحول دون مساءلته تأديبيًّا، إذ أن التزام الموظف العام بأن يسلك في حياته مسلكًا يتفق مع ما أسند إليه من وظيفة عامة يوجب عليه ضرورة المواءمة بين نوع الوظيفة المسندة إليه والتزاماتها وسلوكياته العامة والخاصة، إذ لا شك أنه يوجد تأثير من أيهما على الآخر، ذلك أن الحياة الخاصة بالموظف العام ليست ملكًا خاصًّا له، بل يتعين عليه مراعاة ألا يأتي في سلوكه خارج عمله ما يؤثر على عمله ذاته أو على نظرة الأفراد إليه، إذ يمكن أن يترتب على ذلك إخلال بثقة الأفراد في الوظيفة العامة ومن يقومون على تدبير شئونهم”.[9]
القسم الثاني: الحالات محل الدراسة:
تتطرق الدراسة في قسمها الثاني إلى عدة نماذج من قطاعات متنوعة في الجهاز الإداري للدولة، وتم اختيار هذه الحالات عبر متابعة مستمرة لحالة حرية التعبير في الجهاز الإداري للدولة، وبهدف تحليل انعكاسات الأطر التشريعية والقانونية على تمتع العاملين بالدولة بالحق في التعبير الحر عن الرأي. وفيما يلي تستعرض الدراسة هذه الحالات:
1-منع القضاة من الظهور الإعلامي وحظر نشر أخبارهم:
ارتبك المشهد القانوني والقضائي بوصفه جزءًا من المشهد العام، الذي مرت به البلاد في الفترة ما بعد أحداث 2011، وتزايدت التساؤلات فيما يتعلق بالموقف القانوني للمحاكمات وخاصة المتعلقة برجال نظام مبارك وإمكانية محاكمة هؤلاء في وقائع القتل والاحتجاز والاختفاء والفساد.
كانت هذه الأسئلة في حاجة إلى نقاشات واسعة واجتهادات كبيرة، بينما كانت البيئة التشريعية تعاني من القصور الشديد، إذ أن الأحداث لم تكن بسيطة، وحاول المختصون بالقانون من قضاة ومحامين التصدي لها، إضافة إلى تشكل لجان لتقصي الحقائق، ووضع إعلان دستوري، ثم دستور جديد.
وكان القضاة جزءًا هامًّا وجوهريًّا من هذه العملية، بغض النظر عن توصيف هذه الأهمية والنتيجة التي انتهت إليها، فهو واقع قد عايشناه، حيث استدعت هذه الأحداث بالطبع ظهور القضاة، سواء على مستوى شرح القضايا المطروحة والإجابة على بعض التساؤلات، أم على مستوى توضيح المستجدات التشريعية والدستورية المُستحدثة.
ولم تستمر هذه الحالة كثيرًا، ففي يوليو 2011، صدر قرار عن مجلس القضاء برئاسة القاضي حسام الغرياني، الرئيس بمحكمة النقض المصرية وأحد أبرز عناصر تيار استقلال القضاء، بمنع الظهور الإعلامي للقضاة. وربما كان ظهور القضاة غير مألوف وغير مرغوب فيه، من وجهة نظر قطاع من القضاة أنفسهم ومن يتولى مسئولية شئون القضاء.
شمل المنع آنذاك القضاة وأعضاء النيابة العامة، فيما يتعلق بالإدلاء بتصريحات لكافة وسائل الإعلام عن أوضاع القضايا والمحاكم والمحاكمات، وكذلك منع القضاة من الظهور العلني في وسائل الإعلام، ومن إجراء المداخلات في البرامج المسموعة والمرئية. وتم الترويج حينها إلى أن القرار يستند إلى المادة (72) من قانون السلطة القضائية،[10] إلى جانب أهمية تفعيل هذا القرار بسبب ما تتعرض له البلاد من ظروف.
واستجاب البعض للقرار، إلا أن الأمر لم يستمر لمدة طويلة. فسرعان ما عاد القضاة إلى الظهور في المشهد الإعلامي مرة أخرى، بسبب تسارع وتيرة الأحداث. ولم يخلُ الظهور الإعلامي للقضاة ونشر آرائهم على صفحات التواصل الاجتماعي من الطابع السياسي في بعض الأحيان، وهو أمر طبيعي في ظل الأحداث التي مرت على البلاد في هذه الفترة.
ولم تتوقف قرارات منع الظهور، وتم إعلان قرار الجمعية العمومية لنادي القضاة برفض الظهور الإعلامي لرجال القضاء والنيابة العامة للتعليق على الشئون الخاصة بهم، وذلك عقب فوز المستشار أحمد الزند برئاسة نادي القضاة، في مارس 2102.[11]
تطور الأمر لاحقًا، وتحديدًا بعد أحداث 30 يونيو 2013، حيث تراجع ظهور القضاة وتعليقاتهم. كما تقلصت مساحات حرية التعبير بصفة عامة. ورغم ذلك، ظل بعض القضاة يعبرون عن وجهات نظرهم من خلال المساحات المحدودة، التي تتاح بين حين وآآخر في وسائل الإعلام، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بل في بعض الحالات عبَّر قضاة عن آرائهم على منصات القضاء، ما استدعى إحالة بعضهم إلى التحقيق.
- طبيعة قرارات المنع من الظهور الإعلامي وحظر نشر أخبار القضاة:
تثير قرارات منع الظهور الإعلامي الخاصة بالقضاة تساؤلات عدة، تتعلق بطبيعتها القانونية ومدى توسع مجلس القضاء الأعلى في استخدام صلاحياته في منع القضاة، إضافة إلى طريقة التعامل مع المُحالين إلى التحقيق.
تُغلف حياة القضاة وشئونهم بعازل يمنع القضاة أنفسهم من التفاعل مع ماجريات الأمور، حيث اعتمدت قرارات مجلس القضاء الأعلى على إبعاد القضاة عن كل ما يتعلق بالشأن العام. واستخدمت أداة التأديب لزجر الآراء المعارضة، بينما لم تطل آراء أخرى رغم فجاحتها، كونها جاءت متسقة مع الهوى العام.
وتوسع مجلس القضاء الأعلى في استخدام مواد قانون السلطة القضائية الخاصة بوضع قيود على القضاة في ممارسة بعض الأعمال واتصالهم بالشأن العام، مثل الأعمال التجارية وبعض الأعمال السياسية، وهو ما نُص عليه في المواد (72) و(73) من قانون السلطة القضائية. ولكن قبل أن نتطرق إلى الطريقة التي أديرت بها هذه الأزمة، يجب توضيح السند القانوني الذي اعتمد عليه مجلس القضاء الأعلى في إصدار مثل هذه القرارات أو التوصيات، كما يوصِّفها بعض القضاة.
تشير أغلب التصريحات التي أدلى بها بعض القضاة وأعضاء مجلس القضاء الأعلى إلى أن المجلس الأعلى للقضاء اعتمد في قرارات المنع من التصريح والظهور الإعلامي على نص المادة (72)، استنادًا إلى الفقرة الثانية منها، والتي تعطي الصلاحية لمجلس القضاء في منع “أي عمل يرى أنه يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها”، ثم نصت المادة (73) على أنه “يُحظر على المحاكم إبداء الآراء السياسية”.
