للاطلاع على التقرير بصيغة PDF من هنا
أعد التقرير:
سارة رمضان، الباحثة بمؤسسة حرية الفكر والتعبير
حرر التقرير:
محمد ناجي، الباحث بمؤسسة حرية الفكر والتعبير
***
منهجية التقرير
التقرير هو الخامس ضمن إصدارات برنامج الضمير والذاكرة والتي تتناول الأحداث المتعاقبة للثورة بوصفها فترة صراع. ويتناول هذا التقرير واقعة قطع الاتصالات أثناء أحداث ثورة 25 يناير. غير أن نطاق البحث في التقرير يتعدى الأيام الخمس التي أخفيت فيها مصر من خريطة الإنترنت، إذا أن قطع الاتصالات وامتداداته يحيلنا إلى قبل الحدث بسنوات وبعده بسنوات وحتى كتابة هذه السطور. على خلاف تقارير البرنامج السابقة والتي نعتمد فيها بشكل أساسي على أوراق التحقيقات الرسمية والقضية محل التقرير، فقد اعتمدنا هنا فقط على حيثيات حكم القضية رقم 21855 لسنة 65 قضائية، والمعروفة بقطع الاتصالات، إذ تعذر الحصول على الأوراق كاملة لإعادة تداول القضية مرة أخرى في المحاكم، وكذلك الصعوبة البالغة التي يواجهها أي راغب في الحصول على معلومات. اعتمد أيضًا التقرير على شهادات موثقة حصلت عليها حرية الفكر من ضحايا وذويهم أٌضيروا بشكل مباشر من قرار القطع، كذلك بيانات وقرارات رسمية وغير رسمية أصدرت في الفترات المذكورة، كما اعتمدنا على وثائق جرى تسريبها أثناء اقتحام مقرات أمن الدولة تحمل أرقام صادر ووارد ولم تنفها الجهات المعنية منذ ظهورها في مارس 2011، بالإضافة إلى المنصات الإخبارية المختلفة المحلية والعالمية والتي يستوثق فريق العمل من صحتها، وأخيرًا ما نشر في هذه الفترة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وارتأينا أنه ذا أهمية في فهم سياق الفترة محل التقرير.
مقدمة
في 24 مارس 2018، أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمها في قضية قطع الاتصالات، حيث ألغت الغرامة المفروضة على الرئيس الأسبق مبارك ورئيس وزرائه ووزير داخليته، واعتبرت المحكمة قرار “قطع الاتصالات” حماية للصالح العام والأمن القومي.
قبل ذلك بسبعة أعوام، كانت دائرة الاستثمار بمحكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار حمدي ياسين، نائب رئيس مجلس الدولة، كانت قد بدأت نظر الدعوى رقم 21855 لسنة 65 قضائية والتي أقامها المركز المصري للحق في السكن مختصمًا فيها اثنا عشر مسئولًا في نظام مبارك، بالإضافة إلى شركات المحمول الثلاث والشركات مقدمة خدمة الإنترنت، مطالبًا بإلزام مبارك والعادلي بدفع تعويض مادي لقيامهما بقطع خدمة الاتصالات والإنترنت عن المواطنين أثناء الثورة دون سابق إنذار، ما تسبب في أضرار كبيرة.
في 26 مارس 2011، نُظرت أولى جلسات الدعوى. وأصدر ياسين حكمه بعد شهرين في 28 مايو 2011، بإلزام كل من مبارك ونظيف وحبيب العادلي متضامنين بدفع مبلغ 540 مليون جنيه من مالهم الخاص إلى خزانة الدولة، عن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد القومي، نتيجة قطع الاتصالات خلال الأيام الأولى للثورة، على أن يتم توزيعها فيما بينهم بإلزام العادلي بدفع 300 مليون جنيه، ومبارك 200 مليون، ونظيف 40 مليون.
