تتناول مؤسسة حرية الفكر والتعبير من خلال هذه الورقة موقفها حول قرار الأعلى للإعلام بالتحقيق مع منتجي مسلسل الطاووس، وتحاول المؤسسة أن تستعرض الجوانب القانونية المتعلقة بالرقابة على الأعمال الدرامية وذلك في ضوء القانون المنظِّم لعمل المجلس الأعلى للإعلام.
تمهيد
أعلن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام فتح تحقيق عاجل مع منتجي مسلسل الطاووس ومسؤولي القنوات التي شرعت في عرضه _قناتين فضائيتين مصريتين_ بعد عرض ست حلقات منه فقط ضمن موسم شهر رمضان. وجاء ذلك في بيان أصدره الأعلى للإعلام في 18 إبريل الجاري. وأكد المجلس أن سبب التحقيق يرجع إلى استخدام المسلسل لغةً لا تتفق مع الأكواد الفنية والأخلاقية التي أصدرها المجلس، والتي تؤكد على ضرورة إعلاء قيم الأسر المصرية وعدم المساس بها أو الحط من شأنها أو إظهارها في صورة تسيء إليها، وهو الأمر الذي خالفه المسلسل، وتلقَّى بشأنه الأعلى للإعلام عدة شكاوى من المواطنين.[1]
في أقل من ثلاثة أيام، كان المجلس قد أجرى التحقيق، وقرر بعد ذلك حفظ الشكاوى المقدمة ضد المسلسل،[2] في ظل توقع بعض المراقبين أن يتم وقف عرض المسلسل، ولكن رغم أن المجلس الأعلى للإعلام لم يصدر عقوبات أو غرامات ضد المسلسل أو منتجيه، فإن الخطوة التي اتخذها تشكل ضغطًا على حرية الإبداع.
ويعرض مسلسل الطاووس الذي يقوم بأدوار البطولة فيه الفنان جمال سليمان والفنانة سهر الصايغ، قضية اغتصاب فتاة من قِبَل مجموعة من الشبان وسعيها إلى كشف هذه الجريمة ومقاضاة المجرمين، وهي المسألة التي رأى بعض النقاد فيها تشابهًا مع قضية الفيرمونت، ومحاولة صناع العمل تسليط الضوء على قضايا نسوية.
يمثل الجدل الذي أثاره قرار المجلس في المجال العام، بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي، وحملات دعم المسلسل من فنانين[3] وسينمائيين[4] وجمهور، حالة صحية وإيجابية، لكنه يكشف أيضًا عن الحاجة إلى إلى أن لا يتم اختزال النقاش العام عن المسلسل فقط، بل أن يتسع إلى تناول دور المجلس الأعلى للإعلام وإشكالية ممارسته الرقابة على الأعمال الدرامية، التي تخضع في الأصل لإشراف جهاز الرقابة على المصنفات الفنية.
وبناءً على ذلك، وباستقراء النصوص القانونية التي يتأسس عليها عمل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، فإن قانونية قرار فتح التحقيق ضد المسلسل هي محل شك كبير من الأساس، وهو ما يفتح المجال لرصد الفارق بين السلطة المخول للمجلس ممارستها طبقًا للقانون، وبين ما يمارسه المجلس بالفعل، وهو الأمر الذي من شأنه إظهار السلطات الواسعة التي يمتلكها المجلس دون صفة ويستخدمها لاستحداث معايير رقابية جديدة، يهدف من ورائها إلى فرض مزيد من السيطرة على سوق الإنتاج الدرامي.
أولًا: هل استحدث الأعلى للإعلام صلاحيات جديدة؟
قبل إنتاج أي عمل فني، لا بد من الحصول على الموافقات من الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية (السمعية والبصرية)، وهي الهيئة الوحيدة المخول لها قانونيًّا الرقابة على الأعمال الإبداعية، وطبقًا للقانون رقم 430 لسنة 1955، تخضع الأعمال الإبداعية في كل مراحل الإنتاج لرقابة المصنفات الفنية السابقة للعرض العام على الجمهور، بدءًا من الموافقة على الفكرة، ومرورًا بتأدية العمل الفني، ووصولًا إلى عرض العمل.
