قراءة في قانون الصحافة والإعلام .. الجزء الثاني

Date : الإثنين, 26 سبتمبر, 2016
Facebook
Twitter

للإطلاع على الجزء الأول 

 

مصطفى شوقي
مسئول برنامج حرية الصحافة والإعلام

 

ترى مؤسسة حرية الفكر والتعبير أن إقرار القانون الموحَّد للصحافة والإعلام -بعد مناقشة البرلمان وتصديقه- لا يمكن التعويل عليه بشكل كامل لضبط مناخ وبيئة العمل الصحفي والإعلامي بشقيه الخاص والمملوك للدولة، وانما يجب أن يكون خطوة ضمن استراتيجية أوسع تستهدف بناء منظومة إعلامية تقوم بدورها في نقل الحقيقة لجمهور الناس بحرية وشفافية ومهنية ودون قيود تعسفية (تشريعية أو من خلال الممارسة) قد تعيقها عن القيام بدورها أو تهدد أمن وسلامة المشتغلين بها.

ذلك إلى جانب عملية منهجية ومدروسة لإعادة هيكلة وتطوير منظومة إعلام الخدمة العامة الذي أصبح بفعل عقود من هيمنة الأنظمة السياسية المتعاقبة عليه، بوقًا للسلطة الحاكمة مهمته الرئيسية الترويج لسياسات القائمين على إدارة أمور البلاد وتشويه معارضيهم. ذلك فضلًا عن الخسائر الهائلة التي تتعرض لها منظومة الاعلام المملوك للدولة منذ سنوات.

بالإضافة إلى ذلك فإنه لا يمكن لأي تشريع مهما كان أن يضبط منظومة ما دون وجود إرادة سياسية حقيقية لضبط وتطوير هذه المنظومة، وهو ما يستدعي إعادة النظر في الممارسات المعادية لحرية الصحافة والإعلام التي تُعبِّر عن ثقافة راسخة منذ عقود في أغلب مؤسسات الدولة ترى في الحصول على المعلومات ونشرها وتداولها خطر يهددها وتتعامل مع الإعلام بتوجس وعنف شديدين، وهي الممارسة التي جعلت من الأعوام الثلاثة الماضية الأسوأ على صعيد حرية الصحافة والاعلام في مصر.

ومن هنا ارتأت المؤسسة أن تقدم قراءتها لقانون الصحافة والاعلام الموحد من خلال قراءة المشهد الصحفي والإعلامي بالكامل بهدف استيضاح رؤية عامة حول ما تعانيه حرية الصحافة والاعلام اليوم من أزمات وعقبات وتحديات؛ لتضع المؤسسة بين أيدي البرلمان المصري -المنتظر مناقشته وتصديقه على القانون- وكافة المهتمين بحرية الصحافة والإعلام في مصر دراسة حالة لأوضاع الصحافة والإعلام في مصر وكيف يمكن للتشريع أن يساهم في ضبط تلك الأوضاع. إلى جانب خطوات أخرى تؤكد المؤسسة أنها تحتاج لإرادة سياسية ومجتمعية واعية وحاسمة لتلبيتها.

تنشر المؤسسة تلك القراءة في سلسة من عدة أجزاء نسعى جاهدين أن يكتمل نشرها وفتح النقاش حولها قبل مناقشة البرلمان للقانون.

 

تنظيم حقيقي أم إعادة انتاج للمشهد

كان أحد الأهداف الأصيلة من وراء المطالبات بإقرار القوانين المنظِّمة للشأن الصحفي والإعلامي هو تحقيق أعلى قدر من الاستقلالية في إدارة المنظومة الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة بعد أن ظلت لعقود أسيرة سيطرة السلطة التنفيذية عبر وزارة الإعلام، وكذلك اتحاد الإذاعة والتلفزيون والمجلس الأعلى للصحافة اللذين عمَّق طريقة تشكيلهما وصلاحياتهما مستوى تدخلات السلطة السياسية/التنفيذية في توجيه المنصات الإعلامية للترويج لسياستها وتشويه المعارضين والمختلفين معها. مما تسبب في غياب إعلام حُر يعبِّر عن التعددية والتنوع. وهو ما أوجب أن تكون الهيئات الجديدة المنظمة للشأن الصحفي والإعلامي تمتلك المقومات التي تحقق لها استقلالها عبر تمتعها بسلطات متنوعة؛ إدارية وتنفيذية وتشريعية ورقابية وعقابية.

