ورقة من مؤسسة حرية الفكر والتعبير عن “القيود المفروضة على حرية الإعلام” مقدمة للحوار الوطني

تاريخ النشر : الثلاثاء, 26 سبتمبر, 2023
Facebook
Twitter

مقدمة

يعاني مجال الإعلام في مصر من سيطرة الدولة على مدار عقود طويلة، سواء من خلال تشريعات وقوانين استحدثت وجرى التعديل على بعض منها، أو من خلال سياسات عامة انتهجت في التعامل مع مسألة الإعلام، أو عبر الملكية المباشرة لأجهزة أمنية لعديد من الوسائل الإعلامية. وقد شهدت سوق الإعلام في مصر انتعاشة غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك والسنوات القليلة التالية لثورة يناير 2011، فإبان هذه الفترة ضخ عدد من رجال الأعمال مبالغ كبيرة في مجال الإعلام، سواء لتأسيس قنوات فضائية أو صحف ورقية أو مواقع صحفية، وهو ما ساهم في وجود تنافسية في المجال خاصة مع تنوع ملكية وسائل الإعلام.

تغيرت هذه الخريطة منذ عام 2014، وبعد الانفتاح الذي شهده الإعلام، أعادت السلطات المصرية السيطرة على الوسائل الصحفية والإعلامية عبر أدوات وأساليب عدة، منها السياساتي ومنها التشريعي.

 

الهيمنة على الإعلام

في عام 2017 شنت السلطات حملة موسعة لحجب عدد من المواقع الصحفية والإعلامية المستقلة والمعارضة، وقد وصلت آخر قائمة لحجب المواقع أعدتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى 558 موقعًا على الأقل. وفي عام 2018، أحكمت السلطات المصرية قبضتها على مجال الإعلام عبر حزمة من التشريعات فرضت سيطرة الدولة بشكل مباشر وغير مباشر على المنافذ الصحفية والإعلامية، من أبرزها: قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، وقانونا الهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام، وقانون جرائم تقنية المعلومات، الذي توسعت السلطات في تطبيقه ضد الصحفيين والإعلاميين خلال الفترة الأخيرة، ونتج منه القبض على وحبس صحفيين وإعلاميين، وأخيرًا الامتناع عن إصدار قانون لتداول المعلومات حتى الآن والتعنت في تقنين أوضاع المواقع الصحفية المستقلة.

أدت هذه الممارسات إلى تنضيب وإفقار سوق الإعلام المصرية، سواء من ناحية المواطنين المتلقين أو من ناحية الإعلاميين والصحفيين، فقد أفقدت المواطنين الثقة بالإعلام ومصداقيته وتنوعه، عوضًا عن الرقابة على ومنع العمل الصحفي والعقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر، والتي ساهمت في فرض رقابة ذاتية وجعلت سوق الإعلام طاردة للصحفيين المعارضين والمستقلين وكذلك للاستثمارات المحتملة. ففي 2021 احتلّت مصر المرتبة 168 في قائمة تضم 180 دولة شملها تصنيف منظمة “مراسلون بلا حدود” لحرية الصحافة، وهي منظمة دولية غير حكومية هدفها حماية حرية الصحافة. وعليه، فقد تراجعت مصر في هذا الترتيب 8 درجات عن ترتيبها لعام 2017 الذي احتلت فيه المرتبة الـ160 في القائمة نفسها.

وفي حين تتجه الحكومة المصرية نحو سياسات تخارج اقتصادي من بعض الشركات، والسماح لمستثمرين أجانب ومصريين بالدخول في مجال الاقتصاد المصري، بات من المهم والمجدي أن تنتهج السلطة المصرية سياسات مماثلة فيما يتعلق بسوق الإعلام المصرية، خاصة بعد طرح الحكومة المصرية في الآونة الأخيرة مسودة ما وصفته بـ”وثيقة ملكية الدولة” التي تعلن من خلالها التخارج من بعض الأنشطة الاقتصادية في البلاد، وتوسيع دور القطاع الخاص في الناتج الإجمالي القومي.

 

بحوث المشاهدة

تعد بحوث المشاهدة واحدة من الأدوات الأساسية في سوق الدعاية والإعلان، حيث تمكِّن المعلِن من قياس أثر منتجه في السوق، وهو ما يؤثر بشكل كبير في قراراته الاقتصادية في ضخ مزيد من الأموال أو الامتناع تجاه منتج محدد، كما تؤثر في اختيار المعلن تجاه أي قناة تلفزيونية تحظى بأعلى مشاهدة ما يؤثر في وصول المنتج إلى قطاع أوسع من الجمهور. وقد عطل المجلس الأعلى للإعلام هذه الأداة منذ منتصف 2017، بعد إيقاف عمل شركة إيبسوس لأبحاث الأسواق، وهي شركة فرنسية كانت تعمل في مصر منذ عام 2006، وتقدم خدمات استشارات إلى المعلنين لا تنشر نتائجها.

