إعداد: محمد عبد السلام
مسئول ملف الحرية الأكاديمية
هل تلاحق اﻷجهزة الأمنية الباحثين الأجانب في مصر؟
منذ اللحظة الأولى للعثور على جثة الباحث الايطالي جوليو ريجيني، ثارت الشكوك حول تورط أجهزة اﻷمن المصرية في اختطافه وتعذيبه وقتله. وجاءت هذه الشكوك على خلفية انتقادات واسعة لتعامل اﻷجهزة اﻷمنية مع المواطنين، وانتهاكات حقوق الإنسان التي سجلتها المنظمات الحقوقية وتناولتها وسائل الإعلام وشهدتها ساحات القضاء المصري.
وأيا كانت الحقيقة حول قضية مقتل الباحث الايطالي جوليو ريجيني، تبقى هناك حالات أخرى، تلقي الضوء على ملف الطلاب والباحثين الأجانب، وتطرح الكثير من الأسئلة حول علاقة أجهزة الأمن به.. كيف تعاملت الأجهزة الأمنية قبل ذلك مع عمل الباحثين الأجانب في مصر؟ وما هي طبيعة التضييقات التي تعرضوا لها؟ هل تضع الأجهزة الأمنية الباحثين الأجانب في دوائر الاشتباه؟ ولماذا لا تفصح جهات بحثية وأكاديمية عن معلومات متعلقة بملاحقة الباحثين الأجانب؟ وهل من الممكن أن تفضل دوائر دبلوماسية غربية التعتيم على حالات أخرى لباحثين أجانب تعرضوا لانتهاكات؟
ثمة قناعة لدى مؤسسة حرية الفكر والتعبير بضرورة تناول أوضاع الباحثين اﻷجانب في مصر، إذ أن أي انتهاك مسكوت عنه، يظل قابلا للتكرار بشكل أكبر، كما أن هناك حاجة ماسة إلى ضرورة التزام الحكومة المصرية بضمان الحرية الأكاديمية للباحثين الأجانب. والمؤسسة بدورها لا تزعم أن المعلومات التي حصلت عليها والحالات التي وثقتها تعبر بالضرورة عن كل ما يحدث مع الباحثين الأجانب في مصر -خاصة وأن بعض المصادر رفضت الحديث حول الموضوع -إلا أن تلك المعلومات تستحق النقاش الفعال من كافة المهتمين بأوضاع البحث العلمي في مصر.
إننا بإصدار هذا التقرير، نتوجه بنداء إلى كافة الهيئات البحثية والأكاديمية، وكل الباحثين والطلاب الأجانب، لإعلان شهاداتهم والمعلومات التي بحوزتهم عن شكل وطبيعة التضييقات الأمنية التي تعرضوا لها، مما قد يساهم في تعزيز الحماية للباحثين الأجانب أثناء عملهم في مصر.
قبل الوصول
ينقسم الباحثون الأجانب القادمون إلى مصر إلى فئتين: باحثون مسجلون ببرامج في جامعات مصرية أو ببرامج مشتركة بين جامعات أجنبية وجامعات مصرية، وباحثون مسجلون في جامعات أجنبية يقومون بإجراء أبحاث في مصر لفترة قصيرة دونما تنسيق مع مؤسسات أكاديمية في مصر. وخارج الإطار الأكاديمي، يأتي باحثون يعملون في مراكز أبحاث ومنظمات بحثية وحقوقية للعمل على عقد لقاءات أو إجراء مقابلات وغير ذلك من الأنشطة البحثية.
يقول أحد العاملين بمؤسسة بحثية أوروبية تعمل بمصر – فضل عدم الكشف عن هويته – أن “هناك تضييق يواجه الباحثين الأجانب دوما خلال سعيهم لإجراء أبحاث في مصر، بدءا من الحصول على تأشيرات ﻷغراض البحث العلمى، إذ تمتنع السفارات المصرية في أوروبا غالبا عن منح تأشيرات للباحثين بغرض إجراء أبحاثهم في مصر، ما يضطر معه الباحثون إلى الحصول على تأشيرة سياحية ليتمكنوا من دخول مصر وإجراء هذه اﻷبحاث. ولا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد الباحثين الذين يأتون لمصر بشكل فردي لاستكمال أبحاثهم الدراسية، ولكنهم على أي حال أكثر من الباحثين المسجلين في برامج مشتركة أو اتفاقيات مع الجامعات المصرية. وفي حالة إقامة الفعاليات العلمية التي يدعى إليها باحثون عرب، كثيرا ما ترفض السلطات المصرية منح تأشيرات الدخول لهؤلاء الباحثين، وفي بعض الأحيان ترفض السلطات المصرية منح التأشيرة لطلاب عرب قادمين للدراسة في برامج مشتركة بين الجامعات المصرية والأوروبية”.
