مفهوم الخصوصية بين الفكر القانوني والفلسفة

تاريخ النشر : الثلاثاء, 26 سبتمبر, 2017
Facebook
Twitter

*هذه الورقة تقدم عرضا لقراءات نظرية فيما يتعلق بمفهوم الخصوصية، وتسعى مؤسسة حرية الفكر والتعبير من خلالها إلى إثراء النقاش بين المهتمين بهذا الموضوع.

 

إعداد: تامر موافي

 

مقدمة:

يرى كثير من المفكرين، في مجالات القانون والعلوم الاجتماعية وحقوق اﻹنسان، أن الحق في الخصوصية، هو أحد الحقوق اﻷكثر إشكالية. ففي ظل غياب أي توافق حول أساس نظري واضح لمفهوم الخصوصية؛ لا يكاد يوجد رابط، معتمد، بين مختلف القضايا والموضوعات، التي يتم إدراجها تحت هذا الحق. فدعاوى الخصوصية تستخدم للدفاع عن حقوق تبدو متباعدة تماما، مثل الحق في عدم التعرض لمراقبة المكالمات الهاتفية، والحق في الإجهاض، والحق في معرفة ما تحتفظ به شركة اتصالات من بيانات شخصية لعملائها. ويفاقم غياب أساس نظري واضح للحق في الخصوصية من واقع تعرضه لمخاطر متعددة في عهد التوسع الهائل لاستخدام شبكة اﻹنترنت وتطور تطبيقاتها، وفي ظل تصاعد الحرب على اﻹرهاب حول العالم واستخدام الحكومات فزاعة المخاطر اﻷمنية لتجريد مواطنيها من حقوق بدت مستقرة لعقود طويلة مضت. ويعاني الحق في الخصوصية بصفة خاصة من تغول الحكومات عليه، بحجة حفظ اﻷمن في الوقت الذي لا يتوافر فيه أساس أخلاقي متوافق عليه لحق المواطنين في حماية خصوصيتهم في مواجهة هذه الحجة.

من جانب آخر يعتبر الحق في الخصوصية أحد أكثر الحقوق تأثرا بالاختلافات الاجتماعية والثقافية عبر الحدود المكانية والزمانية، فأكثر من أي حق آخر يعتمد الحق في الخصوصية على تصورات الناس عن حدود خصوصيتهم ومدى تقديرهم لقيمتها في حياتهم، وتختلف هذه التصورات، بقدر كبير، من مكان إلى مكان. كما تختلف بمرور الزمن، ونتيجة لتغير أنماط الحياة اليومية. وفي ظل تسارع التغيرات الاجتماعية في العقود اﻷخيرة. وبدرجة أكبر، تحديدا، في السنوات اﻷخيرة؛ نتيجة دمج أعداد كبيرة من البشر لوسائل التواصل الرقمية في حياتهم اليومية، تشهد تصورات الناس عن الخصوصية اضطرابا كبيرا. وذلك لأن هذه التصورات غير قادرة على التعامل مع مواقف جديدة يفرضها الواقع اليومي. خاصة أن هذه المواقف لا تخضع للأنماط التقليدية، التي ما زالت أغلب التصورات السائدة للخصوصية تعتمد عليها. ولا تنشأ هذه المواقف، فقط، نتيجة لتطور الحياة اليومية للفرد عبر فترة زمنية محدودة. ولكن كنتيجة، أيضا، لاتساع مجال تداخل حياته اليومية مع حياة آخرين عبر الكرة اﻷرضية. فقد أصبح متاحا له الاحتكاك بهؤلاء بصفة يومية. وهذا يضيف، بالضرورة، عامل الالتقاء بتصورات ثقافية مختلفة، وربما متناقضة للخصوصية، تفرض نفسها على كل إنسان بصفة مستمرة.

في ظل هذه العوامل، تزداد الحاجة إلى بناء مفهوم نظري متماسك للحق في الخصوصية. فمن جانب، ثمة حاجة إلى مزيد من الربط بين القضايا المختلفة التي تندرج تحت الحق في الخصوصية. ففي كثير من اﻷحيان، يتم التعامل مع قضايا للخصوصية، على إنها مستقلة، أو على أنها تندرج تحت مبدأ مختلف. ويستخدم ذلك لتمرير قضايا تبدو مقبولة في سياق بعينه، في مقابل رفض قضايا أخرى غير مقبولة في هذا السياق. فعلى سبيل المثال بدون إبراز عامل مشترك يدرج خيار اﻹجهاض تحت الحق في الخصوصية بنفس القدر مقارنة بالحماية من التنصت على المكالمات الهاتفية، فإنه يبقى في المجتمعات التي ما زالت تقاوم بشدة حق المرأة في اختيار الإجهاض بلا أساس أخلاقي كافٍ للدفاع عنه. ومن جانب آخر ثمة حاجة إلى ذلك المفهوم النظري المتماسك للحق في الخصوصية أيضا كقاعدة ارتكاز لجهود مواجهة تغول الدول على حقوق مواطنيها بحجة حفظ الأمن. وأخيرا فإن مفهوما تجريديا للحق في الخصوصية هو ضروري كمعيار للحكم على المستجدات اليومية من حيث كونها تشكل خطرا على خصوصية البعض أم لا.

تواجه مهمة بناء تصور نظري متماسك للحق في الخصوصية في إطار حقوقي إشكالية إضافية في مواجهة المصدرين الرئيسيين، الذين تستقي منهما الحركة الحقوقية مفاهيمها النظرية وهما الممارسة العملية والفكر النظري للقانون من جانب، والتأصيل النظري الفلسفي من جانب آخر. وبينما تقوم بين الممارسة القانونية وبين التأصيل النظري للحقوق والحريات علاقة جدلية مستمرة فإن الحركة الحقوقية ومنذ انضوائها تحت قيادة الكيانات الحقوقية المنبثقة عن هيئة اﻷمم المتحدة بصفة خاصة تكاد تكون في تصوراتها وممارساتها أسيرة للمنطق العملي القانوني بشكل كامل، وهذا باﻷساس نتيجة لكون هيئة اﻷمم المتحدة هي في اﻷصل منتدى للدول، وما تنتجه أجهزتها المختلفة بما في ذلك الحقوقية منها هو عهود ومواثيق واتفاقيات دولية يترتب عليها التزامات للدول الموقعة والمصدقة عليها. وحيث أن اللغة التي تعبر من خلالها الدول عن وضع التزاماتها موضع التنفيذ هي لغة القانون، وحيث أن دور الكيانات غير الحكومية المنخرطة في العمل الحقوقي وفق معايير اﻷمم المتحدة هو مراقبة وفاء الدول بالتزاماتها من خلال تشريعاتها والتزام مؤسساتها بهذه التشريعات، فإن العمل الحقوقي لهذه الكيانات يظل غالبا حبيس الممارسات القانونية ولغتها وإطارها النظري.