ومنذ عام 2016، بات على شركات بحوث المشاهدة الحصول على تراخيص مزاولة عمل من المجلس الأعلى للإعلام. وتعاني سوق الإعلام في مصر من فراغ فيما يتعلق ببحوث المشاهدة، وعلى الرغم من تصريحات المجلس الأعلى في 2017 بالاتفاق على ضرورة إنشاء شركة وطنية لبحوث المشاهدة واستطلاع الرأي، واستقرار اللجنة على عدد من الشروط والمعايير لعمل الشركات الخاصة في السوق المصرية في 2019 – فإن هذه الإجراءات المعيبة لم يتم العمل بها. وبقيت سوق الإعلام بلا شركات تعمل في بحوث المشاهدة.

وفي واقع الأمر فإن التطور الذي فرضته التكنولوجيا خلق علاقة مباشرة بين منتج السلعة أو الخدمة والمتلقي دون الحاجة بالضرورة إلى وساطة الدولة وأدواتها في عملية الإنتاج، وبالتالي يصبح فرض شروط على هذا القطاع من السوق لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي غير مجدٍ أو فعال، كما تضر بالاستثمارات المحتملة في هذا القطاع، حيث تمكِّن التكنولوجيا الحديثة المعلنين من قياس ردود أفعال المتلقين عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، إضافة إلى إمكانية استخدام جهاز قياس المشاهدة “People Meter”، الذي يحدد عدد المشاهدين وفترات المشاهدة للقنوات والبرامج بعد تركيبه على أجهزة استقبال البث التلفزيوني، وعلى الرغم من حظر السلطات دخول الجهاز مصر لاعتبارات الأمن القومى فإنها قد تدخل مهربة، إضافة إلى برمجية “Media Sell”، الذي يتم تثبيته على التابلت أو الهواتف الذكية لرصد نسب المشاهدة من أي مكان خارج المنزل.

ومن هنا نجد أن المجلس الأعلى للإعلام في حاجة إلى سد الفراغ في هذا القطاع من السوق عبر السماح للشركات الخاصة بالدخول مرة أخرى في هذا المجال، بحيث يقتصر دوره على متابعة مدى التزام الشركات الخاصة بالمعايير المنهجية التي تضعها لعملها. وهو الأمر الذي يجعل من صلاحيات المجلس المخولة له بالقانون محل مراجعة، خاصة المادة 70 من القانون رقم 180 لسنة 2018، التي تعطي صلاحيات واسعة للمجلس الأعلى للإعلام وتحديدًا البند الثالث عشر الخاص بترخيص عمل شركات بحوث المشاهدة في مصر.

 

الحجب كعقوبة موسعة

في 2017 بدأت السلطات المصرية في اتباع سياسة حجب المواقع في إطار السيطرة على المساحات التي فتحها الإنترنت والتي جرت محاولات عدة لفرض رقابة شاملة عليها، ومنذ ذلك الحين رصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير أنماطًا وتأثيرات عدة للحجب، وقد وصل عدد المواقع المحجوبة إلى 558 موقعًا على اﻷقل، منها ما يزيد على 120 موقعًا صحفيًّا محجوبًا، ولا يمكن النظر فقط إلى حجب المواقع الصحفية باعتباره اعتداءً على حرية الصحافة أو على حق المواطنين في الحصول على وتداول المعلومات، أو تصفح الإنترنت بحرية، إذ إن البعد الاقتصادي لمسألة الحجب شديد الأهمية، خاصة في ظل استهداف الحجب مواقع إخبارية ناشئة وفي طور التكون.