ونلاحظ هنا أن التنظيم القانوني يتناول أعمالًا وضوابط وظيفية، تتعلق بطبيعة عمل القاضي أثناء عمله، فالمادة (72) تعطي صلاحية واضحة تتعلق بمباشرة عمل أو وظيفة تتعارض مع طبيعة عمل القاضي، وقد تُرك النص دون تحديد لمراعاة المستجدات، التي تطرأ بشكل مستمر. ولكن هذه الصلاحية مناطها بشكل واضح أن يكون قرار المنع الصادر عن مجلس القضاء محددًا لا مطلقًا، فلا يصح أن يُصدِر قرارًا بالمنع لكافة أعضاء الهيئات القضائية من الظهور الإعلامي أو التصريح والتعليق على أمر، لا يمس الشأن القضائي أو أحد القضايا المنظورة أمام القضاء.
ويؤدي قرار منع الظهور بهذه الصياغة إلى سلب القضاة حقهم في التعبير الحر عن آرائهم، بينما كان من المُمكن تحقيق هدف مواد القانون بوضع ضوابط للظهور والتصريح والكتابة. وهنا يجب التفريق بين أمرين حتى تتضح الصورة:
الأمر الأول، يتعلق بحق القاضي في التعليق والتصريح والظهور الإعلامي بمناسبة عمله على إحدى القضايا، حيث جرت الأعراف القضائية في مصر على أن يلتزم القاضي بمبدأ الحياد، والذي يتأسس على قاعدة أصولية قوامها وجوب اطمئنان المتقاضي إلى قاضيه الطبيعي، وأن قضاءه لا يصدر إلا عن الحق وحده دون تحيز.
ويدعم هذا الرأي المادة (146) البند رقم (5) من قانون المرافعات، وهي تحدد الحالات التي لا يصح للقاضي النظر فيها ويكون ممنوعًا من سماعها ولو لم يرده أحد من الخصوم، وتشمل هذه الحالات إذا ما كان القاضي: “قد أفتى أو ترافع عن أحد الخصوم في الدعوى، أو كتب فيها ولو كان ذلك قبل اشتغاله بالقضاء، أو كان قد سبق له نظرها قاضيًا أو خبيرًا أو محكمًا، أو كان قد أدى شهادة فيها”.
وفسرت محكمة النقض مفهوم المادة (146)، حيث ذهبت إلى أنه:
“إذا كان قد أفتى أو ترافع عن أحد الخصوم في الدعوى أو كتب فيها ولو كان قبل اشتغاله بالقضاء أو كان قد سبق له نظرها قاضيًا أو خبيرًا أو محكمًا أو كان قد أدى الشهادة فيها”، يدل هذا على أن المعول عليه فى إبداء الرأي الموجب لعدم صلاحية القاضي إفتاءً كان أو مرافعة أو قضاءً أو شهادة، هو أن يقوم القاضي بعمل يجعل له رأيًا في الدعوى أو معلومات شخصية تتعارض مع ما يشترط فيه من خلو الذهن عن موضوع الدعوى حتى يستطيع أن يزن حجم الخصوم وزنًا مجردًا مخافة أن يتشبث برأيه الذى يشف عنه عمله المتقدم حتى ولو خالف مجرى العدالة وضنًّا بأحكام القضاء من أن يَعْلَق بها استرابة من جهة شخص القاضي لدواعٍ يذعن لها عادة أغلب الخلق”.[12]
وللنص السابق وجاهة فيما يتعلق بالجوانب التي تتمثل صورها في الإدلاء بالرأي من الناحية القانونية كممثل للدفاع أو خبير أو عمل من أعمال القضاء بصفة عامة. وذلك لأن الأمر يتعلق بإبداء رأي قانوني، قد بُني على عقيدة ترسخت في ذهن القاضي، نتيجة دراسة الحالة والانتهاء إلى رأي واضح يرتبط بالواقعة محل النظر وما هو معروض من أوراق.
إلا أن محكمة النقض قد ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما توسعت في تفسيرها لكي يمتد إلى الآراء التي أبداها القاضي بشكل عام، حتى ولو كان رأيًا شخصيًّا بصفة عامة. فهذا الفرض يعني أن القضاة هم أشخاص لا يملكون آراء وهو أمر غير منطقي، فكل فرد لديه آراؤه في عموم الأمور وإن لم يُعبر عنها، ولكن يختلف الأمر حينما تعرض عليه القضية. وهنا العبرة تكون في تقييد القاضي بما يُعرض أمامه.
والغريب في الأمر أن نص المادة وما ذهبت إليه محكمة النقض يتناول إذا كان تم التعبير عن هذه الآراء، فهل الأمر يتعلق بالتعبير عن الرأي أم اعتناقه. فالتعبير عن الرأي ما هو إلا إفصاح عن واقع أو حقيقة تكونت في ذهن القاضي، ومن الأفضل أن يفصح عنها، وإلا امتد ما في ذهن القاضي إلى الأحكام التي يصدرها، ومن ثم يكون الضرر كبيرًا.
أما الأمر الثاني، فيتعلق بحق الظهور الإعلامي والتصريح بمختلف الوسائل للتعليق على أمر يتعلق بالشأن العام. والأصل أن القضاة مواطنون يتمتعون بكافة الحقوق المنصوص عليها بالدستور المصري، ما لم يرد نص صريح يعطل أحد هذه الحقوق كليًّا أو جزئيًّا، مثل ما نُص عليه في المادة (73) من قانون السلطة القضائية من حرمان أعضاء الهيئات القضائية من حق الترشح للمجالس النيابية.
وبذلك يكون للقضاة الحق في التعبير الحر عن آرائهم، بما يشمل حقهم في الشكوى من أعباء الوظيفة ومشاكلها، إلا أن مجلس القضاء الأعلى وعددًا من القضاة أنفسهم يرون في التعليق على القضايا المتعلقة بالشأن العام شكلًا من أشكال إبداء الرأي السياسي أو الاشتغال بالعمل السياسي، محاولين بذلك إيجاد مبرر قانوني لمنع القضاة من الظهور أو المشاركة بتعليقاتهم على أمور تتعلق بالشأن العام.
وأكد الرئيس الأسبق لمجلس القضاء الأعلى ومحكمة النقض المستشار فتحي خليفة في تصريح له، أن المقصود بمنع القاضي من الاشتغال بالسياسة لا يراد به مجرد منعه من الانضمام إلى الأحزاب السياسية، بل يدخل ضمنه المناقشة والتعليق على قرارات السلطتين التشريعية أو الحكومية، ما دام ذلك في غير خصومة معروضة عليه، يختص بالفصل فيها كعمل قضائي.[13]
وعلى الرغم من التكييف الخاطئ، الذي يوصِّف الظهور الإعلامي وغيره من أشكال التعبير المختلفة على أنه إما إبداء لرأي سياسي أو اشتغال بالعمل السياسي، فإن هذا الأمر مردود عليه، إذ أن حظر إبداء الآراء السياسية يفرض على القضاة بمناسبة عملهم كما أشرنا سابقًا. ويدل استخدام المُشرع لفظ المحاكم لا القضاة على أن الأمر هنا يتعلق بعمل القضاة على قضايا منظورة أمامهم. وهكذا يكون المنع من الظهور الإعلامي محددًا لا يمكن القياس عليه أو التوسع في تفسيره، وإلا نكون قد حمَّلنا النص أكثر مما يحتمل وذهبنا إلى استنتاجات خاطئة.
