الإفصاح عن المعلومات في الجهاز المركزي للمحاسبات “قضية هشام جنينة نموذجًا”

تاريخ النشر : الثلاثاء, 10 سبتمبر, 2019
Facebook
Twitter

إعداد: منة المصري، باحثة سابقة بمؤسسة حرية الفكر والتعبير

تحرير: محمد عبد السلام، مدير الوحدة البحثية بالمؤسسة

 

للإطلاع على التقرير بصيغة PDF إضغط هنا

 

 

 

المحتوى

منهجية

مقدمة

تمهيد: أجهزة الدولة وحرية تداول المعلومات

القسم الأول: ماهية الجهاز المركزي للمحاسبات

  • اختصاصات المركزي للمحاسبات
  • الإفصاح عن المعلومات الواردة بتقارير المركزي للمحاسبات

القسم الثاني: قضية هشام جنينة كنموذج للإفصاح عن المعلومات

  • خلفية عن قضية هشام جنينة بشأن تكلفة الفساد في مصر
  • قراءة في شهادات العاملين بالجهاز المركزي للمحاسبات

استنتاجات

خاتمة وتوصيات

 منهجية

اعتمدت الورقة على تحليل قانون رقم 144 لسنة 1988 بشأن الجهاز المركزي للمحاسبات ومواد الدستور ذات الصلة بعمل الأجهزة الرقابية. كما اعتمدت الورقة على استعراض الدعوى القضائية رقم ٥٨٥٥ لسنة ٢٠١٦ جنح التجمع الأول، ضد الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، في اتهامه بنشر أخبار كاذبة.

مقدمة

تنطلق الورقة من تناول واقع حرية تداول المعلومات في مصر، بالتطبيق على الجهاز المركزي للمحاسبات، ومدى التزامه بالإفصاح عن المعلومات من ناحية، وتمكن الجهاز من الحصول على المعلومات من الجهات، التي تخضع لرقابته من ناحية أخرى.

وتبين الورقة اﻹشكاليات الواردة في القانون المنظِّم للجهاز المركزي للمحاسبات، من حيث غياب ضمانات الإفصاح عن المعلومات، خاصة وأن الدستور المصري الحالي، ينص على نشر التقارير السنوية على الرأي العام. لذلك، تعرض الورقة المواد المنظمة للأجهزة الرقابية في الدستور المصري، ومنها الجهاز المركزي للمحاسبات.

من جانب آخر، تستخدم الورقة قضية الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة، والتي اتُّهِم فيها بإذاعة أخبار كاذبة، لمحاولة فهم طريقة تعامل العاملين بالجهاز المركزي للمحاسبات مع فلسفة الإفصاح وتداول المعلومات، وذلك اعتمادًا على اﻷقوال الواردة في القضية.

تهدف الورقة إلى بيان أثر هذه القيود المختلفة على حالة تداول المعلومات في مصر، وتسعى إلى عقد مقارنة بين فترة تولي جنينة التي شهدت تدفق المعلومات، حتى لو بشكل عام، والفترة التي أعقبت إقالته والتي اختفى فيها تمامًا أيُّ ذكر للجهاز المركزي للمحاسبات.

 تمهيد: أجهزة الدولة وحرية تداول المعلومات:

تعرضت المواثيق الدولية الرئيسية لمسألة حرية تداول المعلومات، إذ نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة ١٩، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة ١٩، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الفقرة الأولي بند أ، ب، والثالثة من المادة ١٥[1]، وفي عام ٢٠٠٠ أقر المقرر الخاص لحرية التعبير ٩ مبادئ لتعزيز حرية تداول المعلومات وضمان فعاليتها. ويجب أن تلتزم الحكومات بمبادئ حرية تداول المعلومات التسعة، ومن أبرزها:

  • الإفصاح المطلق عن المعلومات: ومقتضاه أن الأصل في المعلومات هو أنها قابلة للإفصاح وأن الوصول إلى المعلومات حق للمجتمعات والشعوب وأن الحكومات ما هي إلا متعهدة بإدارة تلك المعلومات والتي تؤول ملكيتها للمواطنين.
  • وجوب النشر التلقائي وأسبقية الكشف: يوجب هذا المبدأ على الحكومات، الأجهزة المختلفة، وغيرها من المؤسسات النشر الدائم والتلقائي للمعلومات الداخلية، وعن كل ما قد يتراءى _وفقًا لكل جهاز_ أن له علاقة باهتمامات أو خدمات المواطن.
  • الترويج للحكومة المنفتحة: يقصد به ضرورة توعية المواطنين وتدريب العاملين بأجهزة الدولة بثقافة الإفصاح عن المعلومات وآليات تطبيقه، إذ أن الاقتصار على ضبط المفهوم في القانون ليس بكافٍ لتطبيقه، بل يجب نشر ثقافة حرية تداول المعلومات وتغيير عقلية العاملين بالأجهزة الحكومية إلى المكاشفة والإفصاح العام، بدلًا من التمسك بسرية المعلومات.
  • تحديد نطاق الاستثناءات الواردة على الإفصاح: إذ أن الأصل هو الإفصاح، والسرية تعد استثناءً عليها، كما تتضمن المبادئ ضرورة وضع ضمانات لحماية المبلِّغين بمعلومات عن جرائم أو مخالفات فساد مالي، إداري، أو سياسي، بالإضافة إلى مبادئ أخرى.[2]

عضضت منظمة المادة ١٩ هذه المبادئ، من حيث أن الحق في الوصول إلى المعلومات يكون داعمًا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وذلك حين تتحقق ثلاث عمليات مترابطة، وهي:

  • توفير الوعي: فيما يتعلق بحرية تداول المعلومات وأثرها في تدعيم نظم الحكم النيابي.
  • الرقابة: فالحق للوصول إلى المعلومات يضمن مراقبة إنجازات الدولة والحكومات، فيما يخص التزاماتها تجاه المجتمع.
  • ضمان حق الأفراد في التقاضي (المحاسبة): ويشمل محاسبة الفاسدين أو مرتكبي الجرائم المالية.[3]

وينص الدستور المصري في المادة رقم ٦٨ على أن “المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا. وتلتزم مؤسسات الدولة بإيداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها بدار الوثائق القومية، وحمايتها وتأمينها من الضياع أو التلف وترميمها بجميع الوسائل والأدوات الحديثة وفقًا للقانون.”[4]

وعلى الرغم من وجود مقترح لقانون تداول المعلومات، عمل عليه المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، فإن الحكومة المصرية لم تدفع به إلى مجلس النواب. وثمة قصور كبير في التزام الدولة المصرية بثقافة الشفافية وتداول المعلومات، إذ أن التعاطي مع المعلومات يتم باعتبارها ملكًا للدولة والحكام لا للمواطنين، وهناك مخاوف دائمة من إتاحة المعلومات، والتي ينظر إليها في دوائر السلطة كخطر على استقرار نظام الحكم.

ومن هنا، يمكن القول إن السلطات المصرية تفضل تجاهل إدخال تعديلات تشريعية تدعم حرية تداول المعلومات من جانب، ومن جانب آخر هي ليست منفتحة تحديدًا على إتاحة المعلومات التي بحوزة الأجهزة الرقابية، وهو ما تتطرق إليه الورقة في أقسامها التالية.

القسم الأول: ماهية الجهاز المركزي للمحاسبات:

تتطرق الورقة في قسمها الأول إلى اختصاصات الجهاز المركزي للمحاسبات وفقًا للقانون وتنظيم مواد الدستور الحالي لعمله، بما يشمل حصول الجهاز المركزي للمحاسبات على المعلومات من الجهات الخاضعة لرقابته، ثم تنتقل الورقة إلى مناقشة إتاحة المعلومات التي تتضمنها تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات.

– اختصاصات المركزي للمحاسبات:

تكمن أهمية الأجهزة الرقابية وفقًا لنصوص الدستور في الرقابة ومكافحة الفساد، ولكي تكون هذه الأهداف المتمثلة في الرقابة ومكافحة الفساد فعالة، يجب أن تتوفر للمواطنين معلومات كافية تمكنهم من المشاركة في محاسبة المسئولين. ويحدد الدستور المصري أربعة أجهزة رقابية في الدولة، وهي: ١) البنك المركزي. ٢) الهيئة العامة للرقابة المالية. ٣) الجهاز المركزي للمحاسبات. ٤) هيئة الرقابة الإدارية.[5] ويحدد الدستور الاختصاصات العامة للأجهزة الثلاثة الأولى، ويضمن مركزية دورها الرقابي المكافح للفساد.

بنظرة سريعة على اختصاصات هذه الأجهزة، ينص الدستور أن للبنك المركزي: وضع السياسات النقدية والائتمانية والمصرفية، والإشراف على تنفيذها، ومراقبة أداء الجهاز المصرفي، وحق إصدار النقد، والعمل على سلامة النظام النقدي والمصرفي واستقرار الأسعار في إطار السياسة الاقتصادية العامة للدولة”.[6]

أما الهيئة العامة للرقابة المالية فهي: “تختص بالرقابة والإشراف على الأسواق والأدوات المالية غير المصرفية، بما في ذلك أسواق رأس المال وبورصات العقود الآجلة وأنشطة التأمين، والتمويل العقاري، والتأجير التمويلي، والتخصيم والتوريق، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون”،[7]  وأخيرًا، ينص الدستور على أن الجهاز المركزي للمحاسبات يتولى: “الرقابة على أموال الدولة والأشخاص الاعتبارية العامة، والجهات الأخرى التي يحددها القانون، ومراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة والموازنات المستقلة، ومراجعة حساباتها الختامية”.[8]

ويعد الجهاز المركزي للمحاسبات هيئة ذات شخصية اعتبارية عامة، تتبع رئيس الجمهورية، وتهدف أساسًا إلى تحقيق الرقابة الفعالة على أموال الدولة وأموال الشخصيات العامة الأخرى وغيرهم من الأشخاص المنصوص عليهم في القانون، كما يعاون المركزي للمحاسبات البرلمان في القيام بمهامه الرقابية.[9]

يرجع تاريخ الجهاز المركزي للمحاسبات إلى أكثر من ٧٠ عامًا، إذ أنه في عام ١٩٤٢ أصدر الملك فاروق مرسومًا ملكيًّا برقم ٥٢ بإنشاء جهاز تحت اسم: “ديوان المحاسبة” وكان مسؤولًا عن الرقابة على المال العام وإيرادات ومصروفات الدولة، وفي ١٩٦٤ تم إصدار القانون رقم ١٢٩ لسنة ١٩٦٤ وفيه تم تغيير اسم الجهاز إلى: “الجهاز المركزي للمحاسبات”. توالت القوانين والقرارات المنظمة والمصورة للجهاز عبر العقود بما يتجاوز ١٢ قرارًا وقانونًا. أما الآن فالقانون المنظم للجهاز هو القانون رقم ١٤٤ لسنة ١٩٨٨، بشأن قانون الجهاز المركزي للمحاسبات ولائحة العاملين بالجهاز.

ويقوم الجهاز المركزي للمحاسبات وفقًا للدستور الحالي بتقديم تقارير سنوية إلى كلٍّ من رئيس الجمهورية، ومجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، ويقوم مجلس النواب بالنظر فيها، واتخاذ الإجراءات المناسبة حيالها، كما نص الدستور في مادته ٢١٧ على أن تلك التقارير: “تنشر على الرأي العام”[10]، إذ أن التقارير وما تحويه من معلومات عامة تتعلق بكل مواطن.