ولكن قبل مناقشة ما إذا كان القانون الجديد استطاع توفير شروط ومعايير الاستقلالية بشكل حقيقي للهيئات التي نصَّ الدستور على تأسيسها، يجدر الإشارة إلى أن هناك أمورًا لم تنل القدر الكافي من المناقشة بين أبناء الجماعة الصحفية والإعلامية وكذلك المهتمين بمستقبل الصحافة والإعلام في مصر، ذلك رغم الضرورة الملحة للوصول إلى رؤية مجتمعية مشتركة حولها قبل تطبيق القانون الجديد.

 

المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة

لم تجرِ أي نقاشات جدِّية برعاية السلطة التنفيذية/السياسية أو بدون رعايتها يُمكن من خلالها استنتاج آليات عمل فعّالة للإجابة على سؤال؛ هل مصر بعد ثورة يناير 2011م، والتغيُّرات السياسية المهمة التي لحقتها بحاجة إلى جهاز إعلامي بهذه الضخامة تتبعه عشرات المؤسسات تحت ملكية ورعاية الدولة؟ .. هل هذه الحاجة تقتضي أن يظل هذا الجهاز بمختلف مؤسساته بنفس شكله ودوره وفلسفته وهياكله وموازنته الخ؟.. الحقيقة أن السؤال الأول كان محل جدل ونقاش كبير بعد ثورة يناير مباشرة وذهبت أصوات كثيرة لصالح كل رأي دون أن تتدخل أي جهة لتنظيم النقاش والخروج برؤية توافقية حول ملكية الدولة لوسائل صحفية وإعلامية -محلية بالأساس- ، واليوم نحن أمام قانون فلسفته الرئيسية قائمة على ضرورة الحفاظ على المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة بشكلها الحالي وهياكلها ودورها مع إجراء بعض التعديل الذي يمنحها قدر أعلى من الاستقلالية والقدرة على تغطية نفقاتها. رغم كل ما تعانيه من فشل وما يلحق بها من خسارة ترهق ميزانية الدولة سنويًا. يُذكر أنه كانت هناك محاولة قادها رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب بتكليفه أشرف العربي، وزير التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري بملف إعادة هيكلة “ماسبيرو” تضمنت خطة لبيع أصوله -الغير مستغلة- لتسديد مديونيات الجهاز وإعادة ضبط الهيكل الإداري بالتخلص من العمالة الفائضة على حاجة الجهاز، إلا أن هذا المشروع لم يكتمل نظرًا لوقوف العاملين بماسبيرو ضد خطط إعادة الهيكلة باعتبارها تستهدف الاستيلاء على أصول “ماسبيرو” وتسريح المشتغلين فيه دون رؤية أشمل لمستقبل الجهاز ودوره. وهو أمر صحيح لدرجة بعيدة، فاللجنة التي شكلها “العربي” لإدارة هذا الملف لم تُعلِن أية رؤى أو خطط لمستقبل الجهاز والدور المنوط به!!!.