ومن خلال موقع السفارة المصرية بواشنطن يتضح عدم وجود تأشيرة بغرض البحث العلمي، وتقتصر المعلومات المتاحة على الموقع على التأشيرة السياحية وتأشيرة الأعمال،[1] ويُظهر طلب الحصول على التأشيرة وجود خانة للغرض من الزيارة،[2] ربما يذكر فيها بعض الباحثين قدومهم بغرض البحث العلمي، ما يجعل السفارات المصرية ترفض منحهم تأشيرة الدخول. وتتضمن مواقع السفارات المصرية في أوروبا نفس المعلومات عن تأشيرات الدخول.
يقول أستاذ بإحدى الجامعات الأوروبية – فضل عدم الكشف عن هويته – “عادة ما يحصل الباحثون على التأشيرة السياحية قبل زيارة مصر وإذا كان لديهم تسجيل في جامعات بمصر فإنهم يجددون إقامتهم داخل مصر بغرض الدراسة، أما باحثي الماجيستير والدكتوراة غير المسجلين في جامعات بمصر، يقضون الفترة المخصصة لتأشيرة السياحة فقط”. ويضيف “اعتقد أن الحصول على تأشيرة للسياحة من المطارات المصرية يعد أكثر سهولة، وهو ما يجعل الطلاب يقبلون على هذا النوع من التأشيرات”.
عوائق في طريق البحث
بعد نجاح الباحثين في الوصول إلى مصر، وبداية العمل على أبحاثهم، غالبا ما تواجههم عوائق وتضييقات، تلعب الأجهزة اﻷمنية دورا كبيرا فيها.
يقول أحد العاملين في مؤسسة بحثية أوروبية في مصر: “على مستوى التعاون مع الجامعات المصرية الحكومية والخاصة، واتفاقيات التبادل العلمي مع الحكومة المصرية، هناك عدد من البرامج المشتركة التي يجرى تنفيذها في مصر ويُسمح فيها للباحثين بالعمل بتنسيق مع السلطات المصرية. وهنا تظهر العراقيل والتضييقات الأمنية، فعلى سبيل المثال هناك حالة لباحث ماجيستير تم توقيفه عدة مرات من قبل الأمن المصري أثناء إجراءه بحثا ميدانيا، رغم اشتراكه في برنامج دراسي بين جامعة مصرية حكومية وجامعة أوروبية، ووجود أوراق رسمية تثبت عمله البحثي، وفي كل مرة كان يتم التحقيق مع الطالب وتوجه إليه أسئلة عن سبب تواجده وطبيعة النشاط الذي يقوم به، قبل أن يتم إطلاق سراحه. وهكذا واجه الطالب ضغوطا أمنية شديدة، ولم يتمكن من الاستمرار في دراسته بمصر، وقرر الرحيل إلى بلده مرة أخرى”. واستطرد قائلا “هناك صعوبات كبيرة تواجه الباحثين في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والتنمية والتخطيط العمراني”.