كما أكد الدستور على وجوب إبلاغ الأجهزة الرقابية لسلطات التحقيق المختصة بما تكتشفه من دلائل على ارتكاب مخالفات، أو جرائم، وعلى الدولة الالتزام بذلك: “ضمانًا لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية بذلك”.[11]

كذلك كفل الدستور ضمان استقلالية الأجهزة الرقابية فنيًّا، وماليًّا، وإداريًّا، وضمان حياد واستقلال مسئوليها، بما يشمل موافقة مجلس النواب على قرارات رئيس الجمهورية بتعيين رؤساء الأجهزة الرقابية، بعد موافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب. ويكون التعيين لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يُعفى رئيس الهيئة أو الجهاز من منصبه إلا في الحالات المحددة في القانون.[12]

وإذا ما نظرنا إلى قانون الجهاز المركزي للمحاسبات فهو يفتقر إلى اتساق مواده مع الدستور الحالي، وخاصة فيما يتعلق بترسيخ حرية تداول المعلومات، وتوعية العاملين بثقافة حرية تداول المعلومات.

قبل صدور القانون ١٤٤ لسنة ١٩٨٨ بشأن قانون الجهاز المركزي للمحاسبات، كانت اختصاصات الجهاز متناثرة في قوانين عدة، على رأسها القانون رقم ١٢٩ لسنة ١٩٦٤ بشأن إصدار قانون الجهاز المركزي للمحاسبات، والقانون رقم ٤٤ لسنة ١٩٥٦ في شأن تنظيم مراقبة حسابات المؤسسات والهيئات العامة والشركات والجمعيات والمنشآت التابعة لها، والقانون رقم ٣١ لسنة ١٩٧٥ بشأن تنظيم علاقة الجهاز المركزي للمحاسبات بمجلس الشعب.

كما نظم عمل الجهاز سابقًا كلًّا من: اللائحة الداخلية لمجلس الشعب الصادر بقرار المجلس بجلسته في ١٦/١٠/١٩٨٩، والقرارين الجمهوريين رقمي ١٣٤٩ لسنة ١٩٦٤ بشأن تحديد وحدات الجهاز واختصاصات كل منهما و٢٤٠٥ لسنة ١٩٦٥ بشأن اللائحة التنفيذية للقانون رقم ٤٤ لسنة ١٩٦٥.

بعد ذلك، صدر قانون رقم ١٤٤ لسنة ١٩٨٨، بهدف تنظيم عمل الجهاز المركزي للمحاسبات وتم إلغاء القوانين الثلاثة السابقة عليه. وينقسم هذا القانون المعمول به حاليًّا إلى ٦ أبواب، الأول: يتناول أهداف الجهاز ووظائفه، والثاني: يتضمن اختصاصات الجهاز وطرق مباشرتها، الثالث: وصف التزامات الجهات الخاضعة لرقابته، الرابع: ينص على كل ما يتعلق بتقارير الجهاز من مواعيدها والجهات التي يتم تقديم التقارير إليها، والخامس: يبين تشكيل الجهاز ونظم العاملين به، والسادس ينص على بعض الأحكام العامة.

يفصل الباب الأول والذي يتناول: “أهداف الجهاز، وظائفه، والجهات الخاضعة لرقابته” أنواع الرقابة المالية بشقيها المحاسبي والقانوني، وآليات متابعة تنفيذ خطط الدولة، وكيفية الرقابة على القرارات وما يترتب عليها من مخالفات مالية، كما يناقش كيفية تنفيذ الدور الرقابي على الأجهزة المختلفة من القطاع العام والنقابات، والأحزاب السياسية، والشركات التعاونية وغيرها. وينص القانون على آليات الإبلاغ في مادته رقم ٤، للجهات المختلفة داخليًّا، أي داخل الدولة، من رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، ومجلس الشعب وغيره.

يدعم قانون الجهاز المركزي للمحاسبات في بابه الثاني حصول الجهاز على المعلومات ذات الصلة بمجال عمله، وذلك من خلال إلزام الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز بتوفير الأوراق والتقارير والمعلومات المختلفة أمام موظفي الجهاز المركزي للمحاسبات، وهو أمر مهم لتأدية الجهاز مهامه، وتمكنه من الحصول على المعلومات وحفظها.

ووفق المادتين ١١ و١٢ من قانون الجهاز المركزي للمحاسبات يعد في حكم “المخالفات المالية” عدم الالتزام بتوفير العقود، والاتفاقات، والمناقصات، والمحاسبات ونتائج عملها في المواعيد المقررة لها، كما يعد من المخالفات عدم الرد على ملاحظات الجهاز ومكاتباته، وعدم إخطار الجهاز بالأحكام والقرارات الإدارية الصادرة بشأن المخالفات المالية والإجراءات المتخذة حيال تلك المخالفات. وكذلك، أوضح القانون في المادة ١٥ ضرورة إبلاغ الجهاز عن وقائع الاختلاس أو السرقة أو التبديد أو الحريق أو الإهمال يوم اكتشافها.

وهناك إشكالية في تطبيق نصوص القانون، فيما يتعلق بالحصول على المعلومات من الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، وعلى سبيل المثال، أعلن الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة أن نادي القضاة رفض قيام الجهاز بفحص ميزانية النادي. أما على مستوى جهات التحقيق، فقد كشف الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، في عام 2015 أثناء توليه منصبه، أن النيابة الإدارية وجهاز الكسب غير المشروع لم يمدَّا الجهاز بتطورات التحقيق في البلاغات التي قدمها إلى الجهتين.