وإذا كان المشرع قصد إلى هذه الاستنتاجات، كان عليه أن يفصح عنها دون منع أو تورية، وهو ما يسقط حقًّا محميًّا بموجب الدستور المصري، هذا من جانب. ومن جانب آخر، فيما يتعلق بمحاولة توصيف مشاركة القضاة على أنه اشتغال بالعمل السياسي، فإن مرد هذا الأمر، يمكن إرجاعه إلى فتوى صادرة، توضح مفهوم الاشتغال بالعمل السياسي وحدوده. فقد جاء في فتوى من إدارة الفتوى والتشريع بمجلس الدولة ردًّا على طلب الرأي في شأن رجال مجلس الدولة، الذين ينوون الترشح لعضوية مجلس النواب المصري أنه:
“صدر بعد ذلك القانون رقم 66 لسنة 1943 الخاص باستقلال القضاء ناصًّا في المادة السابعة عشرة منه على أنه يحظر على المحاكم إبداء الآراء والميول السياسية ويحظر كذلك على القضاء الاشتغال بالسياسة، ويتضح من الأعمال التحضيرية لهذه المادة أن المقصود بالحظر هو الاشتغال بالسياسة الحزبية دون السياسة القومية وأن حكمة هذا الحظر هي إبعاد القضاة عن الشبهات حتى يطمئن كل الناس إلى حيدتهم ونزاهتهم، فقد ورد في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون أنه يحرَّم على المحاكم إبداء الآراء والميول السياسية التي تنم عن التحيز لحزب من الأحزاب أو هيئة من الهيئات كما يحظر كذلك على القضاة الاشتغال بالسياسة اشتغالًا فعليًّا من شأنه أن يجعل لهم رأيًا ظاهرًا في الخلافات الحزبية، وهو ما يجب على القاضي أن يمتنع عنه حتى يكون القضاء بعيدًا عن الشبهات وأن يطمئن إليه كل الأفراد ومن المفهوم تطبيقًا لذلك أنه محظور على القاضي أن يرشح نفسه على أساس لون حزبي معين”.[14]
جاء رد إدارة الفتوى والتشريع محدِّدًا لمفهوم الاشتغال بالعمل السياسي، وهو ما يتعلق بالانخراط الفعلي في أحد الأحزاب أو الترشح لانتخابات المجالس النيابية، وهو الأمر الذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بموضوعنا، فيما يتعلق بحرية القضاة في التعبير عن آرائهم، سواء بالظهور الإعلامي أو الكتابة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
من جانب آخر، فإن حق أعضاء الهيئات القضائية في التعبير الحر عن آرائهم، لم تضمنه الوثيقة الدستورية وحدها بوصفهم مواطنين مصريين، بل إن هناك مواثيق دولية تناولت حماية هذا الحق، ومن أبرزها المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، والتي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين،[15]والتي انتهت فيما يتعلق بحرية التعبير وتكوين الجمعيات إلى:
“وفقًا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات والتجمع، ومع ذلك يشترط أن يسلك القضاة دائمًا، لدى ممارسة حقوقهم، مسلكًا يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء”.
وتناولت مبادئ بانغالور للسلوك القضائي حق القضاة في حرية التعبير، وهي مبادئ تم إقرارها من قِبَل مجموعة النزاهة القضائية في مدينة بانغالور الهندية، في فبراير 2001، وكذلك أقرتها لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بمقتضى القرار رقم 43/2003. وجاء في البند 4/6 من هذه المبادئ ما يلي:
“يحق للقاضي كأي مواطن آخر حرية التعبير والعقيدة والارتباط والتجمع ولكن يتعين عليه دائمًا عند ممارسته تلك الحقوق أن يتصرف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي وحياد السلطة القضائية واستقلالها”.
من الجيد الحديث عن هذه المواثيق وما تحويها من ضمانات تكفل حرية القضاة في التعبير عن الرأي، ولكن الأهم أن القضاة أنفسهم هم أشخاص يمتهنون القانون وإعماله وتطبيقه، أي أنهم على دراية كاملة بهذه الحقوق. ولمَّا كانت هناك مناقشة خاصة بمشروع تعديل قانون السلطة القضائية في مجلس الشورى، في إبريل 2013، تقدم القاضي أحمد الزند بمذكرة لتوضيح مخالفات نظام جماعة الإخوان المسلمين (الحاكم السياسي للبلاد) لنصوص المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية. واعتمد الزند في مذكرته على المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود في ميلانو، وقال الزند إن مشروع القانون هذا يأتي تمهيدًا لعزل 3500 قاضٍ من أعضاء السلطة القضائية.[16]
-
الصلاحية ومجالس التأديب أداة لتقييد حرية التعبير:
تحمل طبيعة العمل القضائي سمات مختلفة، إذ أن توقيع الجزاءات بل مجرد إجراء التحقيق في حد ذاته يشكل ضغطًا على القضاة وهاجسًا يُطاردهم بشكل دائم. وكما سبق أن أوضحنا أن أداة التأديب هي أداة شديدة الانتقائية يحكمها طبيعة شخص القاضي نفسه أو توجُّه الرأي الذي يعتنقه أو يردده. يُضاف إلى هذا، طبيعة المناخ الذي يحكم الوقائع، ما يشير إلى غياب معايير أو محددات للمساحة، التي يمكن للقاضي أن يُحاكم أو يساءل إذا ما خالفها _هذا إذا سلمنا جدلًا بصحة إحالة القضاة إلى التحقيق بسبب آرائهم_ كما أنه أيضًا يثير تساؤلًا آخر عن كيفية اتصال علم جهات التحقيق بالواقعة.
لذا، فسوف نعرض الطريقة التي تُرصد بها آراء القضاة، ثم نستعرض بعض الحالات التي أحيل بسببها القضاة إلى التحقيق، في وقائع تتعلق بالتعبير الحر عن آرائهم، كما يلي:
أولًا: طريقة رصد آراء القضاة:
شُكِّلت لجنتان للقيام بمراقبة حسابات القضاة، اللجنة الأولى شكلها المستشار أحمد الزند، إبان توليه منصب وزير العدل، وذلك في منتصف عام 2015. عملت هذه اللجنة على مراقبة ورصد كل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، سواء العامة أو الخاصة بأعضاء الهيئات القضائية. وقد شُكلت اللجنة من 3 أعضاء بالمكتب الفني لوزير العدل. بينما تم تشكيل لجنة أخرى لنفس الغرض من قبل مجلس القضاء الأعلى.