وفيما يتعلق بحصول الباحثين الأجانب على المعلومات أثناء إجراء أبحاثهم، يقول الدكتور خالد فهمي، أستاذ التاريخ المعروف،[3] “هناك قيود مفروضة على إجراء البحث الميداني، إذ يتطلب ذلك تصريح من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وتقديم نسخة من استمارة الاستبيان، وانتظار موافقة الجهاز على إجراء البحث. وفي بعض الأحيان يصاحب أحد موظفي الجهاز الباحث خلال إجراءه البحث، وتوزيع الاستبيانات. وفي أحيان كثيرة يرفض الجهاز منح تصريح للباحث، وفي أحيان أخرى يقوم بتعديل بعض أسئلة الاستبيان. هذه القيود يتعرض لها الباحثون المصريون والأجانب على حد سواء”. ويضيف فهمي “ينطبق اﻷمر ذاته على دار الوثائق، فهناك تصريح أمني يجب على الباحث الحصول عليه قبل أن يستطيع العمل داخل دار الوثائق، ويقوم الباحث بتقديم استمارة وخطاب توصية من الجامعة التي يعمل بها وصورة من جواز السفر وصورة شخصية، ومؤخرا بات على الباحث كذلك تقديم ملخص للمشروع البحثي الذي يعمل عليه. وهناك ازدياد فى عدد التصاريح المرفوضة من خلال متابعتي للطلاب الأجانب. إن الباحثين الأجانب الذين يعملون بدراسة التاريخ ويحتاجون للإطلاع على الوثائق من خلال دار الوثائق، يبذلون جهدا كبيرا في التحضير لزيارتهم لمصر والحصول على منحة دراسية، وتواجههم عوائق تتمثل في استغراق الحصول على تصريح أمني لدخول دار الوثائق فترة تصل إلى 3 شهور في المتوسط، ويعد رفض التصريح من قبل أجهزة الأمن بمثابة إهدار للمشروع البحثي الذي جاء من أجله الباحث إلى مصر”.
تسيطر الأجهزة اﻷمنية على اتفاقيات التعاون بين الجامعات الحكومية والجامعات الأجنبية، ويشير أحد العاملين بمؤسسة بحثية أوروبية أن ” جميع اتفاقيات الشراكة بين الجامعات المصرية والجامعات الأجنبية يجب أن تمر قبل توقيعها على الجهات الأمنية، التي تملك القرار الأخير في إتمام هذه الاتفاقيات أو رفضها. ويضيف “نظرا لتردي اﻷوضاع الأمنية، على سبيل المثال، قررت جامعة أجنبية الامتناع عن المشاركة في حفل تخرج دفعة من الطلاب بأحد البرامج المشتركة مع جامعة مصرية، واتخذت الجامعة هذا القرار خوفا على حدوث مكروه للطلاب أو المسئولين بالجامعة حال قدومهم إلى مصر. وفي بعض الحالات نقلت جامعات أجنبية طلابها إلى إحدى الدول العربية، على أن يتم التدريس لهم هناك بواسطة أساتذة من مصر، وأن تمنح الشهادة وفقا لاتفاق الشراكة الموقع بين الجامعة الأجنبية والجامعة المصرية، بسبب ازدياد المخاوف الأمنية”.
أجهزة اﻷمن وتتبع الباحثين اﻷجانب
لعل من الضروري تناول اﻷسباب التي تدفع الأجهزة اﻷمنية في مصر إلى ملاحقة الباحثين اﻷجانب، ووضعهم في دائرة الاشتباه. وفي هذا الإطار يوضح الدكتور خالد فهمي أنه “لا يوجد انتباه لظاهرة وجود الباحثين اﻷجانب في مصر، في مجال دراسات الشرق اﻷوسط. وهناك سعي منذ ما يقرب من 40 عاما، لمواجهة النظرة الاستشراقية في العمل الأكاديمي، حيث لا يمكن دراسة المجتمعات العربية إلا من خلال زيارة المنطقة والاحتكاك بشعوبها ومعرفة ما يحدث على أرض الواقع. وقد بذل إدوارد سعيد جهدا كبيرا في الدفاع عن هذه الفكرة بين اﻷوساط الأكاديمية، وينطبق ذلك على دراسة التاريخ والاقتصاد واﻷدب وغيرها من العلوم. وهناك حاجة دائمة لقدوم الباحثين اﻷجانب إلى مجتمعاتنا، وقد انعكس ذلك على العمل الأكاديمي المقدم عن الشرق اﻷوسط خلال العقود الماضية. ومصر ﻷسباب متعددة كانت محط اهتمام هؤلاء الباحثين اﻷجانب”.