الفرق بين حكم الدرجة الأولى والحكم الثاني الصادر منذ أيام ليس -فقط- فرقًا بين حكم انتصر لحق البشر في الاتصال وما يرتبط بهذا الحق من حقوق أخرى وحكم آخر برأ المتهمين وأخلى مسئوليتهم عن جريمة أودت بحياة الكثيرين بحجة حماية الأمن القومي. إنما هو مفارقة لا تكاد تخلو منها قضية تتناولها تقارير ملف الضمير والذاكرة بمؤسسة حرية الفكر والتعبير، هو في الأصل محاولة لتسييد رواية رسمية تهدف إلى تبرير الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وطمس الحقائق حول ما جرى في مقابل محاولات أخرى لتقديم روايات بديلة، ترفع أصوات مواطنين وشباب ومحتجين وضحايا عايشوا الأحداث وتأثروا بممارسات السلطة.
يعد هذا التقرير -كما هو الحال بالنسبة لباقي تقارير ملف الضمير والذاكرة- إحدى المحاولات تلك.. محاولات خلق الرواية البديلة، محاولات النظر للأمور من زوايا تريد السلطة غلقها. نحاول في هذا التقرير أن نعيد للأذهان وقائع قطع الاتصالات إبان ثورة 25 يناير 2011، وهو الحدث الذي جاء كومضة سريعة بين سلسلة من الأحداث والتطورات المتلاحقة. وبعد سبع سنوات على إندلاع الثورة، لا يزال الكثير من أحداثها بعيد عن ذاكرتنا، لذا يحاول هذا التقرير أن يجمع تفاصيل تلك القضية وتأثيرها على حقوق الإنسان وعلى رأسها الحق في الحياة.
يصدر هذا التقرير في وقت أصبحت فيه الدولة أكثر شراسة فيما يتعلق بحقوق المواطنين الرقمية وحقهم في الاتصال بالانترنت، حيث حجبت الحكومة منذ 24 مايو 2017 إلى يومنا هذا 500 موقعًا على الأقل. بالإضافة إلى شروعها في سن قانون يتعلق بما يسمى “الجريمة الإلكترونية” يفرض قيودًا مكبلة لاستخدام الانترنت. فضلًا عن الحملات الأمنية التي تُشن على حق المواطنين في التعبير عن آرائهم بحرية خلال وسائط التواصل الإجتماعي. لذا، يأتي هذا التقرير في وقت تتزايد فيه أهمية رفع الصوت في مواجهة محاولة الدولة المستديمة لغلق نوافذ الفضاء الإليكتروني والسيطرة التامة عليه.
ينقسم التقرير إلى أربعة فصول رئيسية؛ يتناول الأول منها رواية ما جرى من وقائع تتعلق بقطع الاتصالات التليفونية وقطع الانترنت عن كافة أنحاء مصر إبان ثورة يناير، بينما يتناول الفصل الثاني الأثر الذي أحدثه هذا القطع مع إفراد مساحة لرصد الأثر على الحق في الحياة. ويعرض الفصل الثالث مدى قانونية قطع الاتصالات واستخدام حجة الأمن القومي كذريعة لهذا الفعل. في الوقت الذي يتناول الفصل الرابع والأخير دور المسئولين الرئيسيين عن تلك الجريمة.
الفصل الأول.. حكاية قطع الاتصالات
ماذا حدث؟!
بعد ساعات من إذاعة خبر نجاح الثورة التونسية في إقصاء “بن علي” من الحكم وفراره من البلاد، انتشرت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر للتظاهر في 25 يناير 2011 بالتزامن مع عيد الشرطة المصري. انتشرت الدعوات بين قطاعات مختلفة وتبنتها أحزاب وحركات سياسية. ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تنظيم التحركات ونشر المعلومات قبل موعد التظاهر. خرج الآلاف من المتظاهرين، في الموعد المحدد مسبقًا، من أماكن مختلفة في القاهرة واجتمعوا في ميدان التحرير بوسط المدينة منددين بجرائم النظام الحاكم وفساده وانتشار البطالة والتعذيب الممنهج في أقسام الشرطة والسجون المصرية.