إذًا؛ فالمهمة التي تقع على عاتق البرلمان قبل مناقشة بنود القانون والخوض في تفاصيله هو مناقشة مستقبل الإعلام الملوك للدولة وخطط إعادة هيكلته بما يجيب على الأسئلة التالية؛ هل سيوقف إقرار القانون نزيف الخسائر الذي تحققه الصحف والجرائد القومية واتحاد الإذاعة والتلفزيون يوميًا؟، هل يحل القانون أزمة العمالة الزائدة والهياكل الإدارية البيروقراطية المتضخمة التي يدير مفاصلها موظفون وصلوا لأماكنهم دون النظر لمعايير الكفاءة والقدرة على جعل هذه المؤسسات تُدار بمهنية وكفاءة بما يمكِّنها من المنافسة والنجاح والبقاء؟، وهل يجب الإبقاء على كل هذه التركة من المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة؟ هل ينجح القانون في استعادة إعلام للخدمة العامة، للناس ومشاكلهم وهمومهم واراءهم واختلافاتهم وتنوعاتهم، أم يُكرٍّس إعلام لجمهورية الصوت الواحد. هذه مناقشات مجتمعية تخص الجمهور ويجب أن يقوم بها ممثلوه المنتخبون وقواه الحيَّة وأهمها وعلى رأسها أصحاب الشأن والمصلحة الأصليين عبر نقاباتهم وروابطهم وجمعياتهم. ولا يمكن لنا أن نختصر ونحصُر ذلك النقاش داخل أحد الهيئات التي ينظمها القانون وأن تُترك لها الصلاحيات كاملة لوضع الرؤية العامة لمستقبل الإعلام المملوك للدولة، وإنما دور الهيئة يأتي لتحديد الآليات والأدوات لتنفيذ الرؤية الاستراتيجية المستقبلية التي يتوافق عليها المجتمع عبر نقاشاته الحيَّة التي تديرها السلطات المنتخبة والجماعات الممثلة لأصحاب الشأن والمصلحة الرئيسيين من جمهور الإعلاميين والصحفيين.

تجدر الإشارة إلى أن القانون الجديد في مادته الثالثة نصَّ  “.. وعلى من يقوم بالعمل في المجال الصحفي أو الإعلامي في تاريخ العمل بهذا القانون أن يوفق أوضاعه طبقاً لأحكام القانون المرافق ولائحته التنفيذية ، وذلك خلال عام من تاريخ العمل بهذه اللائحة، ووفقاً للقواعد والإجراءات التي يصدر بها قرار من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام”. إذًا فقد أعطى القانون فترة انتقالية لتوفيق الأوضاع على القانون عام واحد، من يقود تلك الفترة الانتقالية بالنسبة للوسائل الإعلامية والصحفية المملوكة للدولة؟.. الإجابة هي الهيئة الوطنية للصحافة المسئولة عن إدارة شئون الصحافة القومية والهيئة الوطنية للإعلام المنوطة بإدارة شئون وسائل الإعلام المملوكة للدولة. وينص القانون الجديد -أيضًا- في المادتين (221،222) بباب الأحكام الانتقالية على أن تحل الهيئة الوطنية للصحافة محل المجلس الأعلى للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام محل اتحاد الإذاعة والتلفزيون وذلك فيما لكل منهما من حقوق وما عليهما من التزامات، وينقل الى كل هيئة العاملون بهذا المجلس/الاتحاد بحالتهم واوضاعهم الوظيفية. ويستمر العمل بالنظم واللوائح السارية في هذا المجلس لحين صدور اللوائح المنظمة لعمل الهيئة.  وبهذا يدير نفس الأشخاص نفس الجهاز الإداري في مرحلة انتقالية من المفترض أن تخلق واقعًا إعلاميًا جديدًا للإعلام المملوك للدولة، أهم ملامحه تحرير هذه المؤسسات من علاقتها بالدولة والنظام السياسي وجعلها صوت للناس ينقل لهم وعنهم بحرية. ويكتمل المشهد إذا علمنا أنه بعد إلغاء وزارة الإعلام يتولى “ماسبيرو” إدارة شئونه عبر رئيس للاتحاد  يقوم بتعيينه السلطة التنفيذية -رئيس مجلس الوزراء- دون انعقاد لهيئاته اللائحية بشكل منتظم انتظارًا لإنشاء الهيئة الوطنية للإعلام، فكيف لجهاز يُعاني لهذه الدرجة من غياب الرؤية والاستقرار أن يدير عملية انتقال ناجحة. ثم كيف له أن يستوعب الفلسفة الجديدة من أجل إعادة هيكلة الإعلام لصالح الناس وهو من تربى طوال فترات عمله على دور إعلام الدولة في خدمة السلطة السياسية الحاكمة ودعم سياسات وتوجهات السلطة التنفيذية. كذلك الحال إذا نظرنا  للتعديلات التي تقدَّم بها 324 نائبًا بالبرلمان من بينهم الصحفي مصطفى بكري، على قانون الصحافة 96 لسنة 1996 والتي تستهدف إعطاء صلاحيات لرئيس الجمهورية لتشكيل مجلس أعلى جديد للصحافة بسبب ما تعانيه الصحف القومية من أزمات وخسارة مالية كبيرة بسبب انتهاء فترة ولاية رؤساء تحرير الصحف القومية الحاليين، وبالتالي نحن أمام إدارة للمرحلة الانتقالية اختيرت بشكل مباشر من السلطة السياسية والتنفيذية وهو ما يدعم أن فترة العام سوف تكون فترة “تسيير الأعمال وتوفيق الأوضاع” وليس ثورة على المنهج البائس في إدارة وتشغيل المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة.