وقد واجه الجهاز تاريخيًّا مشاكل تتعلق بالقدرة العددية لأفراده في سد خانة الرقابة على الإنتاج الكثيف، خاصة في موسم دراما رمضان، والتي لا تمكنهم بالضرورة من مشاهدة الأعمال كاملة للتأكد من ملاءمتها للمعايير الرقابية، غير أنه يحق لهم سحب ترخيص العمل طبقًا للقانون.
“يُعمل بأحكام اللائحة المرافقة، في شأن المخالفات التي تقع من المؤسسات الصحفية والمؤسسات الصحفية القومية، والمؤسسات الإعلامية والمؤسسات الإعلامية العامة، والوسائل الإعلامية والوسائل الإعلامية العامة، والمواقع الإلكترونية والصحف…”
المادة الأولى من لائحة جزاءات المجلس الأعلى رقم 16 لسنة 2019
أنشئ المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وفقًا للقانون رقم 92 الصادر في ديسمبر 2016، وجاء التشكيل الأول له بقرار جمهوري في إبريل 2017، وكان الهدف من ورائه إنشاء قواعد ومعايير ضابطة للأداء الصحفي والإعلامي، والعمل على ضمان تطبيق معايير تنظيم الصحافة والإعلام.
ولم تكن الرقابة على الأعمال الفنية والإبداعية ضمن مهامها وذلك وفقًا لمواد القانون المنشئ له.
وفي العام 2018، صدر قانون جديد بشأن تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، موضحًا الجهات الخاضعة لأحكام القانون في مادته الأولى، وهي الجهات والمؤسسات والوسائل الصحفية والإعلامية والمواقع الإلكترونية والصحف القومية منها والعامة. ولا تمتد سلطة المجلس الأعلى للإعلام إلى توقيع جزاءات على الأعمال الدرامية، وفق ما أكدته لائحة الجزاءات رقم 16 لسنة 2019، والتي تنظِّم سلطة المجلس في توجيه جزاءات قانونية.
كما نص قانون نقابة الإعلاميين، في مادته الأولى على أنه “لا يعد نشاطًا إعلاميًّا الأعمال التمثيلية السينمائية أو التليفزيونية أو المسرحية وكذا الأعمال الترفيهية”. وقد عرَّف القانون النشاط الإعلامي على أنه “كل نشاط يقوم على بث الأخبار أو المعلومات أو الأفكار أو الآراء أو الحقائق من مصدرها عبر الوسائل المسموعة والمرئية بقصد إبلاغ وتبصير الرأي العام بها”. وهو ما يجعل تدخلات الأعلى للإعلام في محتوى الأعمال الدرامية تعديًا في غير اختصاصاته طبقًا للقانون.