وفي تصريح لجريدة الوطن في 11 مايو 2015، قال جنينة: “الجهاز بالفعل واجه مشكلة فى المعلومات الخاصة بما تم رفعه من تقارير إلى النيابة العامة، حيث لا تتم الإجابة على طلبات الجهاز، فالنيابة الإدارية يجب أن توافي الجهاز أولًا بأول بالبيانات الخاصة بما تم التصرُّف فيه حيال البلاغات التى قدمها الجهاز المركزى للمحاسبات”.[13]

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه وإن كان قانون الجهاز المركزي للمحاسبات قد ضمن للجهاز الوصول إلى المعلومات ونقل ملفات الفساد إلى جهات التحقيق، فإن ذلك على أرض الواقع كان محل شك، في ظل امتناع جهاتٍ عن التعاون مع الجهاز المركزي للمحاسبات، وعدم وجود ما يُلزم جهات التحقيق بتحريك قضايا الفساد التي كشفها المركزي للمحاسبات.

أما من حيث الإفصاح عن المعلومات الواردة في تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات لجميع المواطنين، فهذا ما تتناوله الورقة في الجزء التالي.

– الإفصاح عن المعلومات الواردة بتقارير المركزي للمحاسبات:

يعد الإشكال العام الظاهر في قانون الجهاز المركزي للمحاسبات هو عدم تنظيم الإفصاح عن المعلومات الواردة بتقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، وإن كان هناك رأي أن عمل الجهاز المركزي للمحاسبات ضمن الهيئات الرقابية لا يتيح له الإفصاح عن المعلومات، فهو منوط به العمل مع الجهات الخاضغة لرقابته وجهات التحقيق، ولكن هذا الرأي يتجاهل نص الدستور الحالي على إلزام اﻷجهزة الرقابية في المادة ٢١٧ بتقديم: “تقارير سنوية إلى كل من رئيس الجمهورية، ومجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، فور صدورها، وعلى مجلس النواب أن ينظرها، ويتخذ الإجراءات المناسبة حيالها في مدة لا تجاوز أربعة أشهر من تاريخ ورودها إليه، وتنشر هذه التقارير على الرأي العام”.

فثمة حد أدنى للإفصاح عن المعلومات يفرضه الدستور، ومع ذلك لم يتم تعديل التشريع المنظم للجهاز المركزي للمحاسبات لتضمين ذلك الإلزام، ومن ناحية أخرى لا يوجد ما يشير إلى مناقشة مجلس النواب للتقرير السنوي للجهاز المركزي للمحاسبات، بل لا نعرف إن كان يتم تقديم هذه التقارير أم أن اﻷمر معطل.

أما بشأن التقارير المتخصصة التي يقدمها الجهاز إلى الجهات التنفيذية وتلك الخاضعة لرقابته ويرسل بعضها إلى جهات التحقيق كذلك عند اشتباهه في وجود فساد إداري، فينبغي أن يتم التطرق إلى حدود الاستثناءات الواردة، في حالة وجود معلومات سرية. ويمكن هنا النظر إلى الدراسة التي أعدها المركزي للمحاسبات عن تكلفة الفساد ونَشَرَها موقع مدى مصر في عام 2016[14]، إذ أنها لم تكن تقريرًا خاصًّا من تلك التي يقدمها الجهاز، بل كانت دراسة طلبتها وزارة التخطيط بحكم امتلاك الجهاز المعلومات حول قطاعات الجهاز الإداري للدولة، وبالتالي في مثل هذه الحالات وغيرها هل يمكن اعتبار المعلومات “سرية”، كما أنه إذا ما تطرقنا إلى مضمون هذه الدراسة على سبيل المثال، فالمعلومات الواردة بها تساعد على دراسة الفساد واقتراح آليات مكافحته من قِبَل المجتمع المدني والأكاديميين وغيرهم من فئات المجتمع، لذلك لا يمكن اعتبار هذه الدراسة معلومات سرية تم إفشاؤها.

ويجب أن يتم تعديل الباب الرابع من قانون الجهاز المركزي للمحاسبات، فهو الباب الذي يتناول نوعية التقارير الصادرة عن الجهاز والجهات التي يتعين أن ترسل إليها التقارير. وهذا التعديل يجب أن يشمل في حده الأدنى الإفصاح عن التقرير السنوي للجهاز، ويحدد نطاق الاستثناءات الواردة على التقارير الخاصة بالجهات الخاضعة لرقابته.

ففي هذا الباب ألزم القانون الجهاز المركزي للمحاسبات بإرسال تقارير نوعية عديدة إلى كلٍّ من مجلس الشعب، ووزارة المالية، والوحدات والجهات الرئاسية المعنية، ورئيس الجمهورية، ومن جملة تلك التقارير النوعية ما يتعلق بملاحظات الجهاز التي أسفرت عن عملية الرقابة، ونتائج مراجعة الحسابات الختامية لتنفيذ موازنات الوحدات الحسابية، ونتائج مراجعة الميزانيات، ومتابعات الخطة وتقويم الأداء المنصوص عليها في المواعيد المذكورة. هذا الكم من المعلومات والتقارير النوعية لا يجب أن تكون محصورة داخل أسوار مؤسسات الدولة، بل يجب إتاحتها للجمهور الذي “يمتلكها” في الأصل وهو الشعب المصري، إذ أن تلك الأموال والميزانيات التي يتم مراقبتها ومحاسبتها هي في الأصل أموال الشعب المصري، وتلك الأجهزة التي تحتوي على المعلومات هي إدارات موكلة بتنظيم وحفظ تلك المعلومات وتيسير إتاحتها لمالكيها.