وبخلاف تأثير الحجب في كم وشكل المحتوى العربي المتاح على الإنترنت، والذي يتصف بالندرة مقارنة بمحتوى لغات أخرى، فإنه أثر كذلك في نظام ربح وعمل عديد من المؤسسات الصحفية، التي اتجهت إلى الإنترنت تفاديًا للكلفة الاقتصادية للصحف الورقية، خاصة بعد توالي الأزمات الاقتصادية المحلية والعالمية، والحجب كعقوبة موسعة أضعف فرص نجاح واستمرار عمل هذه المواقع خاصة في ظل اعتمادها على عدد المشاهدات والقدرة على الوصول إلى عدد أوسع من الجمهور، وهو الأمر الذي يوفر فرص تمويل لهذه المواقع، أو الدخول في شراكات مع مستثمرين وغيرها من الفرص الضائعة. ويصعب على المستثمرين عمومًا ضخ أموال في سوق غير مستقرة، قد تعطل فيها قرارات سيادية بالحجب الموقع الذي يستثمر فيه.

وفي هذا السياق، مارس المجلس الأعلى للإعلام دورًا محوريًّا في عملية الحجب، حيث صدرت عنه قرارات بحجب مواقع ومواد صحفية، وفق الصلاحيات التي يحوزها من خلال قانون تنظيم الصحافة والإعلام. تجدر الإشارة إلى أن الأغلبية العظمى من المواقع المحجوبة لم يعلن بشكل رسمي عن جهة حجبها، ولاحقًا سمح قانون جرائم تقنية المعلومات من خلال المادة 7 بحجب المواقع الإلكترونية، التي قد تشكل تهديدًا للأمن القومي من قبل النيابة العامة/ جهة التحقيق المختصة، هذا بالإضافة إلى منح جهات التحري والضبط (الشرطة) سلطة إقرار الحجب في حالة الاستعجال _دون تحديد حالات الاستعجال_ عن طريق إبلاغ الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات. مع إضافة إجراء قضائي لاحق على الحجب، من خلال عرض أمر الحجب على محكمة مختصة خلال 24 ساعة.

نحن إذن أمام تعدد في الجهات المسؤولة عن الحجب، وكذلك تنوع في أنماط الحجب، في ظل تجهيل متعمد للمسؤولية عن أغلب هذه القرارات، وتخلق هذه السياسة مناخًا طاردًا للاستثمارات، كما تعطل فرص نمو وتطور مشاريع صحفية وإعلامية، إضافة إلى أنها تضر بممارسي المهنة، الذين قد يضطرون إلى فقد وظائفهم أو التسريح منها، خاصة بعد انسحاب عدد من هذه المواقع من السوق أو تقليص عمالتها، إضافة إلى بيئة العمل غير الآمنة والتي تمارس فيها الجهة المخولة بتنظيم المهنة وهي المجلس الأعلى، عقوبات موسعة على الوسائل الصحفية مثل الحجب.

 

تقنين أوضاع المواقع الإلكترونية

تطبيقًا لقانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018، أصبح للمجلس الأعلى حق إصدار تراخيص الوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية وتقنين أوضاعها، وقد بدأ المجلس في تلقي طلبات المواقع منذ إصدار القانون، إلا أن تأخر صدور اللائحة التنفيذية للقانون ولائحة التراخيص قد عطل هذه العملية، والتي صدرت بعد عام ونصف تقريبًا من القانون بقرار رقم 26 لسنة 2020. وطبقًا للمادة الثانية من قانون تنظيم الصحافة والتي منحت اختصاص إصدار اللائحة لمجلس الوزراء، فإن أقصى مدة لإصدارها خلال 3 شهور فقط، وفي الفترة بين إصدار القانون واللائحة عانت المواقع الإلكترونية من مصاعب عدة، فقد اتسمت هذه الفترة بالتخبط في محاولة تفسير القانون من حيث نطاق تطبيقه واشتراطاته والعقوبات الواردة فيه.

ومنذ ذلك الحين تباطأ المجلس بشكل متعمد في إصدار تراخيص بعض المواقع الصحفية المستقلة والحزبية والمعارضة، ما عرَّض بعضها للملاحقة القانونية، حيث وجهت نيابة استئناف القاهرة إلى رئيس تحرير “مدى مصر” لينا عطا الله اتهامات، من بينها إدارة موقع غير مرخص له في سبتمبر 2022، وذلك على الرغم من تقدم “مدى مصر” منذ 2018 بأوراقه إلى المجلس اﻷعلى لتنظيم الإعلام. في هذا السياق اضطر موقع مصر العربية إلى الاحتجاب بعد أكثر من عام ونصف من طلب التقنين الذي لم يرد المجلس عليه.