ويشير فهمي إلى الصورة التي كونتها أجهزة اﻷمن عن الباحثين اﻷجانب من واقع خبرته في العمل البحثي من خلال دار الوثائق، ويقول ” إن الجهات الأمنية تنظر للباحثين الأجانب بشك وريبة، فمن خلال حوارات متفرقة مع مسئول الأمن بدار الوثائق، يتم النظر للباحثين الأجانب باعتبارهم جواسيس، وتكثر التساؤلات: ما الذي يدفع أجنبي لتعلم العربية، وتقديم بحث لجامعة أجنبية عن مصر، وما هي القيمة التي تعود من هذه الأبحاث على مصر، وهل يتم هذا العمل دون أغراض غير معلن عنها، فاﻷمن المصري لا يفهم العمل الأكاديمي ولا يقدر قيمته، وبالتالي تصبح كل الأسئلة المحيطة بعمل الباحثين ضمن نطاق عمل الأجهزة الأمنية. بل أكثر من ذلك، فإن الجهات الأمنية تعتبر إنتاج المعرفة بحد ذاته خطر على استقرار البلاد، ولا أنسى أنه أثناء تبادل الحديث مع مسئول أمن دار الوثائق، شرحت له أهمية أن يدرس الباحثون الأجانب المنطقة من خلال بلدانها، فقال لي: دعهم يذهبون لدراسة بلد آخر غير مصر”.
تتزايد المؤشرات على وجود خطاب معاد للأجانب تظهره المحاولات المستمرة من قبل القادة الأمنيين لتصوير كل المشكلات التي تتعرض لها مصر على اعتبار أنها صنيعة أولئك الباحثين والصحفيين القادمين من الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وهذا الخوف من جانب الأجهزة الأمنية أدى إلى زيادة الرقابة على سفر الباحثين والأكاديميين المصريين للخارج، ومنع الباحثين والأكاديميين الأجانب من دخول مصر، وفقا لما رصدته مؤسسة حرية الفكر والتعبير من خلال تقارير سابقة. [4]
“فاني اوييه”: الفرنسية التي لاحقتها أجهزة اﻷمن قبل 7 أشهر من مقتل جوليو ريجيني
لم يكن من السهل الوصول لكثير من الحالات التي تعرض فيها باحثون أجانب للملاحقة. ويبدو أن هناك رغبة لدى عدد من الجهات البحثية ودوائر دبلوماسية غربية في عدم اﻹفصاح عن معلومات تفيد في معرفة حجم التضييقات والملاحقات الأمنية للباحثين الأجانب. لعل ذلك يمثل محاولة لحصر النقاش حول قضية الباحث الايطالي جوليو ريجيني فقط، دون التطرق إلى حالات أخرى، شكلت فيها ممارسات أجهزة اﻷمن المصرية تهديدا لعمل وحياة الباحثين الأوروبيين في مصر. ومن ضمن دائرة ضيقة من الحالات التي توصلت لها المؤسسة، قررت الباحثة الفرنسية فاني اوييه أن تسرد شهاتها كاملة، عما تعرضت له في مصر من قبل أجهزة الأمن المصرية. كان ذلك قبل 7 أشهر من مقتل جوليو ريجيني.
كانت فاني اوييه طالبة ماجيستير في كلية دراسات العلوم الاجتماعية المتقدمة (EHESS)، وهي كلية مرموقة في فرنسا، وفي إطار عملها على الحصول على الدرجة الأكاديمية، اختارت اوييه كتابة بحث لتحليل أنماط النشاط السياسي للشباب في مصر بعد أحداث 30 يونيو 2013.[5] قضت فاني اوييه فترة في مصر عملت خلالها بالصحافة من خلال موقعي ديلي نيوز ايجيبت وحقوق، وامتدت فترة وجودها في مصر من سبتمبر 2012 وحتى يوليو 2013. لذلك اختارت مصر موضوعا لأحد أبحاثها للحصول على درجة الماجيستير، وأتت إلى القاهرة مرة أخرى في 14 مايو 2015.
في شهادتها لمؤسسة حرية الفكر والتعبير تروي فاني اوييه ملابسات القبض عليها من قبل الأجهزة الأمنية في مدينة دمياط وترحيلها من مصر إلى فرنسا. تقول فاني اوييه “في البدء جئت إلى مصر لإعداد بحث قصير ضمن إطار دراستي، كنت اعتقد أن الأمر بسيط ولن يترتب عليه متاعب، لم أكن أنتوي الكتابة الصحفية عما يحدث في مصر آنذاك”.