ولم تبدأ الخلافات داخل المجلس إلا بعد إنشاء لجنة الدراما، التي تختص بالأعمال الدرامية في 2018 حيث توسع في أعماله الرقابية بشكل تنفيذي دون سند قانوني، حيث ظل القانون المنظم لعمل المجلس الأعلى للإعلام يقصر نشاطه على الإنتاج الإعلامي والصحفي فقط، وبذلك تصبح فكرة إنشاء لجنة الدراما غير قانونية من الأساس. وهو ما أحدث تضاربًا في العمل وتداخلًا في الاختصاصات بين المجلس ولجنة الدراما من ناحية، وجهاز الرقابة على المصنفات من الناحية الأخرى، حيث أدت هذه التضاربات إلى خلافات داخلية بين المجلس ولجنة الدراما، بسبب عدم وضوح صلاحيات اللجنة والسلطات الممنوحة لها، وهو ما همَّش من دورها وأنتج موجة من الاستقالات داخل اللجنة، وصلت إلى عجز المجلس الأعلى عن إسناد رئاسة اللجنة إلى أيٍّ من المبدعين، وذلك قبل تولي المخرج محمد فاضل رئاسة اللجنة.[5]
لذا فإن تدخل المجلس الأعلى في دراما رمضان غير قانوني، سواء بفرض عقوبات على الصناع أو إحالتهم إلى التحقيق كما حدث مع مسلسل الطاووس، كما يشكل هذا التدخل تعديًا على صلاحيات جهاز الرقابة على المصنفات، والذي أجاز العرض العام للمسلسل، بعد حصوله على كافة التصاريح اللازمة. وينطلق المجلس في تدخله في الدراما من كونه يراقب عمل الوسائل الإعلامية ذاتها، بما يعرض عليها من أعمال متنوعة، وهو ما يعد خللًا في تفسير القانون، وهو ما استخدمه الأعلى للإعلام سابقًا في توقيع جزاءات على قنوات تليفزيونية بسبب تجاوزات الأعمال الدرامية كما يصفها.
وتؤكد مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى أن مثل هذه الممارسات غير القانونية، تنتهك الدستور والقانون، وتعصف بعمل الهيئات المختلفة، وتخلق مزيدًا من التضييق على حرية الإبداع الفني والأدبي المكفولة دستوريًّا، كما تزيد من تهديد واقع ومستقبل صناعة الدراما في مصر، إذ إن تعدد جهات الرقابة وعشوائية عملها، تخلق مناخًا مهدِدًا لشركات الإنتاج الخاصة، مناخًا رقابيًّا تفرض فيه الجهات المعنية عقوبات غير قانونية على صناع الأعمال الدرامية استنادًا إلى معايير أخلاقية.
ثانيًا: الأسر المصرية.. أكواد أخلاقية جديدة:
أصدر المجلس الأعلى للإعلام في بداية عمله ستة أنماط للمخالفات في الأعمال الدرامية وهي: “التجاوزات اللفظية، والشتائم والسباب، والاعتماد على الإيحاءات الجنسية الفجة، وتعمد عرض المشاهد المنافية للآداب، والتحرش الجنسي، وعرض مسلسلات تحوي دروسًا مجانية في كيفية تعاطي المخدرات والانضمام إلى داعش، والإسقاطات السياسية، والأخطاء التاريخية”. وذلك وفقًا لتقريره الأول حول تجاوزات الأعمال الدرامية في رمضان، وهو التقرير الذي اقتصر على رصد المخالفات فقط.[6]
وعقب تشكيل لجنة الدراما وبدء عملها توسعت اللجنة في الممارسات التي بدأ المجلس الأعلى في تطبيقها، حيث حرصت اللجنة على تطويق الأعمال الدرامية، بإنشاء 5 لجان رصد مختلفة، تتولى تدقيق كل مشهد درامي يعرض على التلفزيون، وفي مقابل 6 أنماط اعتمد عليها المجلس الأعلى في 2017 لرصد المخالفات، اعتمدت اللجنة على 19 نمطًا آخر.
ومن الملاحظ أن التجاوزات التي يعمل المجلس على توثيقها لا تعتمد على وثيقة قانونية أو لائحة داخلية، حيث تنبنى تلك الأنماط تبعًا لرؤية القائمين على الرصد تبعًا للسياق، حيث ركزت اللجنة خطابها في بدء عملها على التجاوزات التي من شأنها “تشويه صورة مصر في الخارج”. وبعد ذلك غلب على التوجه إبراز تضحيات رجال الجيش والشرطة، وهو الاتجاه المتصاعد داخل الدراما منذ 2016، وفيما يبدو أن التوجه القادم سيكون حماية قيم الأسر المصرية[7]. ومصطلح قيم الأسرة المصرية عُرف على نطاق واسع خلال العام الماضي في الاتهامات التي تم توجيهها إلى صانعات المحتوى في موقع تيك توك.