أخيرًا، فيما يتعلق بلائحة العاملين فقد ورد في الفصل الأول، من الباب السادس، في البند الثالث والرابع من المادة ٥٤ فيما يتعلق بواجبات العاملين بالجهاز وتأديبهم أنه على العامل بالجهاز أن يراعي السرية التامة في أعمال وظيفته، وألا يفشي أمورًا علمها بحكمها: “إذا كانت سرية بطبيعتها أو بموجب تعليمات تقضي بذلك”، ويظل هذا الالتزام قائمًا ولو بعد ترك العامل الخدمة. ويعد هذا البند بالغًا في الأهمية في أي جهاز يتعامل مع معلومات ذات حساسية، ومن الجيد أنه تم تقييد المادة بالنص على أن عدم الإفشاء عن المعلومات يكون قائمًا علي المعلومات: “السرية بطبيعتها أو بموجب تعليمات تقضي بذلك”، إلا أنه من الضروري أن يتم موازنة تلك المادة بشقين حتى لا يتم التوسع فيها ويساء استخدامها: الشق الأول يكون من خلال النص على أنه واجب على العاملين بالجهاز تقديم المعلومات إلى المتقدمين بطلبات عن معلومات أو بيانات غير متصفة بالسرية، ويُجازَى المسؤول غير الممتثل للطلب. والشق الثاني: ضرورة النص على آليات، ومعايير واضحة يتم تحديد ما هو سري وما هو غير سري من خلالها.

 القسم الثاني: قضية هشام جنينة كنموذج للإفصاح عن المعلومات:

تنتقل الورقة في قسمها الثاني إلى تناول نموذج للإفصاح عن المعلومات في الجهاز المركزي للمحاسبات، من خلال قضية المستشار هشام جنينة، وهو الرئيس السابق للجهاز، ويمكن من خلال هذا النموذج فهم مدى رغبة الجهات الرسمية في مصر في حجب المعلومات، وتجاهل مشاركة المواطنين في محاسبة المسئولين وتقييم السياسات التي تتعلق بمصالحهم.

وإبان توليه مسئوليته كرئيسٍ للجهاز المركزي للمحاسبات، من سبتمبر 2012 وحتى إقالته في مارس 2016، كان جنينة منفتحًا على إتاحة المعلومات المتعلقة بما يرصده الجهاز المركزي للمحاسبات من مخالفات، وشهدت هذه الفترة انتعاشًا في المعلومات التي يتناولها الإعلام عن المركزي للمحاسبات، وحتى بعد تعرض جنينة للإقالة من منصبه، فإن موقع مدى مصر المستقل تمكن من نشر نص الدراسة التي تسببت في إقالته.

تلك المقاربة التي تبناها جنينة جاءت مناقضة لما تم تحديده للجهاز المركزي للمحاسبات على مدار عقود، حيث: “ترسخ في فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك دور محدد للجهاز المركزي للمحاسبات، فالجهاز يصل إلى المخالفات ويرصدها ويعد تقارير وافية، ويقوم رئيسه ببعض النقاشات داخل مجلس الشعب وتحال بعض المخالفات للنيابة، ولكن دون معرفة حجم الفساد الحقيقي داخل الحكومة ولا طبيعة الإجراءات لمواجهته”.[15]

– خلفية عن قضية هشام جنينة بشأن تكلفة الفساد في مصر:

في ديسمبر ٢٠١٦، توجهت الصحفية بجريدة اليوم السابع: رانيا سيد محمد عامر، إلى مقر الجهاز المركزي للمحاسبات، لتغطية فعاليات افتتاح فرع البنك الأهلي بمقر الجهاز، التقت الصحفية برئيس الجهاز آنذاك هشام جنينة، وطرحت عليه بعض الأسئلة، والتي شملت سؤالًا عن تكلفة وحجم الفساد في مؤسسات الدولة. وفق شهادة الصحفية الواردة ضمن أوراق القضية رقم ٥٨٥٥ لسنة ٢٠١٦ جنح التجمع الأول، فإن رئيس الجهاز: “قرر أنه رقم مرعب لها وللرأي العام، وأنه لكي يقدم لها رقم محدد لا بد أن تكون في حوزته التقارير التي تم إعدادها بمعرفة الجهاز”.

طالبت الصحفية رانيا سيد أن يمدها برقم تقريبي، فصرح لها جنينة ببيان مضمونه أن تكلفة الفساد بمؤسسات الدولة المصرية كان ست مئة مليار جنيه خلال عام ٢٠١٥. ثم تواصلت الصحفية هاتفيًّا مع رئيس الجهاز، في يوم ٢٣ ديسمبر ٢٠١٥، لتأكيد الخبر وأكد لها ما ورد فيه.

وفي اليوم التالي تواصل معها هاتفيًّا مدير مكتب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات طالبًا: “نشر تصحيح للبيان المشار إليه بأن تكلفة الفساد تجاوزت الست مئة مليار خلال الفترة من عام ٢٠١٢ حتى ٢٠١٥ وأنه يريد إرسال بيانًا صادرًا عن الجهاز المركزي للمحاسبات بخصوص هذا الموضوع”، إلا أن الصحفية رفضت نشر تصحيح للخبر متذرعة بأنها سبق وتواصلت مع رئيس الجهاز وتأكدت من الخبر قبل نشره.

ثم بناء على هذا التصريح قدمت النيابة العامة إلى المحكمة دعوى ضد رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة تتهمه فيها بنشر أخبار، وبيانات، وإشاعات كاذبة بسوء قصد _بإحدى الطرق العلنية_ والتي كان من شأنها إلحاق الضرر بالمصلحة العامة، ذلك بأن صرح إعلاميًّا لصحفية باليوم السابع ببيان كاذب بأن تكلفة الفساد داخل مؤسسات الدولة المصرية تجاوزت ست مئة مليار جنية خلال عام ٢٠١٥ وطالبت النيابة بعقابه بمواد الاتهام ٤٠/ثالثًا، ٤١/١، ٤٢، ١٧١/٥، ١٨٨ من قانون العقوبات.