 

تمويل المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة

قضية كان من الأهمية بمكان أن تحظى بقدر أوفر من النقاش؛ هي مسألة اعتماد الوسائل الإعلامية والصحفية المملوكة للدولة على ما يُخصَّص لها من موازنة الدولة، فبصرف النظر عن كون ذلك يُفقد الهيئات الجديدة أحد أهم شروط ومعايير الاستقلالية -وهو ما سنناقش أثره لاحقًا- إلا أن القانون الجديد نصَّ في مواده (145، 177، 203) على أن موارد كلًا من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام تتكون من “1- ما تخصصه لها الدولة من مبالغ في الموازنة العامة. ..” ولم يضع القانون أي رؤية منهجية لاستقلال المعاملات المالية لهذه الوسائل بالكامل عن الدولة، ولم يُرس أو يرسخ ثقافة مفادها أن موازنة الدولة التي يتحمل أعباءها بالأساس الشرائح الأكثر فقرًا في المجتمع يجب أن يُرفع عن كاهلها أية أعباء مالية توجَّه لدعم منظومة إعلامية كل دورها خدمة السلطة السياسية/التنفيذية، وتحقق خسائر فادحة سنويًا، وأن الطريق لنجاحها واستقلالها لتلبية دورها يعتمد فيما يعتمد على قدرة الهيئات الجديدة على تمويل نفسها عبر آليات التمويل الذاتي المتعارف عليها عالميًا من خلال اشتراكات الصحف ومنح التراخيص ومقابل التدريبات ودراسات قياس الأثر الخ من الأدوات. إلا أن غياب المناقشة المجتمعية الحقيقية لتلك القضايا في مرحلة إعداد القانون جعل القانون يعتمد نفس الفلسفة القديمة التي تُرسِّخ اعتمادية تلك المؤسسات على الدولة ومن ثم خضوعها لتوجيهات القائمين على إدارة الأمور.

إن القضية لا تكمُن في مجرد إدارة ناجحة قادرة على انتشال تلك المؤسسات من خسائرها، ولكن نقلة نوعية في طبيعة هذا الاعتماد الذي يجب أن يتقلص تدريجيًا وعبر خطة زمنية لتكون كل مؤسسة قادرة على تمويل نفسها وتحقيق الأرباح وإلا فلا مبرر من اسمرارها سوى الرغبة السياسية في إبقاء ذلك الفشل وتلك التبعية لحماية مصالح بعينها.