وهنا تلفت مؤسسة حرية الفكر والتعبير النظر إلى استحداث المجلس الأعلى اتهامات ومعايير رقابية جديدة كلما استدعت الحاجة ذلك، سعيًا إلى التضييق على صُنَّاع الدراما، وفي إنتاج أعمال درامية دعائية للنظام. وتجدر الإشارة كذلك إلى خطورة الآلية التي يتبعها المجلس الأعلى بشأن رصد تجاوزات الدراما، فبخلاف متابعة لجان الرصد المخالفات، خصص[8] المجلس خطًّا تليفونيًّا لاستقبال شكاوى وبلاغات المواطنين على التجاوزات، وقد حث المجلس المواطنين على الإبلاغ عمَّا يجدونه مخالفًا، وهو ما يسهم في تنامي الحس الرقابي على الأعمال الفنية لدى المواطنين.
خاتمة
من خلال استقراء قوانين إنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وكذلك القوانين التي تنظم دوره، نجد أن فتح تحقيق مع منتجي المسلسل هو إجراء غير قانوني طبقًا لنص القانون المنظم لعمل المجلس، ومن ذلك المنطلق تشدد مؤسسة حرية الفكر والتعبير على أن الممارسات غير القانونية للمجلس من شأنها الإضرار بمستقبل صناعة الدراما في مصر، إذ تنعكس على موسم الدراما كمًّا وكيفًا، وتؤدي إلى عزوف المنتجين عن المغامرة بإنتاج أعمال درامية يحالون على خلفيتها إلى التحقيق، ومن هنا تدعو مؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى وقف تدخلات المجلس الأعلى لتنظيم الأعمال في الدراما وإيقاف عمل اللجان المنبثقة منه في هذا الصدد.
[1] الصفحة الرسمية للمجلس الأعلى للإعلام على موقع الفيسبوك. 18 أبريل 2021. منشور بعنوان: "الأعلى للإعلام يجري تحقيقًا عاجلًا مع المسؤولين عن مسلسل “الطاووس”". shorturl.at/iDET8 [2] الصفحة الرسمية للمجلس الأعلى للإعلام على موقع الفيسبوك. 18 أبريل 2021. منشور بعنوان: " قرر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام حفظ الشكاوى المقدمة ضد مسلسل "الطاووس" بعد التحقيق مع المسؤولين عن إنتاجه، حيث تبين الحصول على الموافقات اللازمة من الرقابة على المصنفات الفنية، ولم يتم منع عرض المسلسل سواء قبل إجراء التحقيقات أو بعدها". shorturl.at/xHIX0 [3] مصرواي، بعد تحويل صناعه للتحقيق.. كيف تضامنت منى زكي مع مسلسل "الطاووس"؟ 19 أبريل 2021، آخر زيارة 22 أبريل 2021. shorturl.at/fAHRT [4] البوابة نيوز، الفنانون يتضامنون مع صناع مسلسل "الطاووس": يدافع عن قضايا المرأة، 20 أبريل 2021، آخر زيارة 22 أبريل 2021. shorturl.at/ipKLN [5] سارة رمضان، رقباء الشاشة الصغيرة.. قيام وانهيار لجنة الدراما، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، نشر في 4 ديسمبر 2018، تاريخ آخر زيارة: 22 إبريل 2021، رابط: https://bit.ly/3tMlcw8 [6] بوابة الأهرام. 7 يونيو 2017 . "ننشر تقرير المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام حول تجاوزات مسلسلات وبرامج رمضان". https://2u.pw/1D8Xr [7] الأهرام، 12 إبريل 2021 "لجنة الدراما بالأعلى للإعلام تتابع المسلسلات الدرامية في شهر رمضان". https://bit.ly/3n68FkH [8] المجلس الأعلى للإعلام . مايو 2018 "دراما الأعلى للإعلام تستقبل شكاوى المشاهدين على مسلسلات رمضان على الواتس"، https://bit.ly/3gDxAuT