تضيف اوييه: “جئت إلى مصر بتأشيرة سياحية، لم أكن أود لفت الانتباه إلى الموضوع الذي سأعمل عليه تجنبا لحدوث متاعب من قبل السلطات المصرية، وكنت اعتقد أن التعامل مع الباحثين سيكون مختلفا عما يحدث مع الصحفيين. الصحفيون الأجانب يتعرضون لتضييق في مصر، ولكن لماذا قد تهتم السلطات المصرية بالعمل البحثي الذي لا يتم نشره أو تداول أخبار بشأنه، حينها كنت أعلم أن كثير من الباحثين يأتون إلى مصر بتأشيرة سياحية ويعملون على أبحاثهم في هدوء. قبل وصولي إلى مصر تحدثت إلى بعض الباحثين الفرنسيين الموجودين في مصر، ممن يعملون على أبحاث سياسية واجتماعية، وأخبروني جميعا بضرورة توخي الحذر نظرا للأوضاع السياسية والأمنية في مصر. لقد تواصلت مع صحفيين كذلك، وحاولت أن أفهم الوضع السياسي في مصر قبل السفر وقبل البدء في عملي البحثي. وكذلك سعيت للحصول على تواصل مع بعض الشباب الناشطين من أجل إجراء المقابلات معهم. في البدء التقيت بشباب من حزب الدستور للتعرف على طبيعة نشاطهم السياسي بعد أحداث يونيو 2013. وبعد ذلك بدأت في دراسة حركة 6 أبريل ونشاطها، وتطور الأمر إلى إجراء بعض المقابلات، فذهبت إلى الاسكندرية في يونيو 2015، ثم ذهبت في أول يوليو من نفس العام إلى دمياط لمقابلة بعض نشطاء حركة 6 أبريل هناك”.
تقول اوييه عن هذه المقابلات: “لقد كان الأمر عفويا، أردت أن أتعرف إلى نشاط الشباب خارج القاهرة، وذهبت إلى دمياط لأنها مدينة صغيرة في الدلتا، وبالطبع سأتعرف إلى الفروق بين العمل السياسي في مدينة كبيرة كالقاهرة، والمدن الأخرى الصغيرة. لقد توخيت الحذر واخترت أن أتواصل مع دوائر يعرفها أصدقاء لي”.
وعن ملابسات القبض عليها تقول اوييه: “في دمياط، التقيت لمرة واحدة مع نشطاء حركة 6 أبريل في المدينة، لقد قابلت 5 من أعضاء الحركة في أحد المقاهي وكانت أغلب أسئلتي لهم عن ما يجدونه من فروق بين العمل السياسي في دمياط عنه في القاهرة، فقط مجموعة من الأسئلة البسيطة تناسب بحثا أكاديميا قصيرا. كنا في رمضان عندما أنهيت السحور وعدت مع صديق ناشط بالحركة إلى الفندق الذي نقيم فيه، كانت الساعة حوالي الثانية والنصف صباح يوم 2 يوليو 2015، دخلت إلى غرفتي وبدأت في النوم، ولم تمر سوى نصف ساعة، حتى وجدت من يطرق باب غرفتي. عندما فتحت الباب، كان هناك 10 من رجال الأمن، لم يقولوا أي شىء على الإطلاق ودخلوا إلى الغرفة، تفحصوا كل شىء بالغرفة، وكان معهم مترجما أخبرني أن أقوم بجمع متعلقاتي لأخذها معي. اعتقدت حينها أنهم تتبعوني من قبل لأنهم سألوني إن قد ذهبت إلى الاسكندرية، وهو ما حدث قبل أسبوعين من ذلك اليوم. لم يتعرضوا لي بسوء ولم يضربوني، فقط أخبروني أن أذهب معهم إلى القسم، وهناك قاموا بفحص أوراقي والحاسب الشخصي. كان المترجم يشرح لهم الملاحظات المكتوبة في أوراقي بالعربية، لم أفهم ما يدور بينهم. تفحصوا الحاسب الشخصي طويلا ولم أرى ما يفعلون تحديدا، اعتقد أنهم قاموا بنسخ بعض الملفات”.