نحن هنا لا نطالب بإغلاق هذه المؤسسات وتسريح العاملين فيها، ولكننا نطالب بفهم واعِ لطبيعة الخريطة الإعلامية المملوكة للدولة وتحديد ما الذي يستحق الدعم والتأييد والإبقاء عليه مع خطة زمنية لتنميته وتطويره وتطوير مهارات العاملين فيه مع منحة الاستقلالية المطلوبة وإجباره أن يخضع لجدول زمني يستطيع مع نهايته الاعتماد على تمويله الذاتي دون الحاجة لمخصصات من موازنة الدولة، وأما الباقي فاستمراره إهدار للمال العام وتنفيذ لأجندات ومصالح سياسية تفرض بقاءها.

وكنتيجة طبيعية لغياب الرؤية المجتمعية والإرادة السياسية حول كيفية التصدي لتلك التركة الثقيلة من ملكية الدولة لوسائل صحفية وإعلامية؛ كُتب الدستور ومن بعده مشروع القانون الموحّد بفلسفة مفادها الإبقاء علي نفس الأطر الحالية مع تغيير العناوين. حيث جاء الدستور المصري (2014م) بسابقة دستورية وقانونية لم تشهدها -على الأقل- أهم التجارب الدولية والإقليمية في بناء الهيئات المستقلة المنظمة للشأن الصحفي والإعلامي، حيث وجدنا فصلًا تعسفيًا بين تنظيم الشأن الصحفي المملوك للدولة (المسئول عنه الهيئة الوطنية للصحافة) وبين تنظيم شئون الصحافة الخاصة (المسئول عمها المجلس الأعلى للإعلام) وهو نفس الحال بالنسبة لوسائل الإعلام المملوكة للدولة حيث يتولى تنظيمها وإدارة شئونها (الهيئة الوطنية للإعلام) بينما المسئول عن وسائل الإعلام الخاصة (المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام). هذا الفصل -الغير منطقي- لن تظهر مشاكله الحقيقية إلا بعد الممارسة، وإن كانت المؤسسة ترى أن هذا التوجُّه يدعم الرؤية التي تؤكد رغبة القائمين على إدارة الأمور في الإبقاء على نفس التركة من الوسائل الإعلامية والصحفية المملوكة للدولة دون الاقتراب منها. فالقانون لم يحدد كيفية التعامل مع القضايا المشتركة التي لا يمكن التعاطي معها على أرضية الفصل بين تلك الوسائل بحسب طبيعة ملكيتها، ورغم أن لجنة الخمسين لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية فطنت لضرورة أن يكون هناك تشريع موحَّد لتنظيم شئون الإعلام والصحافة ككل، إلا أنها أنتجت تشريع واحد بروح تشريعات متعددة متراصة. فالعقلية التي حكمت اللجنة كانت مبنية على تقسيم الوسائل الإعلامية والصحفية تبعًا لطبيعة ملكيتها وليس لشيء آخر. وهو ما جعل القانون حبيس تنظيم الحقوق النقابية وأقل رحابة بشأن صون الحريات. فوجدنا قسم خاص بالهيئة الوطنية للصحافة يُعيد انتاج مجلس أعلى للصحافة بنفس الصيغة والصلاحيات مع تغيير العنوان، وهيئة وطنية للإعلام تُعيد إنتاج “ماسبيرو” آخر بنفس الصيغة والدور والصلاحيات. وهو ما سيتضح أكثر لاحقًا.