نظام مبارك من ناحيته كان قد اتخذ خطوات استباقية بقطع الاتصالات للحد من أعداد المتظاهرين وإرباك حركتهم[1].
في[2] الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء 25 يناير حجبت الحكومة المصرية موقع التواصل الاجتماعي، تويتر (Twitter)، وموقع البث المباشر بامبوزر (bambuser). وفي الثامنة من مساء نفس اليوم قطعت تغطية شبكات المحمول بمحيط ميدان التحرير.
في العاشرة والنصف من مساء اليوم التالي 26 يناير، عاد موقعي تويتر وبامبوزر للعمل بشكل محدود، وحُجب موقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك، وأوقفت خدمات الـ”بلاك بيري”.
وفي ليل الخميس ٢٧ يناير، الساعة التاسعة والنصف مساءً تقريبًا، قُطعت خدمات الرسائل النصية القصيرة (SMS Services)، وجميع خدمات الإنترنت عدا تلك المرتبطة بمزود خدمة الإنترنت، شركة “نور”، وهو المزود الوحيد الذي لم يتم قطع خدمته، حيث نقلت الحكومة المصرية المعلومات المتعلقة بالتداول في البورصة والأوراق المالية وبعض العمليات الاقتصادية إليه[3]، واستمر قطع تلك الخدمات ما بين الأيام 28 و31 يناير 2011.
في جمعة الغضب، 28 يناير تم وقف المكالمات الصوتية في شركات التليفون المحمول الثلاث، ووقف خطوط الهاتف الأرضية في بعض المناطق لمدة ساعات، وكذلك حجب القمر الصناعي (Satellite). وفي يوم 31 يناير تم قطع خدمة الإنترنت عن آخر مقدمة خدمة. وفي ٢ فبراير ٢٠١١ تحديدًا الثانية عشر مساءً أعيد تفعيل خدمات الإنترنت، وجرى تفعيل خدمات الرسائل النصية القصيرة (SMS Services) في ٦ فبراير.
وعلى الرغم من الارتباك الذي أحدثه قطع الاتصالات، إلا أن الاحتجاجات تصاعدت وانتشرت في أرجاء محافظات مصر المختلفة، ومع عنف الجهاز الأمني في التصدي للمتظاهرين، تخطت المطالب حاجز التنديد بممارسات الأجهزة الأمنية، إلى المطالبة بتنحي مبارك وإسقاط النظام. استمرت التظاهرات المطالبة بتنحي مبارك طيلة 18 يوما إلى أن أعلن مدير المخابرات العامة عمر سليمان في ١١ فبراير ٢٠١١ تنحي الرئيس المعزول محمد حسني مبارك عن الحكم، وتولي المجلس العسكري شئون البلاد لفترة انتقالية، امتدت حتى إجراء الانتخابات الرئاسية في منتصف العام التالي، 2012.
غرفة الطوارئ.. كيف أدارت الدولة قطع الاتصالات؟
“لم يكن قرار قطع خدمات الاتصال وخدمات الرسائل النصية القصيرة وخدمات الإنترنت قرارًا عفويًا أنتجته ظروف الاحتجاجات السلمية.. وإنما كان قرار متعمدًا ومقصودًا تم الترتيب والإعداد له قبل بزوغ فجر ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011”
مقتطف من حكم القضاء الإداري في قضية قطع الاتصالات
تشير أرواق القضية إلى أن الحكومة أجرت تجربتين لقطع الاتصالات عن مصر قبل تطبيق هذا القطع بشكل كامل عشية ثورة يناير. كانت أولى تجارب غرفة الطوارئ، والتي تكونت من ممثلين عن وزارات الدفاع والداخلية والاتصالات والإعلام وشركات المحمول الثلاث (فودافون وموبينيل واتصالات)، لقطع الاتصالات في السادس من إبريل عام 2008، بالتزامن مع إضراب عمال المحلة وما لازمها من دعوات العصيان المدني التي تبناها ناشطون سياسيون.