الملمح الرئيسي للفكر القانوني هو أنه لصيق بالواقع العملي، وأنه مرتبط بشكل عضوي بآليات وأدوات الممارسة القانونية في الحياة اليومية. وبالرغم من أن هذه من بين مزايا هذا الفكر، حيث تجعله أكثر عملية وواقعية في أحيان كثيرة، إلا أنه في حالة الاحتياج إلى إلى مفاهيم أكثر تجريدية بحيث تمدنا بمعايير مرنة بقدر يسمح بتطويعها للتطبيق على مستجدات واقعية جديدة، فإن الفكر القانوني ليس مناسبا لذلك. من جانب آخر عندما نواجه بيئة يصعب فيها وربما يستحيل استخدام الآليات التقليدية للممارسة القانونية، وشبكة الإنترنت هي المثال اﻷهم لهذه البيئة، تفقد المفاهيم النظرية للفكر القانوني جدواها. وفي المقابل ليس صحيحا أن الحركة الحقوقية مضطرة للتقيد بآليات الممارسة القانونية كملجأ وحيد لتوفير الحماية للحقوق والحريات، فمجال حركة وعمل هذه الحركة هو المجتمع المدني الذي يتيح إمكانية استخدام أدوات عدة بخلاف أداة القانون. وتتميز هذه اﻷدوات بأنها تعمل تحديدا على دفع اﻷفراد إلى تعديل تصوراتهم ومفاهيمهم وهو ما يجعلها فعالة بصفة خاصة في خدمة الدفاع عن مفهوم الخصوصية الذي يعتمد بشكل كبير على تصورات الأفراد عنه. من ناحية أخرى على عكس آليات الممارسة القانونية فإن أدوات الدعاية والفعل الجماعي تجد في بيئة كاﻹنترنت مجالا أكثر ملاءمة لها.

تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة في عدد من اﻷدبيات التي تناولت مفهوم الخصوصية والحق فيها من جانبي الفكر القانوني والفكر الفلسفي. ويراد لهذه القراءة أن تكون تمهيدية. وهذا يعني، أنها تكتفي باﻹشارة إلى المعالم الرئيسية لتصورات مختلفة لمفهوم الخصوصية. وذلك بغرض البناء عليها لاحقا، في إطار جهد تطوير مفهوم، أكثر تجريدية ومرونة، للخصوصية. حتى يمكن استخدام هذا المفهوم لاستقاء مجموعة من المعايير تصلح للتعامل مع مستجدات الواقع الاجتماعي والتكنولوجي. حيث أن هذه المستجدات، تفرض مقاربات مختلفة لمواجهة صور جديدة من التعدي على الحق في الخصوصية. ومن ثم يجب اﻹشارة إلى أن الورقة لا تهدف إلى القفز مباشرة إلى محاولة  تقديم تعريف للخصوصية، كما أنها لا تدعي حتى شمولها بالقراءة لكافة الاجتهادات السابقة في هذا السبيل، ولكنها تهدف فقط إلى تقديم مفاتيح رئيسية لمن يعنيه مواصلة البحث في الموضوع، فالحقيقة أن حجم وتنوع الأدبيات ذات الصلة في مجالات القانون والفلسفة واﻷنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وغيرها أكبر من أن يمكن الإحاطة به في عمل بهذا الحجم، حتى بغرض متواضع مثل القراءة التمهيدية، وبالتالي فربما تدعو الحاجة إلى استكمال هذه القراءة في أوراق لاحقة.

أولا: المفاهيم النظرية للمجالين الخاص والعام

على الرغم من أن كثيرا من القضايا التي نناقشها اليوم تحت عنوان الخصوصية قديم ربما بقدم الثقافات اﻹنسانية، فإن محاولة التوافق على جمعها تحت هذا العنوان هي حديثة للغاية وتعود إلى أقل من قرن مضى. وهي محاولة لا تزال تواجه عثرات عديدة مما يحول دون اكتمالها. فعلى جانب يمكن تأكيد أنه ما من ثقافة بشرية لم يكن لديها مجموعة من المفاهيم والممارسات، التي تعكس اهتماما بحماية ما يمكننا تسميته بمجال خاص أو شخصي تمييزا له عما يمكن تسميته بالمجال العام. ولكن على الجانب اﻵخر لا يوجد تطابق حقيقي بين هذه المفاهيم والممارسات عبر الثقافات المختلفة ولا عبر المراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها كل ثقافة على حدة، واﻷهم لا يمكن القطع بوجود مفهوم واضح ومحدد للخاص والشخصي في مقابل العام لدى أي ثقافة في فترة سابقة على العصر الحديث وربما قبل قرن واحد من اليوم.

 

يمكن أن تكون أول تفرقة نظرية بين ما يمكن اعتباره مجالا خاصا في مقابل المجال العام هي ما نجده لدى أرسطو الذي كانت تفرقته بين المجالين تقوم على أساس سياسي. فقد فرق أرسطو بين مجال يشارك فيه المواطنون الذكور اﻷحرار في إدارة شؤون المدينة/الدولة، وبين مجال يدير فيه كل منهم شؤون منزله بما يحتويه من زوجة وأبناء وعبيد جميعهم تابعون له. وبصورة أو أخرى فإن ما يمكن اعتباره مفهوم أرسطو للخصوصية يتعلق بنطاق السلطة الفردية ﻹدارة شؤون منزلية، في مقابل نطاق السلطة الجماعية ﻹدارة شؤون المدينة/الدولة. وبهذا المعنى فإن الخصوصية هي حق للمواطن الذكر الحر الذي لا يجوز التدخل في إدارته لشؤون منزله. ويتردد صدى هذا المفهوم للخصوصية في المادة الـ17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنص في فقرتها اﻷولى على أنه “لا يجوز تعريض أي شخص، …، لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته …” هذا الصدى هو امتداد لسيادة هذا المفهوم الكلاسيكي للمجالين الخاص والعام في الثقافة الغربية طوال ما يقرب من عشرين قرن:

التمييز بين المدينة والمنزل في الكلاسيكية اﻹغريقية، وربط الرجال باﻷولى، والنساء والأطفال (والعبيد) بالثانية، محفور في المخيلة الغربية كمُكون لتاريخنا المشترك، ومن ثم أصبح عبر الزمن النموذج شبه الطبيعي للتفريق بين المجالين الخاص والعام وفق حدود السلطة.

ولكن إن كانت أصداء هذا المفهوم ما زالت باقية في التعريفات الحديثة لحدود المجالين الخاص والعام، إلا أن استقراره كمفهوم سائد قد تعرض للتحدي من قبل مفاهيم أخرى، أنتجها إعادة تشكيل الحداثة للمجتمعات البشرية في القرون اﻷربعة اﻷخيرة.

في القرن السابع عشر قدم جون لوك تعريفا مختلفا للمجالين الخاص والعام يعتمد على الملكية. في هذا المفهوم فإن حقوق اﻹنسان في حرية التصرف في جسده وفي حفظ نفسه هو انعكاس لملكيته لجسده وسيادته عليه، في مقابل ملكية مشتركة للبشر في الحالة البدائية للطبيعة ومواردها. وتتمدد الملكية الخاصة للفرد، كما يراها لوك، لتشمل ما يختلط بعمل الفرد من الموارد المشتركة. بمعنى أن ملكية المزارع تمتد إلى أﻷرض التي يفلحها، وملكية الصانع تمتد إلى ما يصنعه. في أبسط صوره يتعلق مفهوم لوك للمجال الخاص في مقابل المجال العام بالنطاق الذي يحق للفرد أن يمارس فيه حرية كاملة للتصرف في مكوناته، بينما لا يكون لغيره مثل هذا الحق، ويمتد هذا النطاق إلى كل ما يملكه الفرد. ويمكن ملاحظة أن هذا الربط بين التمييز بين الخاص والعام وفق خطوط الملكية الخاصة، في مقابل الملكية العامة ومن ثم ربط الحق في الخصوصية بالحق في الملكية الخاصة يصبغ أغلب التصورات السائدة حديثا للحق في الخصوصية، إلى حد أنه في بعض التصورات النظرية للحق في الخصوصية يتم استيعاب هذا الحق بشكل كامل في حقوق الملكية. ووفق بعض هذه التصورات ليس ثمة حاجة إلى تمييز حق في الخصوصية قائم بذاته، ويمكن الاكتفاء بحقوق الملكية التي يمكن من خلالها التعامل مع مختلف القضايا التي تندرج عادة تحت عنوان الخصوصية.