 

حرية تداول المعلومات

حتى تتمكن الجماعة الصحفية والإعلامية وكافة المهتمين والمعنيين بمستقبل الصحافة والإعلام في مصر من إجراء المناقشات الحيَّة والجدية بهدف التوافق حول رؤية مشتركة لتطوير وهيكلة منظومة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء والرقمي المملوك للدولة يجب مبدئيًا أن تُتاح لهم المعلومات اللازمة عن أحوال اتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) والمجلس الأعلى للصحافة، حيث لا توجد معلومات متوافرة للجمهور عن عمل ماسبيرو ولا هياكله الداخلية ونظمه المالية والإدارية والأوضاع الوظيفية للعاملين فيه، وعملية اتخاذ القرار بداخله، وكذلك حصر وافي ومدقق للهيئات التابعة له وكافة أصوله وممتلكاته، وعدد العاملين ومرتباتهم الخ، كذلك الحال بالنسبة للمجلس الأعلى للصحافة. فغياب المعلومات الرسمية الصحيحة عن كل هذا من شأنه أن يجعل المناقشة غير ذات جدوى وبالتالي كل ما ينتج عنها من حلول واقتراحات. على عكس عدد مهم من النماذج الدولية التي نجحت في تأسيس هيئات مستقلة لإدارة الشأن الصحفي والإعلامي فمعلوماتها متوفرة للجمهور ويتم إصدار تقارير دورية عن أدائها. إلا أنه يبدو أن ازدحام الأجندة التشريعية للبرلمان خلال هذه الدورة قد يمنع خروج قانون حرية تداول المعلومات للنور.

إلى جانب ذلك فإن قانون حرية تداول المعلومات يُنتظر أن يكون الأداة الأهم لأي صحفي أو إعلامي في ممارسته لمهام عمله اليومية، تحديدًا لأن اللوائح والقوانين المصرية صُكَّت بفلسفة عدائية تجاه الحق في تداول المعلومة واتاحتها، وتُعد هذه هي العقبة الأهم التي تواجه كل صحفي صباح كل يوم عمل، كيف سيحصل على المعلومة، وهل سوف تتاح له بما يتوافق ومعايير الإتاحة الدولية أم بهدف تفريغ المعلومة من قيمتها ومضمونها؟. ورغم أن الجماعة الصحفية والإعلامية ومؤسساتها النقابية وروابطها وجمعياتها وملاك الصحف ووسائل الإعلام هم رأس الحربة في معركة الدفاع عن إقرار قانون يضمن إتاحة المعلومة والحق في تلقيها ونقلها للآخرين طبقًا لما نصَّت عليه المادة (65) من الدستور المصري (2014م)، إلا أن هذه المعركة لم تكن على أجندة أولويات الجماعة الصحفية والإعلامية خلال الفترة الماضية، حيث انصب كل الاهتمام في الضغط من أجل إقرار القانون الموحَّد للصحافة والإعلام. على الرغم من أن قانون الصحافة والإعلام لن يمكن تفعيله بشكل حقيقي وفعلي على مستوى الممارسة المهنية اليومية بدون قانون جيد، يتفق مع المعايير الدولية لتوفير واتاحة المعلومات والحق في تداولها.  وتود مؤسسة حرية الفكر والتعبير التأكيد على أن إقرار قانون يحمي ويؤمن الحق في الوصول للمعلومات وتداولها هو شرط ضروري لضمان ممارسة صحفية وإعلامية شفافة وحرة ومهنية وممكنة. وأن جانب مهم من حقوق الصحفيين والإعلاميين المنصوص عليها في قانون الصحافة والإعلام سوف يظل مُعلَّقًا حتى يتمكَّن الصحفي والإعلامي من معرفة المعلومات الرسمية من مصادرها، حيث تنص المواد (7،8،9) من الفصل الثاني تحت عنوان “حقوق الصحفيين والإعلاميين” من مشروع القانون الموحَّد للصحافة والإعلام علي حق الصحفي أو الإعلامي في نشر المعلومات والبيانات والأخبار التي لا يحظر القانون إفشاءها، وتحظر فرض أي قيود تعوق حرية تداول المعلومات أو  تحول دون تكافؤ الفرص بين مختلف الصحف المطبوعة والإلكترونية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة ، في حقها في الحصول على المعلومات. وكذلك حظر كل ما من شأنه إعاقة حق المواطن فى تلقى الرسالة المعرفية و الإعلامية. كما أكدت على حق الصحفي أو الإعلامي في تلقى إجابة على ما يستفسر عنه من معلومات وبيانات وأخبار وذلك ما لم تكن هذه المعلومات والبيانات أو الأخبار سرية بطبيعتها أو طبقاً للقانون.