وعن التحقيق معها في القسم، تقول فاني اوييه “بدأوا يسألونني: هل أنت صحفية ؟ ورأوا بعض العمل الصحفي الذي قمت به في تونس على حاسبي الشخصي. وسألوني: هل تقومين بكتابة شيئ عن مصر في الصحافة ؟ لم أخبرهم بشىء على الإطلاق، ولم أشأ التحدث عن البحث الذي قمت به حتى لا أسبب متاعب لآخرين من نشطاء حركة 6 أبريل. قلت لهم أننى فقط سائحة، وعندها سألوني لماذا أتيت إذا إلى دمياط ؟ وأجبتهم أنه لم تسبق لي زيارة المدينة، وأتيت فقط لزيارة مكان جديد. لم يستغرق التحقيق أكثر من ساعة على ما اعتقد وأغلب الوقت كانوا مهتمين بفحص الحاسب الشخصي. نمت قليلا في القسم. وفي الصباح أتوا بسيارة لكي نغادر إلى القاهرة كان بصحبتي 7 من رجال الأمن والجيش. كنت أسألهم من حين لآخر: لماذا ألقيتم القبض علي، وكانوا يجيبون هذا فقط من أجل سلامتك الشخصية”.
وبعد وصولهم إلى القاهرة، تقول اوييه: “ذهبوا بي إلى مجمع التحرير، وقاموا بإلغاء تأشيرة دخولي لمصر، خشيت أن أتحدث معهم بالعربية، حتى لا يعتقدوا أني “جاسوسة”. في ذلك الوقت كان صديقي الذي كان متواجد في الفندق قد ابلغ السفارة الفرنسية واتصل ببعض الأصدقاء. السفارة بلغها خبر القبض علي ربما بعد حدوثه بساعة واحدة فقط. سمحوا لي بالتحدث في الهاتف إلى أحد العاملين بالسفارة الفرنسية، أخبرني أن السلطات المصرية تريدني أن أغادر مصر خلال 24 ساعة، وإن لم يكن معي المال الكافي لحجز تذكرة طيران فورا، سيبقون علي تحت الاحتجاز في القسم، وهذا أمر يجب تجنبه. كان معي أموال كافية وذهبنا لأحد شركات حجز الطيران في التحرير، وكان رجال الأمن الذين رافقوني من دمياط لا يزالوا معي. حجزت التذكرة ومن ثم ذهبنا إلى مطار القاهرة، كانوا ودودين معي، لقد بقينا سويا لساعات، وكنت أخشى أن يتعرضوا لي بأذى رغم ذلك. أعطوني هاتفي قبل الوصول للمطار، وتمكنت من الحديث إلى بعض الأصدقاء. هناك بقيت في منطقة الترحيل، وقضيت ليلتي هناك، قبل أن أغادر إلى فرنسا في التاسعة صباح يوم 3 يوليو 2015″.
وعن تقديم المساعدة لها من جانب السفارة الفرنسية، تقول فاني اوييه: “اعتقد أن السفارة الفرنسية لم ترغب في حدوث مشكلات مع السلطات المصرية حفاظا على العلاقات الدبلوماسية والمصالح بين البلدين، ولم تكن السفارة مهتمة بالحديث عن هذه الواقعة أو عن حقوق الإنسان في مصر. عندما عدت إلى فرنسا أخبرني بعض المسئولين الذين التقوا بي أن حالتي جيدة للغاية، لأني عدت بسلام إلى بلدي، لم أصاب بأذى أو أتعرض للضرب أو للسجن في مصر”.
أنهت فاني اوييه شهادتها قائلة “عندما قرأت عن حادثة جوليو ريجينى بعد 7 شهور من ترحيلي من مصر، شعرت أنني أكثر من محظوظة، جاء ببالي كذلك أن السفارة الفرنسية علمت سريعا أنه تم القبض علي بواسطة رجال أمن، لأن صديقي أخبرهم بذلك، وربما ذلك ما صنع الفارق في حالتي عن حالة جوليو. لربما لاقيت نفس المصير. عندما قرأت عن حادثة جوليو تأثرت للغاية، أنا أعرف جيدا هذه المشاعر. لقد مررت بها من قبل. علمت بعد عودتي من بعض الأصدقاء أن السلطات الفرنسية تعتقد أنه إذ ما قررت السفر إلى مصر مرة أخرى سيتم سجني هناك. لن أزور مصر إلى الأبد”.