يؤسس جون ستيوارت ميل معيارا مختلفا لتمييز الخاص عن العام على مبدأ “رفع اﻷذى”، في إطار تحديد متى يكون مناسبا للسلطة أن تتدخل في شؤون اﻷفراد ومتى ينبغي عليها ألا تفعل ذلك. ووفق مبدأ “رفع اﻷذى” يرى ميل أنه لا يحق للسلطة التدخل في شؤون اﻷفراد، إلا بغرض حماية اﻵخرين من اﻷذى. ومن ثم فإن المجال الخاص يتعلق بكل أفعال وممارسات الفرد، التي لا يمكن إثبات إمكان أن ينشأ عنها أذى يلحق بغيره. وبصفة عامة فإن ما لا يمكن توقع أن يؤثر سلبا على اﻵخرين، هو شأن خاص بصاحبه لا يعني غيره ومن ثم لا يوجد مصلحة للسلطة أو للمجتمع تدعو للتدخل فيه. يضع مبدأ “رفع اﻷذى” بهذا المعنى أغلب الحريات في نطاق المجال الخاص، وهو ما يجعل من الصعب تأسيس مفهوم متماسك لحق محدد على أساس التفرقة بين المجالين الخاص والعام، وهي إشكالية ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.

 

ثانيا: المفهوم القانوني للحق في الخصوصية

في حين أن المفهوم القانوني ﻷي حق من الحقوق الفردية أو الجماعية لا ينفصل بأي حال عن اﻹطار الثقافي والاجتماعي الذي ينشأ فيه والذي يمده بموارد تتمثل في الحس العام Common Sense السائد، والتصورات النظرية بمستوياتها المختلفة من أكثرها بساطة وأوسعها تداولا إلى أكثرها تعقيدا وتخصصا، فإن المفاهيم القانونية دائما ما تتميز عن غيرها بغايتها التي تتلخص في محاولة الوصول إلى إجابة على سؤال يفترض وجود طرفين أحدهما مدعِي واﻵخر مدعَى عليه، والسؤال هو هل ثمة أساس يسوغ قبول ادعاء الطرف اﻷول (المدعي) بأن فعلا محددا ومتعمدا من قبل الطرف الثاني (المدعى عليه) قد أدي إلى إهدار حق معترف به للطرف اﻷول أو الانتقاص منه مما يستوجب انتصافا يتمثل في تعويض مادي أو معنوي للطرف اﻷول ومحاسبة للطرف الثاني قد تستوجب عقوبة مادية أو معنوية أو كليهما.

وبعبارة أخرى فإن ما يعني المشرع أو الممارس للقانون، هو ما إذا كان ينبغي الاعتراف بحق ما للشخص الطبيعي أو المعنوي يمكن على أساسه قبول دعاوى له في المحكمة، مع ما يترتب على ذلك من مواقف قانونية مختلفة، وما يستلزمه من وضع قواعد قانونية عامة، وتفصيلها في نصوص مواد قانونية محددة.

ويمكن القول بأن المفهوم القانوني ﻷي حق من الحقوق هو في علاقة جدلية مطردة مع المفهوم النظري لهذا الحق. ففي حين أن المفهوم القانوني نظرا لطبيعته اﻷكثر التصاقا بالواقع العملي هو دائما أسرع تطورا استجابة للمتغيرات الاجتماعية الطارئة أولا بأول، فهو بطبيعته العملية ذاتها أكثر محدودية في صياغته لمفهوم الحق. ويمكننا أن نرى هذين الجانبين بوضوح فيما يتعلق بالحق في الخصوصية، ففي حين طور مفكرون مختلفون عبر قرون مفاهيم مختلفة للمجالين الخاص والعام، كما سبقت اﻹشارة إلى ذلك، فإن تطوير مفهوم للحق في الخصوصية على وجه التحديد كان عليه أن ينتظر أن تقود التغيرات الاجتماعية الطارئة الفكر القانوني إلى تطوير هذا المفهوم. ولكننا يمكننا أيضا أن نلاحظ أن هذه الاستجابة من قبل الفكر القانوني قد تأخرت بدورها طويلا. فالتغيرات الاجتماعية وانعكاساتها الفكرية التي أنتجت مفاهيم جديدة للفرد ووضعه القانوني في المجتمع والتي ندرجها في مجملها تحت عنوان الحداثة قد بدأت مع بداية القرن الثامن عشر على أقرب تقدير، وبين هذه التغيرات وانعكاساتها الفكرية كثير مما استندت إليه لاحقا المفاهيم النظرية للخصوصية وللحق فيها والممارسات القانونية المتعلقة بها، ومع ذلك فإن المحدودية التي تفرضها الطبيعة العملية للممارسة والفكر القانونيين، والتي تحبسهما معظم الوقت في إطار اعتبار الضرر كمبدأ والضرر المادي تحديدا كمعيار، قد جعلت من انتباه الفكر القانوني إلى قيمة الدعاوى المتصلة بالتعدي على الخصوصية وما تنتجه من ضرر هو معنوي في اﻷساس، أمرا بالغ الصعوبة.

 

  •  
  • أ) نشأة المفهوم القانوني للخصوصية (وارين وبرانديس 1890)

 

 

تطوير التصورات النظرية حول التفرقة بين المجالين العام والخاص إلى مفهوم لحق بعينه هو الحق في الخصوصية كان عليه أن ينتظر مزيدا من التطورات الاجتماعية التي استدعت استجابة عملية من داخل مجال العمل القانوني. ووفر تطور استخدام الصور الفوتوغرافية في الصحافة في نهاية القرن التاسع عشر إضافة إلى تصاعد رواج الصحف بين الطبقات الوسطى والشعبية في الولايات المتحدة بصفة خاصة، مناخا ملائما لإبراز الحاجة إلى تطوير مفهوم قانوني للحق في الخصوصية. كان هذا هو عصر نشأة ما سمي بالصحف الصفراء والتي اهتمت بنقل صور تفصيلية لأروقة حياة النخبة وما يدور فيها وحولها من شائعات وقصص وفضائح. وتصادف انه في عام 1890 على وجه التحديد كانت إحدى سيدات المجتمع الراقي في مدينة بوسطن اﻷمريكية موضع اهتمام كبير من الصحف الصفراء في المدينة، وهو أمر أزعج زوجها الذي كان محاميا هجر مهنته مؤخرا ﻹدارة أعمال عائلته الثرية. رجل اﻷعمال والمحامي السابق الذي تخرج من مدرسة القانون بهارفارد ثانيا على دفعته كان صامويل وارين، والذي لجأ إلى صديقه وشريكه السابق في العمل بالمحاماة وزميل دفعته اﻷول عليها، لويس برانديس، ليعملا معا على ورقة بحثية نشراها في دورية مدرسة القانون بهارفارد تحت عنوان “الحق في الخصوصية.” وإضافة إلى أن الورقة قد صكت مصطلح الحق في الخصوصية ليدخل للمرة اﻷولى إلى اﻷدبيات القانونية، فقد كان لها أثر بالغ على الممارسة والفكر القانوني في الولايات المتحدة وغيرها لعقود تالية.