لذا، أقيمت الدعوى الجنائية برقم ٥٨٥٥ لسنة  ٢٠١٦ جنح التجمع الأول، وقد أصدرت محكمة جنح القاهرة الجديدة الجزئية فيها حكمًا ضد جنينة، في ٢٧ يوليو ٢٠١٦، بالحبس سنة مع الشغل وكفالة بمبلغ عشرة آلاف جنيه وتغريمه مبلغ ألف جنيه والمصاريف. ثم قام المدَّعى عليه هشام جنينة بالطعن على الحكم بالاستئناف بتاريخ٣٠ من يوليو ٢٠١٦. ونظرت محكمة جنح مستأنف القاهرة الجديدة الطعن المقدم، وأصدرت حكمها، في ٢٢ ديسمبر ٢٠١٦، حيث قضت بقبول الاستئناف شكلًا، وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف وأمرت بوقف تنفيذ عقوبة الحبس المقضي بها فقط لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخ صدور الحكم بالجلسة، والتأييد فيما عدا ذلك بشأن الغرامة المقضي بها وألزمت المتهم بالمصروفات.

كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أصدر القرار رقم ١٣٢ لسنة ٢٠١٦ بإعفاء المستشار هشام جنينة من منصبه كرئيس للجهاز المركزي للمحاسبات اعتبارًا من يوم ٢٨ مارس ٢٠١٦، بعد توجيه تلك الاتهامات إلى جنينة.

أقام هشام جنينة دعوى أمام القضاء الإداري برقم ٥٢٠٥٢ لسنة ٧٠ قضائية ضد رئيس الجمهورية، للطعن على قرار إقالته من رئاسة المركزي للمحاسبات. وجاء في دعوى جنينة أن قرار إقالته صدر: “بعد حملة إعلامية موجهة من الدولة ضده مبعثها تنفيذ واجبات وظيفية بإخلاص في الرقابة على إنفاق المال العام ومحاربة الفساد المالي والإداري في أجهزة الدولة، بل أن القرار الطعين قد صدر بعد أن أعلن عدد من مذيعي القنوات الفضائية المعروفين بعلاقتهم بالدوائر الرسمية بقرب صدوره في صباح اليوم التالي وعلم بقرار إعفائه من منصبه من وسائل الإعلام وبعد ذلك في الجريدة الرسمية بطريقة تعمدت فيها الجهة الإدارية إهانته شخصيًّا، فضلًا عن إهانة منصبه الرسمي حتى يكون رادعًا لكل من يتصدى لمحاربة الفساد الذي استشرى في مصر”.[16]

لاحقًا، رفضت محكمة القضاء الإداري دعوى جنينة، في فبراير 2017، لزوال شرط المصلحة، وفي فبراير 2019، قضت المحكمة الإدارية العليا برفض طعن جنينة، الذي يطالب فيه بوقف وإلغاء الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإداري، برفض دعوى بطلان إعفائه من منصبه لزوال شرط المصلحة.

وليس مناط اهتمام الورقة مناقشة حكم المحكمة الجنائية أو الإدارية، إنما تهتم الورقة بمناقشة إشكالية كبرى تتعلق بمدى رفض العاملين في الجهاز المركزي للمحاسبات فلسفة إتاحة المعلومات، بدلًا من الحجب والتذرع بسرية كل المعلومات، وهذا ما تتطرق إليه الورقة في الجزء التالي.

– قراءة في شهادات العاملين بالجهاز المركزي للمحاسبات:

شمل حكم محكمة جنح القاهرة الجديدة الجزئية في القضية المرفوعة ضد هشام جنينة ما يزيد على ١٨ شهادة. جُلُّ الشهادات كانت من العاملين بالجهاز المركزي للمحاسبات، باستثناء ٤ شهادات: وهي شهادة رانيا سيد محمد عامر، الصحفية باليوم السابع والتي نشرت التصريح عن المستشار هشام جنينة، سحر طلعت إبراهيم، رئيس قسم الحوادث باليوم السابع، وغادة علي عبد المنعم موسى، وهي مديرة وحدة مركز الحوكمة بوزارة الدولة للتنمية وأحمد مصطفى أحمد البحيري، وهو عضو بهيئة الرقابة الإدارية.

أما باقي الشهادات، فأتت جميعًا من عاملين بالجهاز. ألقت تلك الشهادات الضوء على طريقة تفكير العاملين بالجهاز المركزي للمحاسبات، وتصوراتهم عن الهدف من الجهاز وإطار عمله الرقابي. وأظهرت الشهادات تجاهل مبادئ حرية تداول المعلومات، وقيم الشفافية، ومكافحة الفساد في عمل الجهاز القومي للمحاسبات كجهاز رقابي، إذ ينص الدستور في مادته ٢١٨ على أن: “تلتزم الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بالتنسيق فيما بينها في مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ضمانًا لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية وذلك على النحو الذى ينظمه القانون”. ويعد الجهاز المركزي للمحاسبات واحدًا من الأجهزة الرقابية، وفق الدستور المصري.

وتستعرض الورقة بعضًا من هذه الشهادات التي وردت في أوراق القضية، وجاء في شهادة محمود علي حنفي محمود، مدير إدارة مراقبة حسابات هيئتي التخطيط العمراني والمجتمعات بالجهاز المركزي للمحاسبات، أن: “الجهاز المركزي للمحاسبات غير معني بتحديد الفساد أو تقدير قيمته”. كما قال لطفي محمد حامد مهدي، وكيل الجهاز المركزي للمحاسبات، أن: “التقارير الصادرة من الجهاز غير معنية بتحديد الفساد”، كذلك أكد الشاهد أحمد محمد وفاء أحمد الجندي، مدير عام بالإدارة المركزية الثانية للتفتيش الفني ومراقبة الجودة بالجهاز، بعدم اختصاص الجهاز بتحديد الفساد، وأنهى شهادته بالتأكيد على: “سرية التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للمحاسبات وأن إفشاء ما تضمنه من بيانات أمر محظور”.