وعملت اللجنتان على تقديم تقارير تتضمن مُخالفات القضاة المرتبطة بكتابة منشورات على صفحات التواصل الاجتماعي، وإحالة هذه التقارير إلى وزير العدل، والذي يقوم بدوره بإحالتهم إلى التفتيش القضائي، لإجراء التحقيق معهم فيما تمت كتابته. والمُفارقة هنا أن قضاة مسئولين قد ارتضوا أن يستخدموا أدوات غير قانونية مثل مراقبة الصفحات الشخصية لأعضاء الهيئات القضائية.
ثانيًا: التحقيق مع القضاة في وقائع تتعلق بالتعبير الحر عن آرائهم:
أُحيل عدد من القضاة إلى مجالس التأديب، على خلفية قرارات المنع من الظهور الإعلامي، وتم التحقيق معهم، كما تعرض بعضهم إلى عقوبات نتيجة ذلك. جاءت أغلب قرارات الإحالة بسبب نشر الآراء على الصفحات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، كما ارتبطت هذه القرارات بأحداث مختلفة منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، نذكر منها على سبيل المثال:
القضاة والأزمة الاقتصادية (أزمة الكارت الذهبي):
أجرت إدارة التفتيش القضائي تحقيقًا في بلاغات قُدمت ضد 9 قضاة، بسبب كتابة تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، تناولت قرار تخفيض الحصة المخصصة من الخبز لأصحاب الكروت الذهبية. وعرضت إدارة التفتيش على القضاة المتهمين تدويناتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تضمنت انتقادًا لقرار وزير التموين ﻷنه يزيد الأعباء على كاهل المواطنين، الذين يعانون من غلاء الأسعار.
وأكد القضاة أثناء التحقيق أنهم عبروا عن هذه الآراء بشكل موضوعي، ولم يتم تناول الأمر من جانب سياسي، مُشددين في الوقت نفسه على أن وزير التموين أكثر دراية بظروف وزارته، لكن في الوقت نفسه يحق لهم باعتبارهم مواطنين أن يدلوا بآرائهم في أمور تمس حياة المواطنين، دون التطرق إلى أي أراء سياسية أو انتقاد أو تجريح، وتم حفظ التحقيقات في الاتهامات الموجهة إليهم، في مايو 2017.[17]
أزمة قضاة نادي مجلس الدولة وانتخابات البرلمان:
أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى قرارًا، في أكتوبر 2015، بإحالة أربعة قضاة إلى التفتيش. وحرر رئيس المجلس مذكرات ضدهم تتضمن مجموعة من المخالفات، حيث أشارت المذكرة إلى أن المستشار محمد العواني، رئيس نادي قضاة مجلس الدولة، أقدم في 21 أكتوبر 2015، على مخالفة الضوابط والأصول المتعارف عليها قضائيًّا، من خلال تحرير وإرسال خطاب إلى رئيس الجمهورية يشكو فيه العشوائية، التي انتابت أداء توزيع قضاة المجلس على اللجان الانتخابية، خلال الجولة الأولى من انتخابات المرحلة الأولى للبرلمان. كما طلب العواني أن يتنحى المسئولون الذين أخفقوا في مهامهم عن مناصبهم، على حد وصف الخطاب.
اعتبر رئيس مجلس القضاء هذا الخطاب استدعاءً للسلطة التنفيذية الممثلة في رئاسة الجمهورية، لكي تتدخل في شأن قضائي، يتعلق بتوزيع قضاة مجلس الدولة في المرحلة الثانية، وتسكينهم باللجان الفرعية المختلفة، بما يخرق المبادئ والأصول المقررة قانونيًّا لحق الشكوى.[18]
أما بالنسبة إلى المستشارينِ أيمن حجاج ووائل فرحات، عضوي مجلس إدارة النادي، فتضمنت المخالفات المنسوبة إليهما كثرة الظهور الإعلامي والإدلاء بتصريحات إعلامية، بوصفهما المسئولين عن غرفة عمليات قضاة مجلس الدولة لمتابعة الانتخابات، دون الحصول على إذن من رئيس مجلس القضاء الأعلى، بالمخالفة لقراره الصادر في ذلك الشأن.
قضاة تيران وصنافير:
اتخذ مجلس القضاء الأعلى برئاسة المستشار أحمد جمال الدين عددًا من القرارات بإحالة 46 قاضيًا إلى إدارة التفتيش القضائي بالنيابة العامة، و4 مستشارين إلى إدارة التفتيش القضائي بوزارة العدل، ورفع الحصانة عن 6 قضاة وإحالتهم إلى النيابة العامة للتحقيق معهم، وذلك على خلفية قيام هؤلاء المستشارين والقضاة بالكتابة على موقع فيسبوك، وإبداء رأيهم فى اتفاقية تعيين الحدود بين مصر والسعودية وإعادة جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية.
وقد صدر القرار ضد كل من كتب منشورات على فيسبوك، وشمل أيضًا كل من قام بمشاركة هذه المنشورات أو أبدى إعجابه بها على فيسبوك. واعتمد القرار على تقارير متابعة، يتم تحريرها بين الحين والآخر بخصوص صفحات القضاة على مواقع التواصل الاجتماعى . وجاء في التقارير المقدمة إلى وزير العدل قيام 10 مستشارين في درجات وظيفية مختلفة بإبداء آراء سياسية عن جزيرتي تيران وصنافير على فيسبوك.
وأمر القرار بالتحقيق في ذلك، وبيان إذا كانت هذه الواقعة تمثل مخالفة لقرار المجلس الأعلى للقضاء، الذي يحظر على القضاة الاشتغال بالسياسة من عدمه. وانتهت التحقيقات إلى توقيع عقوبة التنبيه على 6 قضاة، بينما رأى المجلس الأعلى للقضاء بعد اطلاعه على مذكرة وزير العدل أن ما قام به القضاة الستة يمثل جرمًا، وقرر رفع الحصانة عنهم، وإحالتهم إلى النيابة للتحقيق معهم بتهمة الاشتغال بالسياسة.[19]
2- أزمة قيادات ماسبيرو “أحداث تيران وصنافير”:
تختلف أزمة قيادات ماسبيرو عن غيرها من الحالات المذكورة كون أزمة ظهور ومشاركة القضاة وأعضاء هيئة التدريس قد اتُخذت كإجراء استباقي في محاولة لمنعهم من الإدلاء بآرائهم بشكل مُسبق. أما في حالة موظفي ماسبيرو، فإن جهة الإدارة قد اتخذت الإجراءات القانونية بالنقل والإحالة إلى المحاكمة التأديبية، بناء على ما صدر عن هؤلاء الموظفين، عندما عبروا عن آرائهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
ترجع واقعة التحقيق مع أحد موظفي اتحاد الإذاعة والتليفزيون (الهيئة الوطنية للإعلام حاليًّا) إلى شهر إبريل 2016، وجرى التحقيق على خلفية كتابة الموظف آراءه على صفحته الخاصة بفيسبوك. ووجهت إدارة اتحاد الإذاعة والتلفزيون إلى الموظف اتهامًا بنقد السياسات المتعلقة باتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية، والتي بموجبها تم التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير.