الحافز المباشر لكتابة الورقة وهو ما رآه كاتباها كتعد مفزع على خصوصية المواطنين، ينال من شرفهم وسمعة عائلاتهم، كان بالتأكيد تغول الصحافة على المجال الخاص، وتعبر فقرة شهيرة هي الأكثر اقتباسا في المصادر المختلفة عن مدى انزعاج وارين وبرانديس لتلك الظاهرة التي كانت جديدة حينها:

تتخطى الصحافة في كل اتجاه، الحدود الواضحة للياقة والتهذيب. فلم تعد النميمة هي أداة العاطل والخبيث، وإنما أصبحت حرفة تمارس بمهارة ووقاحة أيضا. فالعلاقات الجنسية تذاع في أعمدة الصحف اليومية إرضاءً لذوق منحط. ولشغل من لا عمل لهم، يمتلئ عمود تلو اﻵخر بالنميمة، التي يمكن فقط الحصول عليها بالتطفل على خصوصيات البيوت. إن حدة وتعقيد الحياة المصاحبة لتقدم الحضارة، قد جعلت قدرا من الانسحاب من العالم ضروريا، وأصبح اﻹنسان، في ظل التأثير التهذيبي للثقافة، أكثر حساسية تجاه العلانية، ومن ثم فإن العزلة والخصوصية قد أصبحتا أساسيتين للفرد. ولكن الصناعة والابتكار الحديثين، من خلال غزوهما لخصوصية الفرد، قد ألحقتا به ألما معنويا وضيقا أكبر كثيرًا مما يمكن أن يلحقه به جرح مادي.

تظهر من خلال هذه الفقرة كثير من الملامح الرئيسية لورقة وارين وبرانديس ومدخلهما لتناول الحق في الخصوصية، فهذا المدخل هو قبل أي شيء أخلاقي محافظ، ويعكس توجسا لتغول حرية الصحافة على الحياة الخاصة. ولكن ما هو أهم من ذلك هو سعي الكاتبين إلى التأكيد على ضرورة أخذ اﻷذى المعنوي بجدية على أساس أنه في حالات عدة يمكن أن يكون أكبر أثرا من اﻷذى المادي. وهذه نقطة محورية في الجانب العملي للورقة الذي يسعى كاتباها من خلاله أولا إلى إقناع ممارسي القانون وفي مقدمتهم القضاة بأن يضعوا اﻷذى المعنوي في اعتبارهم. وهما في سبيل ذلك يستعرضان عددا من الأحكام الصادرة في قضايا مختلفة استند القضاة فيها إلى تحويل ما هو أذى معنوي في اﻷساس إلى أذى مادي يلحق بملكية خاصة في سبيل تطويع أحكامهم للقانون الذي لا يعترف إلا باﻷذى المادي. ويؤكد كل من وارين وبرانديس أن ما تعالجه هذه اﻷحكام بشكل التفافي بإخضاعه لمبدأ الحق في الملكية يجدر إدراجه تحت مبدأ أكثر تعبيرا عن طبيعة هذه القضايا وأشباهها وهو مبدأ الحق في الخصوصية.

لقيت ورقة وارين وبرانديس ردود فعل مختلطة في الممارسة العملية، ففي حين تحمس قضاة لتبني مفهوم الحق في الخصوصية، تشكك قضاة آخرون في جدواه. وأدى الجدل حول قضية رفض القضاة فيها الاعتراف بوجود حق في الخصوصية يمنع استخدام شركة صورة شخص على أحد منتجاتها دون إذن منه إلى ضغط من الرأي العام دفع المجلس التشريعي لولاية نيويورك إلى إصدار قانون جرم مثل هذا الفعل. كان هذا القانون هو اﻷول من نوعه الذي استند إلى الاعتراف بالحق في الخصوصية. وقد نما استخدام الحق في الخصوصية في الممارسة القانونية في الولايات المتحدة بصفة خاصة خلال العقود التالية، فيذكر إروين شيميرينسكي أنه “بالرغم من أن ذكر الخصوصية يكاد يكون معدوما في قرارات المحكمة العليا في الولايات المتحدة طوال المائة عام اﻷولى من تاريخها، فإنها خلال الخمسين عاما اﻷخيرة [قبل 2006]، كانت بين المجالات اﻷكثر أهمية وجدلا في القانون الدستوري. فقد استخدمت المحكمة العليا الحق في الخصوصية لحماية الحق في شراء واستخدام وسائل منع الحمل، والحق في الإجهاض، والحق في الانخراط في ممارسات جنسية مثلية.”

 

  • ب) تطور المفهوم القانوني للحق في الخصوصية:

 

بعد سبعين عاما من نشر وارين وبرانديس لورقتهما، نشر ويليام بروزر ورقة بعنوان “الخصوصية” في دورية مدرسة كاليفورنيا للقانون. في هذه الورقة، التي احتلت موقعا هاما في التناول القانوني لمفهوم الخصوصية لاحقا، يبدأ بروزر أولا باستعراض السياق الاجتماعي لنشر كل من وارين وبرانديس لورقتهما التأسيسية حول الحق في الخصوصية، ثم ينتقل إلى استعراض سريع لتطور اعتراف المحاكم اﻷمريكية، وبصفة خاصة المحاكم العليا (الدستورية) للولايات المختلفة لها. ويتوصل بروزر إلى أنه بعد 70 عاما من تعامل المحاكم الأمريكية مع الحق في الخصوصية، نظرت خلالها أكثر من 300 قضية ذات صلة بهذا الحق، فإنه باﻹمكان تمييز مفهوم قانوني لمحتوى هذا الحق ونطاق عمله بناء على تراكم هذه الخبرة العملية. وكما يرى بروزر من وجهة نظر قانونية فإن السؤال المطروح هو: “ما هي المصالح التي نحميها؟ وفي مواجهة أي سلوك؟”

ويقرر بروزر أن “ما نشأ عن قرارات المحاكم” في هذه القضايا المختلفة ليس تعريف تعدٍّ واحد وإنما تركيب من أربعة تعديات:

يتركب قانون الخصوصية من أربعة أنواع متمايزة من التغول على أربعة مصالح مختلفة للمدعي، والتي يربط بينها اسم مشترك، ولكن فيما عدا ذلك، ليس بينها شيء مشترك فيما عدا أن كل منها يمثل تدخلا في حق المدعي، الذي تعبر عنه العبارة التي صكها القاضي كوولي، “أن يترك لشأنه.”

والأنواع اﻷربعة للتعديات التي يستخلصها بروزر من القضايا التي فصلت فيها المحاكم الأمريكية هي:

1 – التطفل على خلوة أو عزلة المدعي، أو التدخل في شؤونه الشخصية.

2 – الفضح العلني لحقائق خاصة محرجة عن المدعي.

3 – النشر العلني الذي يضع المدعي في صورة زائفة في أعين الرأي العام.

4 – الاستخدام دون إذن، لتحقيق مصالح للمدعى عليه، لاسم أو صورة المدعي.

بعد أكثر من قرن من نشر ورقة وارين وبرانديس، في عام 2006 على وجه التحديد، قدم إروين شيمرينسكي ورقة تحت عنوان “إعادة اكتشاف الحق في الخصوصية لبرانديس،” في ملتقى أقيم احتفالا بالذكرى المائة وخمسين لميلاد لويس برانديس، أقامته مدرسة القانون التي تحمل اسمه والتابعة لجامعة لويسفيل. في ورقته هذه يقدم شيمرينسكي تصنيفا مختلفا ﻷنواع القضايا التي تندرج تحت عنوان الحق في الخصوصية ويقيم هذا التصنيف على أساس أحكام المحكمة العليا اﻷمريكية. ووفق هذا التصنيف ثمة ثلاث أنواع لقضايا الخصوصية، هي:

1 – الحماية من تطفل الحكومة على منزل وشخص المواطن.

2 – الاستقلالية وهي، حق الشخص في اتخاذ قرارات مصيرية شخصية دون تدخل من غيره.

3 – حماية حق الفرد في منع نشر معلومات شخصية عنه.