فضلًا على نص الدستور فإن على الجهات الرقابية أن تلتزم بمكافحة الفساد، فإن القانون رقم ١٤٤ لسنة ١٩٨٨، المنظم للجهاز المركزي للمحاسبات لا يرد فيه ما يخرج مكافحة الفساد عن اختصاصه، بل على العكس جل المواد المحددة لاختصاص الجهاز _والتي أتت في الباب الثاني من القانون_ تتناول دور هذا الجهاز الرقابي سواء في الرقابة المالية، وفي الرقابة على تنفيذ الخطة وتقويم الأداء الرقابي على استخدام المال العام، وفي اختصاصه المتعلق بالرقابة على القرارات الصادرة في شأن المخالفات المالية، وفي دور الجهاز في الرقابة على الشركات. فعلى سبيل المثال تنص المادة ١١ من القانون على أنه: “يعتبر من المخالفات المالية… كل تصرف خاطئ عن عمد أو إهمال أو تقصير يترتب عليه صرف مبلغ من أموال الدولة بغير حق أو ضياع حق من الحقوق المالية للدولة أو المؤسسات أو الهيئات العامة أو غيرها من الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز أو المساس بمصلحة من مصالحها المالية أو الاقتصادية”.

بينما تطرقت شهادات أخرى للعاملين في الجهاز المركزي للمحاسبات إلى سرية التقارير والمعلومات التي يحتفظ بها الجهاز، منها شهادة أشرف خيرت غنام، مدير إدارة مراقبة حسابات الإنتاج الحربي بالجهاز، حيث “انتقد تصريحات رئيس الجهاز لعدم اختصاص الجهاز بتحديد تكلفة الفساد، ولمخالفة الإجراءات المتبعة والتي تفرض عدم الإفصاح عن نتائج الدراسة إلا للجهة التي طلبتها”، وعلى ذات النهج، جاء محمد حسين صلاح الدين طه، وكيل الجهاز لشئون مكتب رئيس الجهاز، مؤكدًا على: “سرية جميع التقارير والدراسات التي يعدها الجهاز وأنه يحظر على أيٍّ من أعضائه _أي أعضاء الجهاز_ نشر أو تسريب أو إفشاء ما يرد بها من معلومات أو بيانات”، كذلك أكد أحمد محمد رأفت أبو العزم، نائب مدير إدارة مراقبة الحسابات بقطاع البترول بالجهاز، على سرية عمل الجهاز.

وهذا التأكيد على السرية باعتبارها مبدأ أساسيًّا في عمل الجهاز المركزي للمحاسبات لا يتفق مع نصوص الدستور، والتي تكفل حرية تداول المعلومات، ومنها مادة ٢١٧ التي تنص على أن:

“تقدم الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية، تقارير سنوية إلى كل من رئيس الجمهورية، ومجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، فور صدورها. وعلى مجلس النواب أن ينظرها، ويتخذ الإجراء المناسب حيالها فى مدة لا تجاوز أربعة أشهر من تاريخ ورودها إليه، وتنشر هذه التقارير على الرأى العام”. لذلك فإن السرية لا تشمل كل المعلومات التي بحوزة الجهاز المركزي للمحاسبات، وفق ما ينص عليه الدستور.

وأخيرًا، أتت شهادة أحمد مصطفى أحمد البحيري، وهو عضو بجهاز رقابي آخر (هيئة الرقابة الإدارية)، لتبين جانبًا آخر من الأفكار التي تسيطر على العاملين في الأجهزة الرقابية، حيث جاء بها أن تصريحات جنينة حول تكلفة الفساد تظهر: “مناهضة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات لنظام الحكم القائم، واستغلاله منصبه في جمع معلومات والحصول على مستندات من الجهات الخاضعة له حول بعض رموز الدولة وأعضاء الهيئات القضائية وأعضاء الجهات السيادية من خلال الجهاز.. وتعمده إذاعة بعض ما ورد بها بصورةٍ لإثارة الرأي العام عن طريق الإيحاء بفساد مؤسسات الدولة وتقاعس جهات التحقيق عن محاسبة المسؤولين بتلك الجهات”.

وهكذا، تعبر تلك الشهادات عن مدى تغلغل فلسفة الحجب والتذرع بالسرية في الأجهزة الرقابية، بل واعتبار محاولات اﻹفصاح عن جانب من المعلومات أمام الرأي العام بمثابة مؤامرة للإيحاء بفساد مؤسسات الدولة.

استنتاجات:

يعد الإفصاح عن المعلومات التي تملكها الأجهزة الرقابية مسألة شديدة الأهمية، على مستويات عدة منها حماية حق المواطنين في الوصول إلى المعلومات وتعزيز الشفافية حول أداء مؤسسات الدولة وتمكين المجتمع المدني والمواطنين من المساهمة في سياسات مكافحة الفساد. ولكن واقع الأمر أن السلطة الحالية ترى في حرية تداول المعلومات خطرًا على استقرار النظام السياسي، وتعتمد على السرية والحجب ومنع المواطنين من المشاركة في محاسبة المسئولين. ويمكن تلخيص أبرز الاستنتاجات التي خلصت لها الورقة كما يلي:

أولًا: منذ عام 2014، عند إقرار الدستور الحالي، لم تسعَ السلطة التشريعية أو الحكومة إلى مناقشة وإصدار قانون تداول المعلومات، وبالتالي هذا الحق الذي كفله الدستور بقي معطلًا طوال أكثر من خمس سنوات، بل أن المحاولة الوحيدة التي قام بها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لإعداد مسودة قانون تداول المعلومات، ظلت حبيسة أدراج الحكومة حتى وقتنا هذا.