وفي العموم، اتسمت إدارة عملية توفيق أوضاع المواقع الصحفية بالعشوائية والانتقائية وذلك فيما يخص تفاعل المجلس مع طلبات الترخيص المقدمة إليه، رغم استيفائها كافة شروط الترخيص، ويمكن القول إن المواقع التي تقدم محتوًى معارضًا أو يحمل انتقادات للسياسات القائمة، تُتجاهل طلبات الترخيص الخاصة بها، ويترك موقفها القانوني معلقًا، بحيث تبقى مهددة بالملاحقات الأمنية لعدم الحصول على رخصة مباشرة العمل، وذلك على الرغم من تسليم المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام شهادات اكتمال الترخيص إلى أغلب المواقع الصحفية القومية وعدد من المواقع الصحفية الخاصة.

ومن هنا فإنه على المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام سرعة البت في طلبات الترخيص المقدمة من كافة المواقع الصحفية، خاصة المواقع التي تقدمت منذ صدور القانون في ٢٠١٨ ولم تتلقَ أي رد بالقبول أو الرفض حتى الآن، إذ يعرِّض تباطؤ المجلس في تقنين أوضاع بعض المواقع لخطر الملاحقة الأمنية، خاصة بعد اقتحام قوات الأمن بعض مقار هذه المواقع.

 

في يدٍ واحدة .. عن ملكية الوسائل الإعلامية

ويهيمن بشكل رئيسي على قطاع البث الشركات والمؤسسات المملوكة للدولة والأجهزة الأمنية (الهيئة الوطنية للإعلام، شركة راديو النيل)، والمجموعة المتحدة. ولا يزال هناك عدد قليل من وسائل الإعلام المملوكة لرجال الأعمال وأغلبهم من المؤيدين للسلطة الحالية.

تضرر المجال الصحفي والإعلامي بشدة من تلك التوجهات الجديدة، التي أفقرت المحتوى الإعلامي ووجهته في مسارات محددة تنقل صوتًا وروايةً واحدة، وبخلاف امتلاك المجموعة المتحدة للخدمات الإعلامية أغلب شبكات التليفزيون الخاصة، فإنها تمتلك كذلك وكالة إعلانات، ودعاية، كما تسيطر على مجال الإنتاج الدرامي.

وعلى السلطات المصرية أن تتوقف عن الاحتكارات في مجال الإعلام، وأن تفتح سوق الإعلام والدعاية والترفيه للقطاع الخاص، بحيث تضمن وجود تنوع في الأصوات والقضايا، التي تثري الإعلام، وتعيد بناء الثقة مع المواطنين، وتحسن من وضع حرية الصحافة والإعلام في مصر.

 

حبس الصحفيين

استهدفت السلطات المصرية بمختلف أجهزتها الصحفيين والإعلاميين لقيامهم بعملهم الصحفي، وتعرض عشرات الصحفيين للحبس الاحتياطي على ذمة اتهامات تتعلق بالنشر خلال السنوات السابقة ولا يزال 10 صحفيين على الأقل قيد الحبس الاحتياطي حتى الآن.

وقد شهدت حالات القبض على صحفيين والمنع من التغطية ارتفاعًا كبيرًا خلال أزمة انتشار وباء كورونا العالمي، وتساهم هذه العراقيل المفروضة على العمل الصحفي والإعلامي في الإضرار بالعاملين في المجال، وزيادة الصعوبات على العمل في الصحافة، إذ امتلأت البيئة التشريعية المصرية بنصوص تجيز ملاحقة الصحفيين والإعلاميين باتهامات في قضايا نشر أخبار كاذبة.

 

خاتمة وتوصيات

  • الإفراج عن كافة الصحفيين المحبوسين احتياطيًّا.
  • إلغاء قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم (175) لسنة 2018، خاصة مع إمكانية مواجهة الجرائم التي تتم عبر الإنترنت بإدخال بعض التعديلات على قانون العقوبات.
  • تعديل المادة (73) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 181 لسنة 2018، على النحو الذي يضمن تشكيل المجلس الأعلى للإعلام بعيدًا عن سلطة رئيس الجمهورية، على أن يتم تشكيله من خلال مجلس النواب.
  • إلغاء المادة (6) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام، التي تنص على ضرورة الحصول على ترخيص من قبل المجلس الأعلى للإعلام لإنشاء المواقع الإلكترونية، على أن تنشأ المواقع الإلكترونية بمجرد الإخطار.
  • وقف الممارسات الأمنية والتنفيذية التعسفية تجاه المواقع الصحفية المستقلة، بما يشمل رفع الحجب عنها.
  • وقف الرقابة والتدخلات الأمنية في عمل وسائل الإعلام والصحف والمواقع الصحفية.

تابعونا على :

آخر التحديثات

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.