 

ثالثا: تطور المفهوم النظري للحق في الخصوصية:

 

من المثير للاهتمام أن قرارات المحكمة العليا اﻷمريكية المشار إليها في فقرة سابقة والتي استندت إلى الحق في الخصوصية تتعلق جميعها بما يسمى بخصوصية اتخاذ القرار Decisional Privacy، وتتعلق بالخيارات الشخصية للأفراد والتي لا ينبغي للدولة أو لغيرها التدخل فيها. وعلى الرغم من وجود ما يشبه اﻹجماع على أهمية حق الفرد في اتخاذ القرارات الخاصة بشخصه وحياته دون تدخل خارجي إلا أن إدراج هذا الحق تحت الحق في الخصوصية هو موضع خلاف كبير. ويرى كثير من المنظرين أن خصوصية اتخاذ القرار تنتمي إلى مجال الحرية الشخصية وليس إلى مجال الحق في الخصوصية. وهذا هو مجرد مثال واحد وإن يكن بارزا بين أمثلة كثيرة لجوانب خلاف حول مفهوم الحق في الخصوصية بدأ منذ ظهور المصطلح ﻷول مرة ولم ينته حتى يومنا هذا. ويمكن تمييز مستويين رئيسيين للخلاف حول مفهوم الحق في الخصوصية، المستوى اﻷول يتعلق بوجود هذا الحق من عدمه، ويتعلق المستوى الثاني بمجال الحق في الخصوصية وما يندرج تحته في مقابل ما ينبغي إما اعتباره حق مستقل أو إدراجه تحت حقوق وحريات أخرى.

ينبغي أولا أن نتصدى لسؤال مشروع حول جدوى الخلاف حول مفهوم الحق في الخصوصية، إذا ما كانت الموضوعات المختلفة المندرجة تحت هذا المفهوم مُعترف بأهميتها بصفة عامة. فعلى سبيل المثال، إذا ما كان الحق في استخدام وسائل منع الحمل هو أمر أصبح مستقرا إلى حد كبير، فهل يعنينا أن ندرجه تحت الحق في الخصوصية أو تحت حق آخر أو حتى أن نعتبره حقا مستقلا بذاته؟ لماذا ينبغي علينا النظر إلى الخلافات النظرية حول الحق في الخصوصية على أنها أكثر من مجرد سفسطة أو جدل بيزنطي لا طائل منه؟

الحقيقة أنها مع اعترافنا بأن الحقوق والحريات هي ظواهر اجتماعية نسبية باﻷساس فهي دائما عرضة للتطور مع ما يطرأ على المجتمعات من تغيرات بصفة مستمرة. وهذا يعني أنه لا نهاية للقضايا التي يمكن أن يفرضها علينا التطور الاجتماعي المستمر، وفي مواجهة هذه القضايا نحتاج إلى معايير واضحة نبني عليها موقفنا تجاهها. ولا يقتصر أثر التطور الاجتماعي على إنشاء قضايا خلافية جديدة تحتاج إلى حسم الموقف منها بل إنه دائما يعيد فتح القضايا القديمة التي بدا أنها قد حسمت بالفعل ويفرض علينا في كثير من اﻷحيان إعادة النظر في موقفنا منها، ومرة أخرى نحن هنا في حاجة إلى معايير واضحة إما لدعم تمسكنا بالموقف ذاته من تلك القضايا أو لبناء موقف جديد منها. والمفهوم النظري التجريدي ﻷي حق هو اﻷساس اﻷكثر تماسكا واستدامة واﻷقل عرضة للتأثر بالتغيرات الاجتماعية المستمرة، ومن ثم فهو المصدر الموثوق للخروج بالمعايير التي يمكننا استخدامها للتعامل مع القضايا الجديدة أو مع إعادة النظر في القضايا القديمة.

بالتالي فإن الخلاف حول وجود حق ما باﻷساس في مقابل عدم وجوده يتعلق بوجود مفهوم نظري تجريدي متماسك لهذا الحق، أما الخلاف حول نطاق تطبيق كل حق فيتعلق بما إذا كان المفهوم النظري لهذا الحق ينطبق على أحد القضايا في مقابل أن ينطبق عليها المفهوم النظري لحق آخر. ومثل هذه الخلافات ليست عبثية بأي حال، فعندما يرفض البعض وجود حق في الخصوصية في اﻷساس، ويختزل القضايا المختلفة التي تندرج تحت هذا الحق إلى قضايا لحقوق الملكية الخاصة على سبيل المثال فهو في الحقيقة ينقل هذه القضايا إلى سياق مختلف تماما، حيث أن المفهوم النظري لحقوق الملكية مختلف كل الاختلاف عن المفهوم النظري للحق في الخصوصية. وهذا لا يؤدي في الممارسة العملية إلى تعديل المواقف القانونية من قضية ما وحسب وإنما يؤدي في كثير من اﻷحيان إلى ألا يكون ثمة وجه للتصدي لبعض القضايا إذا لم ينطبق المفهوم النظري لحقوق الملكية عليها. وفي غياب حق في الخصوصية يقدم مفهوما نظريا مختلفا ينطبق على هذه القضايا فإنها تخرج تماما من نطاق الحماية القانونية.

يميز فرديناند شومان سؤالين رئيسيين يدور حولهما الخلاف حول الحق في الخصوصية من حيث المبدأ، والمقصود بذلك هو الخلاف حول ما إذا كان ثمة أساس موضوعي للقول بوجود هذا الحق باﻷصل أو أن ثمة حاجة حقيقية إليه. هذا السؤالان هما: هل ثمة مفهوم متماسك ومتميز للحق في الخصوصية؟ وهل الخصوصية هي قيمة ثقافية نسبية؟

 

  •  
  • هل ثمة مفهوم متماسك ومميز للخصوصية؟

 

 

احتدم الجدل حول مفهوم الخصوصية في النصف الثاني من القرن العشرين. وتميز جوديث واجنر ديكيو بين نمطين من مقاربات اﻷدبيات التي تناولت مفهوم الحق في الخصوصية في تلك الفترة. النمط الأول وصفي يفصّل ما ينبغي عمليا حمايته بوصفه خاصًا. أما النمط الثاني فمعياري يدافع عن الخصوصية كقيمة، ويوضح لماذا وإلى أي حد ينبغي حمايتها.

يصف فيرديناند شومان موقف المدافعين عن مفهوم الحق في الخصوصية بأنهم يعتقدون بأن ثمة ما هو “أساسي، ومتكامل، ومتميز، يتعلق بالاهتمامات المدرجة تقليديا تحت تصنيف ‘قضايا الخصوصية’.” في المقابل فإن المعارضين لهذا المفهوم يتخذون ثلاث مواقف مختلفة. يجادل أصحاب الموقف الأول بأن “الحالات التي توصف بأنها ‘قضايا خصوصية،’ متنوعة ومتباعدة ومن ثم فهي مرتبطة فقط اسميًا أو بشكل سطحي.” بينما يجادل أصحاب الموقف الثاني بأنه “عندما يُدافع عن دعاوى الخصوصية أخلاقيا، لابد أن تلمح المبررات في النهاية إلى مبادئ يمكن تمييزها بشكل مستقل تماما عن أي اهتمام بالخصوصية. وبالتبعية، … ، ليس ثمة شيء متميز أخلاقيا متعلق بالخصوصية.” ويشير شومان إلى الجدل حول الموقف اﻷول بفرضية التماسك Coherence، وإلى الجدل حول الموقف الثاني بفرضية التمايز Distinctiveness. أما المنظرون من أصحاب الموقف الثالث فهم من يرفضون كلا من فرضيتي التماسك والتمايز ويرون أن “في كل تصنيف لدعاوى الخصوصية ثمة عدد متنوع من القيم على المحك من النوع الشائع بين كثير من القضايا الاجتماعية اﻷخرى، وأن هذه القيم تستغرق مفهوم الخصوصية.” وتسمي ديكيو أصحاب الموقف الثالث في تصنيف شومان بالاختزاليين، حيث يختزلون قضايا الخصوصية إلى دعاوى تندرج تحت مفاهيم أخرى وينكرون وجود أي شيء متماسك أو متميز يتعلق بمصطلح الخصوصية. وتقدم جوديث جارفيس طومسون كنموذج بارز لأصحاب هذا الموقف.