تتبعت إدارة الأمن بماسبيرو صفحة الموظف الشخصية، وحصلت على صور ضوئية من المنشورات والتعليقات والآراء، التي تم نشرها على الصفحة (screen-shots)، وحررت مذكرة بذلك. وبعد إجراء تحقيق إداري في الواقعة، أُحيلت الواقعة برمتها إلى النيابة الإدارية في شهر إبريل 2016، والتي بدورها أحالتها إلى المحكمة التأديبية في شهر مايو من نفس العام، ثم صدور قرار عن المحكمة التأديبية في عام 2018 بإنهاء خدمة الموظف .
ويجب هنا الوقوف أمام مجموعة هامة من النقاط تتعلق بكيفية اتصال علم جهة التحقيق بالواقعة، وكذلك مسلك جهة التحقيق (النيابة الإدارية) في توصيف الاتهامات، وربطها بواجبات الوظيفة العامة، واستخدامها الخاطئ لبعض نصوص المواثيق الدولية في دعم الاتهامات وتجريد الموظف من مظلة الحماية المكفولة له بموجب بعض النصوص.
- أثر المخالفات الإدارية خارج نطاق الوظيفة:
جاء بتقرير الاتهام المُقدم من النيابة الإدارية إلى المحكمة التأديبية أن الموظف المُحال قد سلك مسلكًا لا يتفق مع الاحترام الواجب للوظيفة، وخالف القواعد والتعليمات والقانون، وخرج عن مقتضى الواجب الوظيفي. وأرجع التقرير هذه الاتهامات إلى قيام الموظف بنشر وكتابة عبارات غير لائقة في حق رئيس الجمهورية، وذلك على الصفحة الشخصية الخاصة به على موقع فيسبوك.
استهلت النيابة العامة مذكرة الاتهام باﻹشارة إلى أن جهة الإدارة اتصل علمها بالواقعة من خلال مذكرة حررها رئيس قطاع الأمن (بمبنى ماسبيرو)، والتي رصد فيها نشر الموظف المحال إلى التحقيق عبارات مسيئة في حق القيادة السياسية، ونشر عبارات سب وقذف بحق القيادة السياسية.
وأسندت النيابة إلى الموظف المُحال نشر عبارات تُعد إهانة وسبًّا في حق رئيس الجمهورية، وأضافت النيابة في تقريرها:
“إن كان للمذكور الحق في التعبير عن رأيه الشخصي في مسألة ما فكان يجب عليه أن يلتزم بحدود الآداب العامة والأسلوب اللائق والعبارات التي لا تمثل في ذاتهاإهانة أو سبًّا في حق أي شخص”.
واستندت النيابة فيما ذهبت إليه إلى الفقرة الثانية من المادة (19) من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، والتي تضع قيودًا تتمثل في احترام حقوق الغير وسمعتهم وحماية الأمن القومي والنظام العام. وانتهت المذكرة إلى أن الواقعة المسندة إلى الموظف المحال تمثل جريمة جنائية قوامها إهانة رئيس الجمهورية وهي جريمة مؤثَّمة بنص المادة (179) من قانون العقوبات.
وأشار الموظف المُحال في التحقيقات إلى أن إدارة الأمن بماسبيرو هي جهة غير مختصة بتقديم الشكاوى من هذا النوع، وقال: “لا علاقة لإدارة الأمن بالتدخل في هذا الشأن لأنه يخرج عن نطاق اختصاص عمل تلك الإدارة والتي تختص بالمحافظة على أمن المبنى والعاملين به وأن المذكرة المُعدة تمثل تجاوزًا لهذا الاختصاص”.
كما أوضح الموظف المُحال أن “العبارات محل التحقيق بمثابة تعبير عن رأيه الشخصي في مسألة جزيرتي تيران وصنافير باعتبار أن هذه القضية مسألة وطنية وتخص الأمن القومي وأنه غير موافق على ما تم بشأن هذا الموضوع وأن قيامه بالتعبير عن رأيه في ذلك الصدد لا علاقة له بالعمل داخل اتحاد الإذاعة والتلفزيون”.
واستطرد الموظف المُحال موضحًا لجهة التحقيق أن طبيعة الإجراء الذي يتم في حقه مُخالف للقوانين والأعراف المهنية حيث قال: “إن الإدارة ليست مُكلفة بالدفاع عن شخص رئيس الجمهورية أو الدفاع عن أي شخص وأنه يحق له التعبير عن آرائه الشخصية وفقًا للقانون والدستور”.
وجاء في رد النيابة الإدارية أيضًا: “كذلك لا يمكن الاستناد لما جاء بأقوال المذكور سلفًا من أن تلك الواقعة لا تمس نطاق العمل ولا تدخل في مقتضياته لإبعاد أي مسئولية عنه لأن ذلك مردود عليه بما جرى عليه قضاء المحكمة الإدارية العليا والتي قضت بأن الموظف العام مطالب في نطاق أعمال وظيفته وخارجها أن ينأى بنفسه عن التصرفات التي من شأنها ما يعكس إتيانه لها من آثار على الوظيفة العامة ومن هذه الواجبات ألا يسلك الموظف خارج الوظيفة مسلكًا يمس كرامة الوظيفة”.
- التوسع في نطاق التجريم (تجاوز النيابة الإدارية ااختصاصها):
وبعد انتهاء التحقيق، حررت جهة التحقيق مُذكرة لإحالة الموظف إلى المحكمة التأديبية، وانتهت جهة التحقيق إلى نتيجة مُغايرة لنصوص القانون، فيما يتعلق بتكييف الواقعة ومدى اختصاص جهة الإحالة _وهي أيضًا النيابة الإدارية_ بالتحقيق في الواقعة محل المُخالفة. فقد انتهت النيابة الإدارية إلى:
“وحيث أن الواقعة المُسندة إلى الموظف المُحال والسالف بيانها تقيم في حق المذكور جريمة جنائية قوامها إهانة رئيس الجمهورية والمؤثمة بنص المادة 279 من قانون العقوبات الأمر الذي كان يقضي بإخطار النيابة العامة بالواقعة لإعمال شئونها قبلها بصفتها الجهة الأمينة على الدعوى الجنائية إلا أنه إزاء ما انتهينا إليه من إحالة المذكور للمحاكمة التأديبية لارتكابه تلك الواقعة فضلًا عما تملكه المحكمة من توقيع جزاء يكفل تحقيق الردع في حق المذكور”.