تشير شهادة فاني اوييه إلى تنصل سفارة بلادها من الدفاع عن حقها في البحث العلمي، ويتفق ذلك مع معلومات حصلت عليها حرية الفكر والتعبير من أحد الباحثين – فضل عدم الكشف عن هويته – عن إبلاغ سفارة دولة أوروبية للباحثين أنها لا تتحمل عواقب عملهم البحثي طالما أنهم جاءوا بتأشيرة سياحية، وفي حال واجهوا مشكلات مع السلطات الأمنية في مصر، فهذا أمر يعود لهم، فقط ستعمل السفارة على نقل تحذيرات لهم حال وجود تهديدات أو وضع خطير في البلاد. وفي حالة باحث الماجيستير الذي ألقي القبض عليه عدة مرات وتم التحقيق معه عن نشاطه البحثي، لم تثر سفارة بلاده قضيته مع السلطات المصرية، واضطر فى النهاية للرحيل من مصر، رغم أنه مسجل في برنامج مشترك مع جامعة حكومية مصرية. ربما أدت هذه الحالة من التعتيم إلى تركز أغلب التحذيرات الأكاديمية بعد مقتل جوليو ريجيني على الحادثة التي تعرض لها ريجيني، دون التطرق لحالات أخرى لباحثين أجانب تعقبتهم أجهزة الأمن المصرية وقامت بالتضييق عليهم.
ماذا بعد؟
توضح الوقائع التي تضمنها هذا التقرير مدى الخوف الذي يشعر به الباحثون الأجانب في مصر، في ظل وجود مؤشرات على تصنيف الأجهزة الأمنية لعمل هؤلاء الباحثين على اعتباره يشكل تهديدا للأمن القومي، ما يؤدي وفقا لما رصدناه من حالات متفرقة إلى تعقب الباحثين الأجانب والتضييق عليهم.
يهدف هذا التقرير إلى إثارة النقاش حول أنماط الانتهاكات التي يتعرض لها الباحثون الأجانب، من خلال تقديم معلومات وحالات، تشكل صورة عامة عن وضع الباحثين الأجانب في مصر وعلاقة الأجهزة الأمنية بعملهم، والتي قد تساهم في تشجيع باحثين آخرين على الإدلاء بشهاداتهم، وتمنح وسائل الإعلام فرصة لاستجلاء بعض الوقائع التي تعرفها مؤسسات وهيئات بحثية أوروبية تعمل في مصر.
تؤمن مؤسسة حرية الفكر والتعبير أن أولى خطوات حماية الباحثين الأجانب في مصر تتمثل في إعلان الانتهاكات والتضييقات الأمنية التي تعرضوا لها، وكشف الحقيقة حول مقتل الباحث الايطالي جوليو ريجيني. وهناك مسئولية كبيرة تقع على الجهات الأكاديمية والبحثية سواء كانت مصرية أو أجنبية لكشف الحالات المسكوت عنها. ونأمل أن يساهم هذا التقرير في تخفيف الضغوط التي تمنع من الحديث حول حالة الباحثين الأجانب في مصر. فلا يمكن قبول انتهاك حقوق المواطنين وتعريض حياتهم للخطر أيا كانت جنسياتهم.
لذلك تدعو مؤسسة حرية الفكر والتعبير كافة المؤسسات والهيئات الأكاديمية والبحثية في مصر لإمدادها بمعلومات عن انتهاكات الحرية الأكاديمية التي حدثت لباحثين أجانب في مصر، لاستخدامها في العمل على صياغة توصيات للحكومة المصرية، والتعاون معها من أجل ضمان أمن وسلامة الباحثين الأجانب وحريتهم في العمل الأكاديمي.
______________________________________________________
[1] راجع جدول التأشيرات بموقع السفارة المصرية بواشنطن،
http://www.egyptembassy.net/consular-services/passports-travel/visa-requirements/
[2] راجع طلب الحصول على تأشيرة دخول لمصر،
http://www.egyptembassy.net/media/EGYPT.pdf
[3] في 17 مارس 2016 أجرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير مقابلة عبر سكايب مع الدكتور خالد فهمي، أستاذ التاريخ.
[4] راجع ورقة مؤسسة حرية الفكر والتعبير عن منع دخول الباحثين والأكاديميين اﻷجانب إلى مصر،
http://afteegypt.org/publications_org/2016/02/07/11719-afteegypt.html
[5] أجرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير مقابلة معها عبر سكايب، بتاريخ: 7 مارس 2016