 

تفتتح طومسون ورقتها المعنونة “الحق في الخصوصية” بمهاجمة التعريف اﻷكثر شهرة للحق في الخصوصية القائل بأنه حق المرء في أن يترك لشأنه، فمن جانب ترى طومسون أن كثيرا من الحالات التي سيرى فيها الكثيرون خرقا للحق في الخصوصية لا ينجح هذا التعريف البسيط في تغطيتها، وكمثال لذلك تفترض موقفا يقوم فيه رجال الشرطة بتصوير شخص في منزله عن بعد باستخدام اﻷشعة السينية X-rays، أو يتنصتون عليه بتوجيه مكبر صوت نحوه عن بعد. في الحالتين، تقول طومسون، لا يشعر الشخص المراقب بشيء ومن ثم فهو قد “ترك لشأنه!” في حين أن الكثيرين سيرون أن حقه في الخصوصية قد تم اختراقه بالتأكيد. في المقابل ثمة حالات كثيرة يمكن اﻹجماع على أن الشخص فيها لم يترك لشأنه كأن يقذفه أحدهم بحجر، ومع ذلك ترى طومسون أن لا أحد سيعتبر ذلك خرقا لحقه في الخصوصية، وإن كان اﻷمر سيصنف كتعدٍ على حقوق أخرى له.

تستعرض طومسون عددا من اﻷمثلة لحالات يتم عادة إدراجها كخرق للحق في الخصوصية، محاولة إيضاح أن أي تعدٍ واقع في أي من هذه الحالات يمكن في الواقع التعامل معه كخرق لحق آخر. بصفة خاصة تفترض طومسون أن جميع الحالات التي تنسب إلى الحق في الخصوصية هي في الواقع تنتمي إما إلى الحق في الملكية، أو الحق في السيادة على النفس والجسد، وهو ما ترده في النهاية إلى نوع من حقوق الملكية بدوره.

قدم عديد من المنظرين تصورات معارضة لرؤية طومسون. فمن الناحية الشكلية جادل توماس سكانلون بأنه إذا ما أمكن اختزال الحق في الخصوصية إلى مجموعة من الحقوق اﻷخرى فإن العكس يكون صحيحا بنفس القدر، بمعنى أنه باﻹمكان اختزال الحقوق الأخرى لتندرج تحت الحق في الخصوصية. “ومن الواضح أن سكانلون يرى أن هذه التراتبية مرجحة حيث يؤمن بأن ثمة ما هو متميز وله قيمة خاصة في الخصوصية.”

تقدم جانيس ريتشاردسون نقدا أكثر تفصيلا لرؤية طومسون. وترى ريتشاردسون أن طومسون تُغفل في اﻷمثلة التي تطرحها حقيقة أنه في حالات عدة تكون المعلومات امتداد للذات ولا يمكن في هذه الحالة معاملتها كمجرد ملكية. وتنقل ريتشاردسون عن فلوريدي قوله بأن ثمة فارق أخلاقي وسياسي بين القول “هذه سيارتي” والقول “هذا جسدي”، واﻹشارة “هذه معلوماتي” هي أقرب إلى الجسد منها إلى السيارة، ومن ثم يرى فلوريدي أن “خرق الخصوصية هو حالة يمكن مقارنتها بسهولة بالاختطاف المعنوي.”

 

  •  
  • هل الخصوصية قيمة ثقافية نسبية؟

 

 

يطرح التساؤل حول ما إذا كانت الخصوصية كقيمة تعتمد على الاختلافات الثقافية مسألتين رئيسيتين، تتعلق اﻷولى بما إذا كان يمكن القطع بأن جميع الثقافات البشرية قد احترمت مفهوما ما للخصوصية عبر تاريخها، بغض النظر عما إذا كان هذا المفهوم قد اختلف من ثقافة إلى أخرى. وتتعلق المسألة الثانية بما إذا كان ثمة جوانب في حياة البشر هي بطبيعتها خاصة، بمعنى أن كونها كذلك نابع منها وليس مفروضا بحكم العادة الاجتماعية وحدها. ويترتب على هذه المسألة الأخيرة التساؤل عما إذا كان ثمة معيار محدد لما هو خاص.

استكشف عديد من المنظرين إمكانية أن يكون تقدير الناس للخصوصية هو موقف اجتماعي باﻷساس، بمعنى أنه في ظل ظروف اجتماعية محددة، يُنشّأ الناس على الاهتمام بالحفاظ على خصوصيتهم. بعض هؤلاء المنظرين انطلق من موقف يرى أن الغياب الكامل للخصوصية هو وضع يمكن تحقيقه، وربما يكون مرغوبا أيضا. وراء هذه القناعة اعتقاد في أن الخصوصية تتمثل باﻷساس في الحساسية المتزايدة  تجاه الشعور بالحرج أو العار، ومن ثم فهي نقطة ضعف، تؤدي إلى لجوء الناس إلى النفاق، وتجعلهم عرضة للاستغلال والخداع، كما قد تؤدي بهم إلى أن يكونوا غير اجتماعيين، أو حتى معادين للمجتمع.

في مواجهة الاعتقاد بإمكان التخلي تماما عن الخصوصية تقوم إشكالية عملية تتمثل فيما إذا كان ثمة أي ثقافة لم تكن الخصوصية فيها معترفا بها. على جانب آخر تعتمد بعض وجهات النظر المعارضة لهذا الاعتقاد على القول بأن الخصوصية هي ضرورة نفسية لتطوير الشخصية. وعلى مستوً آخر يرى البعض أن إمكانية قيام العلاقات الحميمية والهامة في حياة اﻹنسان وكذا الظروف والخبرات الهامة فيها تعتمد بشكل منطقي على الخصوصية. ويقدم هؤلاء ثلاث اعتبارات لدعم تصورهم هذا، اﻷول هو أن الحميمية تنطوي بالضرورة على التخلي عن الموضوعية وهو ما لا يمكن تحقيقه تحت رقابة أطراف خارجية. والثاني هو القول بأن الحميمية والثقة لا يمكن تحققهما خارج نطاق يمكن فيه للمرء أن يكشف عن دخيلته بشكل انتقائي، أي للبعض دون البعض اﻵخر. أما الاعتبار الثالث واﻷخير هو الادعاء بأن تنوع العلاقات الاجتماعية والأدوار الضرورية للحياة الاجتماعية مشروط بأن يكون لكل منا أوجه مختلفة يسيطر على إبداء كل منها في اﻹطار الذي يراه مناسبا له.

فيما يتعلق بالتساؤل حول وجود جوانب لحياة الفرد هي خاصة بطبيعتها، فإن البعض يرى أن الجوانب التي تحاط بأطر الخصوصية ليس لها أهمية في ذاتها، ففي حين أن كل ثقافة لها مفهوم ما للخصوصية فإن جوانب الحياة التي تحاط بهذه الخصوصية ليست بالضرورة واحدة عبر الثقافات المختلفة أو حتى عبر الزمن بالنسبة للثقافة الواحدة. فيما يرى آخرون أن الأمور المتعلقة بدخيلة اﻹنسان هي بطبيعتها خاصة، في حين يمكن لجوانب من النفس اﻹنسانية التي تتطور اجتماعيا أن تحاط بالخصوصية أو لا تحاط بها وفق ظروف كل ثقافة على حدة. ويرى آخرون أن كل علاقة يتم تعريفها اجتماعيا بحيث تحدد جوانب النفس المتعلقة بها التي تحاط بالخصوصية وتلك التي لا تحاط بها.