وبالرغم من أن المواد الثلاث اجتهدت في حماية حق الصحفي أو الإعلامي في الحصول على البيانات ونشرها والاستفسار عنها من مصادرها الرسمية إلا أن غياب قانون جيد يحمي وينظم الحق في الوصول للبيانات واتاحتها وضوابط نشرها وتداولها يجعل من هذه المواد حبرًا على ورق، فكما أسلفنا هناك حالة من العداء لدى أغلب مؤسسات وهيئات الدولة لفكرة الإفصاح عن المعلومات ونشرها بشفافية للجمهور، حتى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أكد في أكثر من كلمة في عدة مناسبات على عدم رغبته في الافصاح عن مزيد من المعلومات عن قضية ما خوفًا ممن أطلق عليهم “أهل الشر”. إلى جانب أن هناك ترسانة تشريعية في مصر شديدة التعقيد والتشعب ففي ظل غياب القانون يعاني الصحفي أو الإعلامي في كل مرة يحاول فيها الحصول على المعلومات التي لا ترغب السلطات في افشاءها؛ يفشل وقد يتعرَّض للانتهاك، الذي يصل للحبس، وهو ما يتعرَّض له الباحث والصحفي اسماعيل الاسكندراني حاليًا ومن قبله القبض علي والتحقيق مع حسام بهجت الصحفي الاستقصائي ومؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، واللذين حاولا عدم الوقوف أمام رفض الإدارة المعنية بالإفشاء عن المعلومات محل التحقيقات التي يعملون عليها وقرروا أن يبحثوا عن مصادر أخرى للمعلومات، وهي ما أدت بهم لرواية مغايرة للأحداث عن ما تحاول أن تروجه السلطات، فعوقبا مباشرة على ذلك. والجدير بالذكر أن بداخل هذا التعقيد وذلك التشعب للبنية التشريعية المصرية تجد حقوقًا للحصول على المعلومات داخل جهة ما ونشرها تُمنح بواسطة قانون هي ملغية بفعل قانون آخر، أو لوائح تنفيذية مطولة الهدف منها تقييد الحق من خلال زيادة العقبات أمام عملية الوصول للمعلومات أو عرقلتها تمامًا، أو اتاحتها بشكل يفرّغها من مضمونها بعدم الالتزام بمعايير الإتاحة. أو اتاحتها منقوصة.

إلى جانب ذلك فإن غياب القانون جعل عملية التضييق والتقييد على حق الصحفي في الوصول للمعلومات والبيانات تبدأ من القانون نفسه حيث تنص الفقرة الأخيرة من المادة الثامنة على أن “…يحظر كل ما من شأنه إعاقة حق المواطن في تلقى الرسالة المعرفية والإعلامية، وذلك كله دون إخلال بمقتضيات الأمن القومي، والدفاع عن الوطن”. دون تعريف واضح لما هو المقصود بمصطلحات عامة مثل “مقتضيات الأمن القومي، الدفاع عن الوطن” وهي مشكلة عامة في التشريعات المصرية، حيث عمومية الألفاظ والمصطلحات التي تحتمل أكثر من تأويل حسب رغبة القائم على تطبيقها. فعلى سبيل المثال هناك عشرات القضايا خلال السنوات الأخيرة أصدرت النيابة العامة أو محكمة الموضوع قرارات بحظر النشر فيها، كان في العديد من هذه القرارات شبهة تسيُّس واضحة، ولم يتفق الكثير من المراقبين والمحللين والمتابعين على وجود أي أهمية في حظر النشر في مثل تلك القضايا، مما دعا مؤسسة حرية الفكر والتعبير وغيرها من منظمات المجتمع المدني والمهتمين لفتح نقاش جاد حول ضوابط قرارات حظر النشر، والتي كان أهمها خلال الشهور الماضية حظر النشر في قضية اقتحام قوة أمنية تابعة لوزارة الداخلية حرم نقابة الصحفيين المصرية والقبض على صحفيين اثنين من داخله في الأول من مايو الماضي. إذًا من يملك تحديد ما إذا كانت البيانات أو المعلومات التي وصل إليها أو قام بنشرها الصحفي أو الإعلامي تسبب إخلالًا بالأمن القومي أو تهديدًا للوطن؟!!!.