وهكذا، لم توضح النيابة الإدارية سبب عدم التزامها بالاختصاص، رغم ما انتهت إليه من توصيف الواقعة كجريمة جنائية. وبهذا تخالف النيابة الإدارية ما نص عليه القانون المُنظم لعملها من أنه: “إذا أسفر التحقيق عن وجود جريمة جنائية أحالت النيابة الإدارية الأوراق إلى النيابة العامة وتتولى النيابة العامة التصرف في التحقيق واستيفائه إذا تراءى لها ذلك، على أن يتم ذلك على وجه السرعة”.[20]
هذا بالإضافة إلى التفسير المغلوط في تحديد الهدف من تصدي المحكمة التأديبية للواقعة رغم عدم الاختصاص، حيث ترى النيابة الإدارية أن من وظيفة واختصاص المحاكم التأديبية ردع الموظف المُحال، وهو ما يؤكد التوجه العام باستخدام النُظم التأديبية الوظيفية في تقييد حق العاملين بالدولة في حرية التعبير.
3- حظر ظهور أعضاء هيئة التدريس بوسائل الإعلام ونشر المقالات:
تتميز الحياة الأكاديمية بطابع خاص يرتبط بحالة الثراء الفكري والعلمي، وتناول العديد من المشكلات التي تتعلق بالمجتمع، لذا لا يخلو نقاش حول أمور الشأن العام من الجوانب النظرية، حيث ثمة تفاصيل علمية بحتة تحتاج إلى رأي أكاديمي مُتخصص.
يجعل ذلك من مشاركة أعضاء هيئة التدريس وظهورهم في وسائل الإعلام المختلفة وكتابة المقالات أمرًا ضروريًّا في قضايا الشأن العام على اختلافها، كما يتسق مع دور ووظيفة الجامعات في النهوض بالمجتمع. وهو الدور الذي لا يقف عند حد التدريس، بل يمتد ليشمل صورًا مختلفة لنشر المعرفة.
ويؤكد هذا المعنى ما ورد في ديباجة قانون تنظيم الجامعات، الذي تستخدم إدارات الجامعات مواده في منع ظهور أعضاء هيئة التدريس، حيث جاء بالمادة الأولى من قانون تنظيم الجامعات أن الجامعات تُعتبر معقلًا للفكر الإنساني في أرفع مستوياته، ومصدرًا لاستثمار وتنمية أهم ثروات المجتمع وأغلاها وهي الثروة البشرية.
أصبح ظهور أعضاء هيئة التدريس في الإعلام أمرًا مزعجًا لبعض المسئولين، وبادرت بعض إدارات الجامعات إلى إصدار قرارات وتعليمات بمنع أعضاء هيئة التدريس من الظهور الإعلامي أو كتابة المقالات، كما اشترطت جامعات أخرى الحصول على إذن مسبق للظهور إعلاميًّا.
قرارات وتعليمات إدارية بحظر الظهور:
أصدرت إدارة جامعة كفر الشيخ، في سبتمبر 2015، قرارًا موجَّهًا إلى كليات الجامعة بحظر الظهور الإعلامي وإصدار أو نشر أية مقالات أو تصريحات صحفية، إلا بإذن مسبق من رئيس الجامعة أو موافقة كتابية من الجهات المختصة بالجامعة.
وأشار القرار الخاص بحظر الظهور إلى أنه جاء بناء على توصية من أستاذ بكلية الحقوق بضرورة وضع ضوابط ومعايير للظهور الإعلامي. ولم يمنع القرار أعضاء هيئة التدريس وحدهم، بل امتد اثره أيضًا إلى الهيئات المعاونة والعاملين بالجامعات.
وفي نوفمبر 2015، أصدر رئيس جامعة قناة السويس قرارًا مُشابهًا بالتنبيه على أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة على عدم إصدار أو نشر أي مقالات أو موضوعات أو الظهور بأيٍّ من وسائل الإعلام، إلا بعد الموافقة المُسبقة من رئيس الجامعة. وأرجع رئيس الجامعة قراره إلى نص المادة (104) من القانون رقم 49 لسنة 1972، بشأن تنظيم الجامعات، ويشير القرار إلى تطبيق القانون على من يخالف هذه التعليمات.[21]
صورة من قرار رئيس جامعة قناة السويس
أسباب قرارات حظر الظهور الإعلامي:
لم تأتِ القرارات التي اتخذتها جامعتا كفر الشيخ وقناة السويس تنفيذًا لقرارات أصدرها وزير التعليم العالي أو المجلس الأعلى للجامعات، بل استندت إلى مجرد تعليمات شفهية. وفي هذه الحالة لا يمكن الاعتداد بغير ما يصدر من قرارات منشورة أو تصريحات رسمية. يؤيد هذا الاتجاه ما ورد على لسان كل من المستشار الإعلامي لوزير التعليم العالي وأمين المجلس الأعلى للجامعات من تصريحات بجريدة الشروق، حيث جاء بها: “نفى المستشار الإعلامي لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الدكتور محمد حجازي، صدور قرارات من الوزارة بمنع ظهور أساتذة الجامعات في الإعلام والتحدث للصحف، مضيفًا أن هذه شائعات هدفها إثارة البلبلة”، كما قال أمين المجلس الأعلى للجامعات: “لم يعرض على المجلس أي قرار خاص بمنع ظهور الأساتذة في وسائل الإعلام، ويُسأل عن ذلك كل رئيس جامعة اتخذ مثل هذا القرار”. [22]
جاء نفي وزارة التعليم العالي والمجلس الأعلى للجامعات بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أشهر على صدور هذه القرارات، ويعد غياب هذا النفي منذ البداية أمرًا غير اعتيادي، ولكن لم يوقف هذا النفي الجدل حول الدوافع وراء إصدار قرارات حظر الظهور.
وربما كان النفي يرتبط بمحاولة لإبعاد شبهة التدخلات، التي صدرت عن وزارة التعليم العالي وخاصة بعد تصريحات الدكتور ماجد القمري رئيس جامعة كفر الشيخ آنذاك، التي قال فيها: “لم يتم منع أعضاء هيئة التدريس من الظهور في وسائل الإعلام ولكننا نظمنا الظهور فقط، موضحًا أنهم تلقوا طلبات بذلك من وزير التعليم العالي، ومن جهة سيادية”.[23]
وعلى الأرجح، فإن الجدل حول هذه القرارات، في يناير 2016، أدى إلى منع تطبيق مثل هذه القرارات في جامعات أخرى، كما لم يتم رصد حالات حينها تم فيها تطبيق هذه القرارات في الجامعات التي أصدرتها.
لاحقًا، في إبريل 2017، أحالت جامعة السويس الدكتورة منى البرنس الأستاذ بكلية الآداب بجامعة السويس إلى التحقيق بسبب “النشر على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك من مقاطع وفيديو، والظهور في عدة قنوات تلفزيونية دون إذن الجامعة والإدلاء بتصريحات مخالفة للقانون والقيم الجامعية”. هذا بجانب عدد من الاتهامات الأخرى التي ساقتها إدارة الجامعة في حق البرنس، وهو ما يعني أن قرارات منع الظهور الإعلامي قد دخلت حيز التنفيذ، الأمر الذي يحتاج إلى بحث الحجج والمزاعم القانونية التي ساقتها إدارة الجامعات التي أصدرت هذه القرارات. وانتهى مجلس التأديب في 2018 بعد استمرار التحقيق لمدة 14 شهرًا بعزل الدكتورة منى من وظيفتها بالجامعة .