ثانيًا: وفرت مواد الدستور الحالي كذلك حماية لاستقلالية الأجهزة الرقابية وكفلت في الحد الأدنى عرض تقاريرها السنوية المقدمة إلى البرلمان والرئاسة والحكومة على الرأي العام، ولكن أيًّا من ذلك لم يحدث، بل أن البرلمان لم يعلن في أي وقت طوال الأعوام الخمسة الأخيرة عن مناقشة هذه التقارير، هذا من جانب. أما من جانب آخر، فلم يتم تعديل القوانين الخاصة بالأجهزة الرقابية لكي تواكب مواد الدستور المصري.

ثالثًا: تعد محاولة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة في الإفصاح عن بعض المعلومات خطوة مهمة لفهم أبعاد أهمية الحق في المعلومات، إذ سعى جنينة إلى الحديث عن آليات عمل الجهاز المركزي للمحاسبات وتقاعس جهات التحقيق عن التعاون معه، وكذلك رفض بعض الجهات حصوله على المعلومات الخاصة بميزانيتها، وأيضًا تناول وقائع متعددة لمظاهر الفساد داخل الجهاز الإداري للدولة. ساهمت هذه التجربة في زيادة النقاش العام حول أداء الجهاز الإداري للدولة، خاصة وأن الدولة كانت تروج لاتخاذ خطوات متعلقة بالإصلاح الاقتصادي. ولكن، بقي العاملون في الجهاز المركزي للمحاسبات أسرى فلسفة التعتيم والحجب والسرية، ما جعل الجهاز المركزي للمحاسبات، بعد إقالة جنينة، لا يصدر أي بيانات صحفية حول عمله. وبالتالي، تأثر النقاش العام حول مكافحة الفساد في الجهاز الإداري للدولة.

رابعًا: إن معركة الدفاع عن حرية تداول المعلومات لا يمكن أن يخوضها فرد أو جهة بمفردها، وهناك حاجة ماسة إلى تنظيم جهود جماعية تضم نقابات ومنظمات مجتمع مدني وأكاديميين ومسئولين ونوابًا بالبرلمان وأحزابًا سياسية، للضغط من أجل إقرار قانون تداول المعلومات، والتزام الدولة وأجهزتها بالإفصاح عن المعلومات.

خاتمة وتوصيات:

تسعى مؤسسات حرية الفكر والتعبير من خلال إصدار هذه الورقة إلى فتح النقاش العام مجددًا حول قضايا حرية تداول المعلومات، وتشجيع الفئات المهتمة على الالتفات إلى أهمية إقرار تشريعات تحمي حق المواطنين في المعلومات. وركزت الورقة على الجهاز المركزي للمحاسبات وخاصة قضية رئيسه السابق هشام جنينة كنموذج على واقع حرية تداول المعلومات في مصر، وبشكل يساعد على فهم أوجه القصور في ضمان حرية تداول المعلومات على المستويين التشريعي والتنفيذي. وفي النهاية، تقدم مؤسسة حرية الفكر والتعبير بعض التوصيات إلى الجهات المعنية:

  • على مجلس النواب إصدار قانون تداول المعلومات، والالتزام في بنوده بالمعايير الدولية ذات الصلة.
  • على مجلس النواب تعديل قانون رقم ١٤٤ لسنة ١٩٨٨ بشأن الجهاز المركزي للمحاسبات، بحيث يتم تضمين آليات الإفصاح عن المعلومات للمواطنين، ونشر التقرير السنوي للجهاز التزامًا بنصوص الدستور وتحديد نطاق الاستثناءات الواردة على قاعدة الإفصاح.
  • يجب أن تضع الأجهزة الرقابية خطة لنشر ثقافة حرية تداول المعلومات بين موظفيها.
[1] عماد مبارك وآخرون، حرية تداول المعلومات دراسة قانونية، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 2013، تاريخ آخر زيارة: 30 مايو 2018، رابط: https://bit.ly/1tzoPSn
[2] لمعلومات أكثر عن مبادئ وأُطر حرية تداول المعلومات دوليًّا وإقليميًّا ومحليًّا راجع المصدر السابق.
[3] Access to Information: an instrumental right for empowerment, Article 19, july 2007
[4] راجع المادة ٦٨ من الدستور المصري، رابط: https://dostour.eg/
[5]  ينص الدستور المصري على الأجهزة الرقابية والهيئات المستقلة ونظم تشكيلها في المواد: ٢١٥، ٢١٦، ٢١٧، ٢١٨، ٢١٩، ٢٢٠، ٢٢١، رابط: https://dostour.eg/
[6] راجع المادة ٢٢٠ من الدستور المصري.
[7] راجع المادة ٢٢١ من الدستور المصري.
[8] راجع المادة ٢١٩ من الدستور المصري.
[9] راجع موقع الجهاز المركزي للمحاسبات، رابط: http://asa.gov.eg/Page.aspx?id=67
[10] راجع المادة ٢١٧ من الدستور المصري.
[11] راجع المادة  ٢١٨ من الدستور المصري.
[12] راجع المادة  ٢١٦ من الدستور المصري.
[13] وائل سعد، "جنينة": لدينا ملفات لـ"أصحاب نفوذ كبير"، الوطن، 11 مايو 2015، تاريخ آخر زيارة: 10 يونيو 2019، رابط: https://bit.ly/2I6sGVu
[14] مدى مصر، مدى مصر ينشر تقرير الفساد الذي أطاح بهشام جنينة، 15 يونيو 2016، تاريخ آخر زيارة: 10 يونيو 2019، رابط: https://bit.ly/2XC8O1J
[15] محمد عبد السلام، حدود جهود مكافحة الفساد في مصر، صدى، 13 أكتوبر 2016، تاريخ آخر زيارة: 10 يونيو 2019، رابط: https://bit.ly/2ZhSR0V
[16]  حكم محكمة القضاء الإداري الدائرة الأولى في الدعوى رقم ٥٢٠٥٢ لسنة ٧٠ قضائيًّا، ص ٢.

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.