 

رابعا: نماذج للتصورات النظرية للحق في الخصوصية:

 

يقسم شومان اﻷعمال النظرية حول الخصوصية إلى ثلاثة أقسام رئيسية، القسم اﻷول يضم محاولات تعريف الخصوصية، والقسم الثاني يضم الكتابات التي تبرز المركزية اﻷخلاقية للخصوصية، والقسم الأخير يضم الكتابات المتشككة في وجود مفهوم مستقل للخصوصية باﻷساس. وتستخدم الكتابات المدافعة عن الخصوصية، كما يرى شومان، استراتيجيتين متصلتين ببعضهما البعض. تستخدم الاستراتيجية الأولى حججا تظهر أن الخصوصية هي مكون رئيسي من مفهوم الكرامة اﻹنسانية الأوسع. وتستخدم الاستراتيجية الثانية حججا توضح أن الخصوصية هي جزء مكمل ضروري لفهمنا ﻷنفسنا ككائنات اجتماعية تنخرط في أنواع متنوعة من العلاقات كل منها هام بطريقته في جعل حياتنا ذات معنى. ومن ثم فكلا الاستراتيجيتان تسعيان إلى إظهار صلة بين احترام الخصوصية وبين مُثل فردية واجتماعية وسياسية بعينها.

فيما يلي نستعرض عددا من المقاربات النظرية التي سعت إلى تحديد أساس أخلاقي لمفهوم الخصوصية وتنتمي هذه المقاربات إلى ثلاث مجالات رئيسية هي الفلسفة والقانون والأنثروبولوجيا.

 

 

  • – الخصوصية كتحكم في المعلومات الشخصية حصرا:

 

رؤية الخصوصية في حدود كونها تحكم الفرد في المعلومات المتعلقة بشخصه هي بين اﻷقدم وكذلك اﻷكثر اتساعا في قبولها بين منظرين عديدين وخاصة في مجال الفكر القانوني. فوارين وبرانديس الذين صكا مصطلح الحق في الخصوصية يدافعان تحديدا عن الخصوصية بهذا المعنى. وفي العقود التالية ينضم إليهم منظرون آخرون منهم ويليام بروزر وتشارلز فرايد وويليام بيرانت.

يعرف بيرانت الخصوصية بأنها الحالة التي تكون فيها المعلومات غير الموثقة للشخص غير معروفة أو مملوكة لغيره. ويؤكد أنه بذلك يعرف شرط الخصوصية كقيمة أخلاقية يقدرها الناس وليس كحق أخلاقي أو قانوني. ويعني بيرانت بالمعلومات الشخصية “الحقائق” التي يفضل أغلب الناس ألا تُعرف، والمتعلقة مثلا بحالتهم الصحية، أو دخلهم، أو وزنهم، أو توجههم الجنسي. وتصبح المعلومات موثقة في رأي بيرانت فقط عندما تنتقل إلى المجال العام من خلال الصحف أو التسجيل في وثائق حكومية أو غيرها. وبمجرد خروج أي معلومة إلى المجال العام لا يعود أي نشر لها تعديا على خصوصية صاحبها.

يتميز تعريف بيرانت للخصوصية بتقديمه مفهوما متماسكا لها، ولكنه يعاني من مشكلتين هامتين، فحسب تعريف بيرانت، تفقد أي معلومة شخصية حماية الخصوصية لها بمجرد وصولها إلى أي سجل عام ولو بسبيل الخطأ ويفقد صاحب المعلومة أي سيطرة لاحقة عليها. وثانيا وفق تعريف بيرانت لا يمثل أي تجسس على شخص خرقا لخصوصيته ما دام هذا التجسس لم يؤدي إلى كشف معلومات لم يسبق لها أن وُثقت في أي سجل عام أو تم إذاعتها بأي شكل. وثالثا يتجاهل تعريف بيرانت أو يموه التمييز الهام بين ما يمكن أن يكون معنى وصفيا للخصوصية وبين معناها المعياري العملي الذي يحدد ما هو جدير بالحماية، فهو يخلط بين وصف الخصوصية بأنها عدم معرفة المعلومات الخاصة بشخص، وبين ما يفترض حمايته فيعتبره المعلومة نفسها (وهو ما يصبح في رأيه عبثيا بعد إذاعتها ولو لمرة واحدة)، وليس صاحب المعلومة، والذي يظل صاحب مصلحة في عدم إذاعة المعلومة مرة أخرى.

 

 

  • – الخصوصية والكرامة اﻹنسانية:

 

 

كتب إدوارد بلوشتاين ورقته بعنوان “الخصوصية كأحد وجوه الكرامة الإنسانية” ردا على ورقة ويليام بروزر التي سبق لنا اﻹشارة إليها سابقا. ففي ورقته تلك يخلص بروزر إلى القول بأن “الخصوصية ليست قيمة مستقلة على اﻹطلاق، وإنما هي مجموع للمصالح في السمعة، والسلام النفسي، والملكية المعنوية.” ويسعى بلوشتاين جزئيا إلى الدفاع عن مقولات وارين وبرانديس التي سعى بروزر إلى نقضها، ولكن في حين أن حوار بروزر وكل من وارين وبرانديس عبر سبع عقود قد تم في إطار الفكر القانوني واعتمادا على الممارسة القانونية، وفي حين أن ورقة بلوشتاين أيضا قد نشرت في دورية قانونية إلا أن ما يقدمه بلوشتاين هو دفاع نظري فلسفي عن مفهوم الخصوصية.

يرى بلوشتاين أن وارين وبرانديس قد فشلا في بناء وصف إيجابي للخصوصية، ولكنهما كانا محقين في الاعتقاد بأن ثمة قيمة واحدة تربط مجموع المصالح المندرجة تحت عنوان الخصوصية، وهي القيمة التي أسمياها “الشخصية غير المنتهكة.” ويرى بلوشتاين أن “هذه القيمة تعرف جوهر الفرد كإنسان، وتشمل كرامة واتساق الفرد، وكذا تشمل وحدة واستقلال الشخصية. واحترام هذه القيم هو ما يؤسس ويوحد مفهوم الخصوصية. ويدافع بلوشتاين عن رؤية أن حقوق الخصوصية هامة ﻷنها تحمي ضد الاختراقات التي تحط من الشخصية وكذا ضد الاعتداء على الكرامة.”

 

  •  
  • – الخصوصية والحميمية:

 

 

في اعتقاد عدد كبير من الفلاسفة والمنظرين فإن الخصوصية هامة ﻷنه بدونها، في رأيهم، يستحيل على البشر تكوين علاقات حميمية. فرغم أن تشارلز فرايد يعرف الخصوصية بشكل ضيق على أنها تحكم الفرد في معلوماته الخاصة، إلا أنه يتوسع في هذا التعريف عندما يقول بأن للخصوصية قيمة متضمنة فيها وهي أساسية لتطور المرء كفرد له شخصية أخلاقية واجتماعية قادرة على تكوين علاقات حميمة تنطوي على الاحترام، والحب والصداقة والثقة. ويؤكد فرايد أن الخصوصية ضرورية لمثل هذه العلاقات ومن ثم فأي تهديد للخصوصية هو تهديد لاتساق الفرد كشخص.