حُجج إدارات الجامعات في حظر الظهور الإعلامي:
اعتمدت هذه القرارات على المادة (101) من باب الواجبات بقانون تنظيم الجامعات،[24] والتي تتحدث عن أعمال الخبرة والاستشارات التي من الممكن أن يقوم بها بعض أعضاء هيئة التدريس والتي تتعلق بطبيعة عملهم، ومن ذلك ما يقوم به أعضاء هيئة التدريس بكلية الهندسة من أعمال مثل عضوية اللجان الاستشارية الفنية في بعض المشروعات، وكذلك انتداب أعضاء هيئة التدريس لتقييم بعض الأعمال من خلال كتابة تقارير فنية.
ويعيب نص المادة كونه يحمل توصيفات شديدة العمومية، بجانب غياب الوضوح عن الألفاظ المُستخدمة في النص، إلا أن نص المادة في مُجمله لا يخرج عن كونه نصًّا تنظيميًّا، يُلزم أعضاء هيئة التدريس بالحصول على ترخيص من إدارة الجامعة حال ممارسة عمل خبرة يتصل أو يتشابه أو يرتبط بنشاطهم الأكاديمي.
إلا أن النص بمعناه المُباشر لا يمس موضوع القرارات الخاصة بالمنع من الظهور الإعلامي أو كتابة المقالات، حيث أن أعمال الخبرة لها أشكال قانونية مُحددة، تتم من خلال الانخراط في تعاقدات وأعمال واضحة ومقابل أجر مادي يستحقه من قام بالعمل المطلوب. يعني ذلك أن العمل المقصود هو عمل تجاري احترافي، لا يمكن ممارسته إلا للمختص وبصفته خبيرًا في هذا المجال. وهنا نجد أن الأمر بعيد كل البُعد عن نص القرار، فالظهور الإعلامي وإبداء الآراء ليس حكرًا على أحد. كما أنه لا يمكن اعتبار الظهور الإعلامي بأي حال عملًا من أعمال الخبرة أو الاستشارات لخلوه من الشروط الآنف ذكرها، ونفس الأمر ينطبق على كتابة المقالات فهي مجرد آراء، حتى لو ارتبطت أو امتزجت في جزء منها أو كلها مع تفاصيل علمية.
كما اعتمدت قرارات المنع على المادة (104) من قانون تنظيم الجامعات،[25] وتضع المادة ضوابط تتعلق بعدم جمع عضو هيئة التدريس بين عمله بالجامعة وأي عمل آخر، سواء كان عملًا تجاريًّا أو ماليًّا أو لا يتفق مع كرامة الوظيفة. ويعد نص المادة بعدم جواز الجمع بين وظيفتين مماثلًا لما هو مذكور في أغلب التنظيمات القانونية المتعلقة بالعاملين بالدولة. ولا يمكن الاعتداد به إلا في حالة توفر العناصر التي شملها النص، وبدون تواجدها أو غياب أحدها، لا يمكن توصيف الفعل على أنه عمل تجاري، كما أن الأعمال التجارية قد حددها قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999 وقد ذكر ما هو العمل التجاري وصوره على سبيل الحصر.[26]
يتبقى لنا الشرط المتعلق بكرامة الوظيفة، وهو أمر مُستبعد بدليل أن إدارات الجامعات قد وافقت على الظهور والمشاركة بشرط الحصول على إذن، وهو ما يعني أن الأمر لا يمس كرامة الوظيفة إن صح القول. ويوضح استبعاد كافة هذه العناصر عدم ارتباط نص المادة (104) بقرارات منع الظهور وأن هذه الحجج لا يوجد لها سند قانوني يدعمها.
ولم تكن إدارة الجامعات موفقة في استخدامها الأسانيد القانونية التي بُني عليها القرار، حيث أن القرار الصادر يشمل أعضاء هيئة التدريس والجهات المعاونة والعاملين بالجامعات، في الوقت الذي تنظم فيه كل من المواد (101) و(104) من قانون تنظيم الجامعات واجبات أعضاء هيئة التدريس وحدهم دون غيرهم، أي أن القرار امتد إلى فئات وظيفية لا تشملها النصوص التي يستند إليها القرار، وهو ما يعني أن الحُجج المتعلقة بحظر الظهور الإعلامي أو الكتابة لا يوجد لها أساس صحيح، بل إن إدارة الجامعات قد بحثت عن النصوص، التي يمكن استخدامها بغض النظر عن اتصالها بموضوع القرار. وهو ما ينتهي بنا إلى غياب نص واضح وصريح يمنع أعضاء هيئة التدريس أو غيرهم من القيام بالأنشطة محل القرار.
لم تقف القرارات المُقيدة لحرية أعضاء هيئة التدريس وغيرهم من العاملين بالجامعات عند حد منع الظهور الإعلامي أو كتابة المقالات، بل إن أحد هذه القرارات قد تضمن منع تداول أي مستندات تتعلق بالجامعة في وسائل الإعلام دون الحصول على إذن كتابي. والسؤال هنا ما الذي يُضير إدارة الجامعة بظهور أي مستند يتعلق بالجامعة، وما علاقة منع تداول المستندات بأعمال الخبرة والاستشارات، التي اعتمد عليها صلب القرار.
إلا إذا كان المنع هنا يتعلق بمنع أعضاء هيئة التدريس وغيرهم من الإشارة إلى وقائع قد تُشكل مخالفات تخشى إدارة الجامعة من كشفها، وهو ما قد يُقيد حق العاملين بالجامعات في الشكوى والإبلاغ من خلال استخدام المستندات لإثبات وقائع معينة. كما جاء منع استخدام المستندات بشكل غير محدد، فهل هذا يعني أيضًا عدم جواز استخدام هذه المستندات في الإبلاغ عن وقائع فساد أو مخالفات.
تأتي أهمية هذا اﻷسئلة في ظل غياب قوانين تنظم حق المواطنين في تداول المعلومات أو قوانين تحمي المبلغين والشهود وخاصة من الموظفين العموميين، هذا بالإضافة إلى وجود بيئة تشريعية قد تُلحق الضرر بالموظف، إذا أفصح عن مخالفات بمناسبة عمله.
ولا يمكن اجتزاء هذه القرارات والنظر إلى كل جزء منها بشكل مُنفرد، بل يجب أن ننظر إلى القرارات على أنها وحدة واحدة، تصدر بناء على واقعة، تدفع إلى اتخاذ القرار، إلى جانب أسانيد قانونية تُعطي الحق في اتخاذه، وكذلك نتائج يهدف القرار إلى تحقيقها.
وتفتقر هذه القرارات إلى ما يسمى بوحدة عضوية القرار وتماسكه، إذ تستخدم القرارات نصوصًا قانونية تنطبق على بعض المخاطبين بالقرار دون غيرهم، كما يختلف موضوع القرار عن الأسانيد القانونية التي تم استخدامها لإصداره (غياب الظهير القانوني لقرارت المنع من الكتابة والظهور الإعلامي). ويعني ذلك أن تلك الحُجج، التي ساقتها إدارات الجامعات هي حجج واهية لا يمكن الارتكان إليها أو الاطمئنان إلى صحتها أو إلى صحة بواعث إصدارها. كما لا يمكن تفسير هذه الحجج خارج إطار تقييد حق المواطنين في التعبير الحر عن آرائهم وحقهم في الشكوى من مرؤوسيهم.