كذلك أكدت المادة السابعة على حق الصحفي أو الإعلامي في نشر المعلومات والبيانات والأخبار؛ إلا ما يحظر القانون إفشاءها. وفي المادة التاسعة حفظت حق الصحفي أو الإعلامي في تلقي إجابة عن ما يستفسر عنه من معلومات وبيانات وأخبار إلا إذا كانت هذه المعلومات والبيانات أو الأخبار سرية بطبيعتها أو طبقاً للقانون، وكنتيجة طبيعية لغياب تشريع موحَّد يحمي وينظم الحق في الحصول علي المعلومات وتداولها يصبح الصحفي فريسة لقائمة طويلة من القوانين واللوائح والقرارات التي تُنظِّم عملية الحصول على المعلومة داخل كل هيئة وكل مؤسسة حكومية.

 

سرية المصادر 

لا يجب ونحن نتحدث عن الحق في الحصول على المعلومات وتداولها ودور ذلك في استراتيجية إعادة هيكلة وتطوير منظومة الإعلام والصحافة المملوكة للدولة أن نغفل أن أحد القضايا النقاشية في الصحافة والإعلام الحديث وخصوصًا بعد تطور وسائل التواصل والاتصال التكنولوجي وصحافة الإنترنت وصحافة المواطن وهي مسألة “سرية المصادر”، وهي مسألة تحمل بالفعل وجهين؛ الأول ما نصَّت عليه الفقرة الأخيرة من المادة السادسة بعدم جواز إجبار الصحفي أو الإعلامي على إفشاء مصادر معلوماته، وهو أمر محمود من أجل حماية الصحفي في تأديته لدوره في نقل الحقيقة لجمهور الناس. ولكن الوجه الثاني الذي نتحدث عنه هو ثقافة “سرية المصادر” في الحقل الصحفي والإعلامي، تلك الثقافة التي مفادها محاولة كل صحفي أو إعلامي الانفراد بالمصدر وحجب المعلومة عن زملاؤه حتى يظل متميزًا الخ من التفاصيل، وهي في الحقيقة أحد أشكال التميُّز الوهمية والمُضِّرة، فهو يستغل عدم عدالة الفرص وعدم تكافؤها في عملية الحصول على المعلومة وهو ما سبَّبه غياب قانون حرية تداول المعلومات فعليًا، وبالتالي فمصالح البعض من أبناء المجتمع الصحفي والإعلامي تعمل على أن يبقى الوضع على ما هو عليه. وتقف أمام أي محاولة لتصدي الصحفيين والإعلاميين لضرورة إصدار قانون يحمي وينظم الحق في حرية الوصول للمعلومات وتداولها. وترى المؤسسة أن الشعار الصحيح الذي يجب أن تتبناه كل الشرائح المؤمنة بحرية الصحافة والإعلام هو أن المصادر جميعها حق لجميع الصحفيين والإعلاميين وليست حكر على البعض لاعتبارات ما معينة. وأن الوصول لذلك لن يتأتى إلا في ظل قانون جيد ومتوافق مع المعايير الدولية يحكي وينظم الحق في الوصول للمعلومات ونشرها وتداولها.