تستخدم جولي إينيس مقاربة مختلفة لتأسيس مفهوم الخصوصية على أساس كونها “تُمكن الفرد من التحكم في القرارات الخاصة بالحميمية، بما في ذلك القرارات الخاصة بإتاحة الوصول الحميم، ونشر معلومات حميمة، وأفعال الحميمية. إنني أفهم الحميمية كمنتج لدوافع الشخص الفاعل. فعندما تدعي أن شيئا ما حميمي هو أن تدعي أنه يستمد معناه وقيمته لفاعله من مشاعر الحب، اﻹعجاب، والاهتمام. ومن ثم أستنتج أن الخصوصية هي الحالة التي يمتلك فيها الشخص إمكانية التحكم في القرارات المتعلقة بأمور تستمد معناها وقيمتها من حبه وإعجابه واهتمامه. ونحن نقدر التحكم الذي تمدنا به الخصوصية ﻷنه يجسد احترامنا للأشخاص كمختارين لمشاعرهم. ولنحترم الآخرين بهذه الطريقة علينا أن نعترف بقدرتهم المستقلة على الحب، اﻹعجاب، والاهتمام: وينبغي أن نوليهم الحق في الخصوصية. ففهم الروابط بين الخصوصية والحميمية يسمح لنا بفهم اﻷهمية القصوى لحماية الخصوصية: فشخص بدون خصوصية هو شخص لا يمكنه العيش وفق مخططاته فيما يتعلق بالحميمية، وهو شخص قد جرد من التحكم في مصيره العاطفي.”

دافع معلقون آخرون عن رؤى للخصوصية بناءً على صلة وثيقة لها بالحميمية ولكن ذلك ضمن منظور أوسع ﻷهمية تطوير البشر لعلاقات بينية متنوعة. ففي مقال له بعنوان “لماذا الخصوصية مهمة؟”، يقول جيمس رايتشلز، “ثمة علاقة وثيقة بين قدرتنا على التحكم فيمن له إمكانية الوصول إلينا وإلى المعلومات الخاصة بنا، وبين قدرتنا على خلق وصيانة أنواع مختلفة من العلاقات الاجتماعية مع أناس مختلفين.” ويبني رايتشلز هذه النتيجة على قناعته بأننا نحتاج إلى مستويات مختلفة من إتاحة الوصول والإفصاح عن المعلومات الخاصة لتمييز أنواع علاقاتنا المختلفة عن بعضها البعض. ويرد على دعاوى البعض بأن حقيقة أن لكل منا أوجه مختلفة في أطر علاقاته الاجتماعية هي انعكاس للنفاق وعدم النزاهة، مؤكدا أنه لا ضرورة على الإطلاق لهذا الظن في العموم، وإن الحقيقة أننا نضبط سلوكنا ومن ثم وجوهنا المختلفة لكل علاقة حسب ما يناسبها ويليق بها، بل إن أنماط السلوك المختلفة بما فيها قدر الوصول واﻹتاحة للمعلومات الخاصة هو نفسه ما يشكل الصور المختلفة لعلاقاتنا الاجتماعية.

 

  •  
  • – الخصوصية وإمكانية الوصول:

 

ربط عدد آخر من المفكرين بين الخصوصية وبين تعريف عام ﻹمكانية الوصول المادي والمعلوماتي والمصلحي. فتصف روث جافيسون الوضع الذي يتمتع فيه شخص ما “س” بخصوصية كاملة بأنه الوضع الذي لا يكون فيه ﻷي أحد أية إمكانية للوصول إلى س، “ففي الخصوصية الكاملة لا أحد يعرف أي معلومات عن س، ولا أحد يعير س أي اهتمام، وليس ﻷحد إمكانية وصول مادي إلى س.” وتعترف جافيسون بأنه لا إمكانية لتحقق الخصوصية الكاملة في أي مجتمع إنساني، ولكنها ترى أن عنايتنا بخصوصيتنا تتحقق من خلال التحكم في هذه المحاور الثلاث وهي قدر ما يعرفه أي أحد عنا، وقدر الاهتمام الذي يوليه أي أحد لنا، ومدى إمكان وصول أي أحد ماديا إلينا.

خاتمة:

 

مرت قراءتنا لبعض مصادر المفاهيم النظرية للحق في الخصوصية أولا باﻷصول اﻷولى في الفلسفة للتمييز بين المجالين الخاص والعام. ثم تعرضت لصك مصطلح الحق في الخصوصية ﻷول مرة في إطار الفكر العملي والنظري القانوني على يد وارين وبرانديس، منتقلة بعد ذلك إلى ملاحظة تطور المفهوم القانوني للخصوصية من خلال محطتين تاليتين عبر عنهما بروزر وشيمرنيسكي. وانتقلت قراءتنا لاحقا إلى التصورات النظرية التجريدية الفلسفية لمفهوم الخصوصية التي تطورت في أعقاب دخول المصطلح إلى الممارسة القانونية، فتناولت إشكاليتان رئيسيتان لتعريف مفهوم للخصوصية، وهما ما إذا كان يمكن الوصول إلى مفهوم متماسك ومتميز للخصوصية، وما إذا كانت الخصوصية هي قيمة نسبية وليست متضمنة بالضرورة في بعض نواحي الحياة اليومية بطبيعتها. وكان ذلك تمهيدا لتناول عدد من التصورات النظرية لمفهوم الخصوصية بُني كل منها على جانب رأى أصحابه إنه المحور الأساسي الذي تدور حوله الخصوصية. وشملت هذه المحاور، المعلومات، الكرامة اﻹنسانية، الحميمية والعلاقات الاجتماعية، ثم إمكانية الوصول المادي والمعلوماتي وإبداء الاهتمام.

أوضحت قراءتنا حقيقة ارتباط المفهوم القانوني للخصوصية بالممارسة العملية وبإمكانية تحديد الضرر الذي يتطلب انتصافا لمن وقع عليه. ونتيجة لذلك فإن الاجتهاد القانوني انصرف إلى تصنيف الحالات المختلفة التي قبلت فيها المحاكم دعاوى بناءً على تقديرها أن خرقا وقع لحق المدعي في الخصوصية. هذه الرؤية العملية كان من شأنها أنها أخفت إلى حد كبير اﻷساس المشترك الذي يفترض أن يجمع بين التصنيفات المختلفة والذي يعكس مفهوما متماسكا ومتميزا للخصوصية. ومن ثم فإن المنظرين القانونيين كانوا في حالات عديدة أقرب إلى رفض وجود مفهوم مستقل للخصوصية [طومسون وبروزر] ومن دافع منهم عن وجود هذا المفهوم المستقل كان عليه اللجوء إلى تصور تجريدي فلسفي [بلوشتاين]. ومن ثم فإن الواضح أنه إن كان علينا البحث عن مفهوم متماسك للخصوصية بغرض الخروج بمعايير مختلفة للتعامل مع المستجدات الاجتماعية فإن مجال بحثنا هو بالضرورة الفكر النظري الفلسفي.

تنوع الرؤى النظرية حول الخصوصية يجعل مهمة الوصول إلى مفهوم موحد لها أمرا صعبا إلى حد كبير، لكنه في الحقيقة ليس مستحيلا. هذه المهمة في اعتقادنا ضرورية وماسة في ظل تزايد التهديدات المحدقة بالحق في الخصوصية وبصفة خاصة نتيجة لاتساع دائرة الحرب على اﻹرهاب وتصاعد حدتها. وتجدر اﻹشارة إلى أن بعض المقاربات المثيرة للاهتمام والواعدة لم يتم التعرض لها في هذه الورقة لتعقدها ولانتمائها لسياقات فلسفية مستجدة يحتاج تناولها إلى مناقشة مطولة تخرج عن حدود المساحة المتاحة هنا. وربما تكون موضوعا لأوراق مستقلة تالية.

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.