خاتمة
تهدف مؤسسة حرية الفكر والتعبير من خلال هذه الدراسة إلى تناول جانب مسكوت عنه في مؤسسات الدولة يتعلق بحق الموظف العام في حرية التعبير، خاصة وأن هناك قصورًا في متابعة حالة حرية التعبير في مؤسسات الدولة. وتأمل مؤسسة حرية الفكر والتعبير أن يستفيد جمهور الباحثين والمحامين من هذه الدراسة القانونية، للتفاعل مع القضايا والتطورات الكثيرة على مستوى حق العاملين في الدولة في التعبير عن الرأي.
قدمت الدراسة تحليلًا قانونيًّا للبيئة التشريعية المنظمة لشئون العاملين بالدولة، واستعرضت أحكام القضاء ذات الصلة، ثم انتقلت إلى عدة حالات من مؤسسات مختلفة، تبرز سعي جهة الإدارة إلى تقييد الحق في حرية التعبير. ويتوقع أن تساعد تلك الحالات المجموعات والجهات المعنية مستقبلًا في رصد ومتابعة حالة حرية التعبير في الجهاز الإداري للدولة، وتقديم المساعدة إلى ضحايا هذه الانتهاكات.
[1] إدارة الفتوى والتشريع بمجلس الدولة فتوى رقم 351 لسنة 4 بتاريخ 4/12/1949 رقم الملف 1/2/66 ص39. [2] القضاء الإداري ـ قضاء التأديب صفحة 190 وما بعده، مؤلف للدكتور سليمان الطماوي صادر عن دار الفكر العربي. [3] يراجع في هذا المعنى حكم المحكمة الإدارية العليا - الطعن رقم 875 - لسنة 7 قضائية - تاريخ الجلسة 4-1-1964 [4] حكم للمحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 1245 لسنة 37 ق.ع - جلسة 24 -1 – 1995. [5] حكم للمحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 3394 لسنة 33 ق جلسة 11 - 1 - 1992 . [6] حكم للمحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 1342 لسنة 31 ق جلسة 9 - 6 - 1990 . [7] قضاء التأديب- طبعة 2006/2007 - لمؤلفيه الدكتور محمد عبد العال السناري و حمدي أبو النور السيد ص 434 وما بعدها . [8] حكم للمحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 1420 لسنة 31 ق.ع جلسة 1-3-1986. [9] حكم للمحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 3394 لسنة 33 ق جلسة 11 - 1 -1992 . [10] تنص المادة رقم 72 من القانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية على: "لا يجوز للقاضي القيام بأي عمل تجاري كما لا يجوز له القيام بأي عمل لا يتفق واستقلال القضاء وكرامته. ويجوز لمجلس القضاء الأعلى أن يقرر منع القاضي من مباشرة أي عمل يرى أن القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها". [11] البوابة الإلكترونية لصحيفة المصري اليوم بتاريخ 25 مارس 2014 - عمومية القضاة تمنع ظهور القضاة في الإعلامhttps://goo.gl/N6hu8s [12] محكمة النقض - مدني - الطعن رقم 5 - لسنة 47 قضائية - تاريخ الجلسة 14-3-1979 . [13] البوابة الإلكترونية لصحيفة الوفد بتاريخ 28 يوليو 2012 -البسطويسي: يجب منع القضاة من الظهور فى الإعلام https://goo.gl/rcSLDv [14] فتوى صادرة عن إدارة الفتوى والتشريع رقم 351 لسنة 4 بتاريخ 4 ديسمبر 1949. [15] المعقود في ميلانو ديسمبر 1985 واعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة40/32 المؤرخ في29 نوفمبر 1985 ورقم 40/146 المؤرخ في13 ديسمبر 1985 [16] البوابة الإلكترونية لصحيفة الوطن بتاريخ 22 إبريل 2014 - "الوطن" تنشر نص مذكرة "نادي القضاة" بشأن مخالفات "الإخوان" للمبادئ الأساسية لاستقلال القضاء https://goo.gl/TeGd2w [17] البوابة الإلكترونية لصحيفة الشروق بتاريخ 16 مايو 2017- حفظ التحقيقات مع 9 قضاة لانتقادهم تخفيض حصص "الكارت الذهبي" https://goo.gl/wjCXu2 [18] البوابة الإلكترونية لصحيفة الشروق بتاريخ 30 أكتوبر 2015 - إحالة رئيس نادى قضاة مجلس الدولة إلى التفتيش بسبب الانتخابات https://goo.gl/a5Qaew [19] البوابة الإلكترونية لصحيفة اليوم السابع بتاريخ 16 مايو 2016 - "الأعلى للقضاء" يحيل 50 قاضيًا لـ"التفتيش" ويرفع الحصانة عن 6 لإبداء رأيهم في "تيران وصنافير".. القرار جاء بتهمة اشتغال القضاة بالسياسة.. وارتكاب جريمة تنال من ثقة المواطنين فى القضاة والتقليل من هيبتهم https://goo.gl/1Meq3e [20] المادة رقم 17 من القانون 117 - لسنة 1958 بشأن إعادة تنظيم النيابة الإدارية والمحاكمات التأديبية في الإقليم المصري. الجريدة الرسمية العدد 24 مكرر - بتاريخ 24-8-1958. [21] نشرة الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعة العدد (3) بتاريخ 10 يناير 2016 - الصادرة عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير https://goo.gl/WM2Fwt [22] البوابة الإلكترونية لصحيفة الشروق بتاريخ 17 يناير 2016- تصاعد معركة الأساتذة ورؤساء الجامعات بسبب حظر الظهور الإعلامي https://goo.gl/hRLxnp [23] البوابة الإلكترونية لصحيفة الوطن بتاريخ 14 يناير 2016- انفراد.. حظر ظهور أساتذة الجامعات فى الإعلام "دون إذن" https://goo.gl/h4kaHu [24] المادة 101 من القانون رقم 49 لسنة 1972 بشأن تنظيم الجامعات "لا يجوز لأعضاء هيئة التدريس القيام بعمل من أعمال الخبرة أو إعطاء استشارة في موضوع معين إلا بترخيص من رئيس الجامعة بناء على اقتراح عميد الكلية". [25] مادة 104 لا يجوز لأعضاء هيئة التدريس أن يشتغلوا بالتجارة أو أن يشتركوا في إدارة عمل تجاري أو مالي أو صناعي أو أن يجمعوا بين وظيفتهم وأي عمل لا يتفق وكرامة هذه الوظيفة ولرئيس الجامعة أن يقرر منع عضو هيئة التدريس من مباشرة أي عمل يرى أن القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها. [26] نصوص المواد من رقم 4 إلى رقم 9 من الفصل الأول من قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999.