“لحد 2008 كانت علاقة الحكومة بالإنترنت غير ممسوكة، ومكانش فيه تدخل واضح بين الحكومة والفضاء الالكتروني، مع اندلاع أحداث المحلة انتبهوا لوجود المدونين ولخلق مساحات مختلفة من خلال الانترنت لا يمكنهم السيطرة عليها“[4]
رامي رؤوف، الباحث في مجال الحقوق الرقمية
يمثل السادس من أبريل أحد أهم الحلقات في مسيرة التغيير في مصر؛ دعوة للإضراب عن العمل يعلن عنها عمال شركة غزل المحلة اعتراضًا على غلاء الأسعار وتدني أجورهم، تتحول إلى إضراب عام بعد تبني بعض المدونين والنشطاء من حركتي كفاية و6 أبريل[5] وبعض أحزاب المعارضة.
وفي أول استخدام للفيسبوك في الدعوة والحشد لعمل سياسي[6]، نشر النشطاء فكرة الإضراب بشكل واسع وسريع من خلال الفضاء الإلكتروني وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، ليتبنى عدد كبير فكرة الإضراب العام، ويصبح هذا الفضاء اللانهائي أحد أهم آليات الحشد للإضراب.
ومع انتشار دعوات الإضراب أنشأت وزارة الداخلية لأول مرة غرفة سرية تنعقد في حالات الأزمة وتسمى “غرفة طوارئ”، مقرها سنترال رمسيس، أحد أكثر شوارع القاهرة ازدحامًا وصخبًا، وذلك لمواجهة ما أسمته الجهات الأمنية “استخدام العناصر الإثارية لخدمة الرسائل القصيرة وشبكة المعلومات الدولية في بث أخبار ورسائل مغرضة وغير صحيحة من شأنها إشاعة الفوضى في البلاد”.
وبحسب وثائق ومستندات تخص جهاز أمن الدولة[7] والتي حصل عليها مواطنون عقب اقتحامهم للمقرات في مارس 2011[8]، فإن غرفة الطوارئ تشكلت إبان أحداث المحلة، بمشاركة أعضاء من كلا من الأجهزة والوزارات التالية؛ الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات والإدارة العامة للمعلومات والتوثيق بمباحث أمن الدولة، المخابرات العامة، وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وزارة الدفاع، وزارة الإعلام، شركات المحمول، الشركات مقدمة خدمة الانترنت.
أما التجربة الثانية -والتي كانت أكثر تطورًا- فقد حدثت قبل بداية الثورة بثلاثة أشهر، تحديدًا في 10 أكتوبر 2010، والتي استهدفت قطع الاتصالات عن مصر وكيفية حجب بعض المواقع الإلكترونية، ومنع الدخول على شبكة الإنترنت لمدينة أو لمحافظة أو لعدة محافظات. كما اشتملت التجارب على حجب أو إبطاء مواقع إلكترونية محددة، ووضع خطة لسرعة الحصول على بيانات مستخدمي الشبكة والبصمات الإلكترونية عقب استخدامها خلال فترة لا تقل عن ثلاثة أشهر، ومنع خدمة التليفون المحمول للشركات الثلاثة عن منطقة بذاتها أو مدينة أو محافظة أو عن مصر كلها، وغلق خدمة الرسائل القصيرة “Bulk SMS” الدولية الواردة من خارج البلاد وألا يزيد عدد مستقبليها عن 50 تليفون محمول خاصة تلك الواردة من دول شرق آسيا.
جاءت هذه التجربة بعد رصد الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات رسالة قصيرة (SMS) من خارج البلاد[9] في 30 سبتمبر 2010 تؤكد وفاة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، انتشرت شائعة الوفاة[10] على إثر عودة مبارك من ألمانيا لإجراء عملية جراحية لاستئصال المرارة في 2010، وغيابه عن الأنظار لقضائه فترة نقاهة في شرم الشيخ[11]. تم تداول الإشاعة سريعًا بعد أن أرسل أحد الأرقام الدولية رسالة نصية تحمل الخبر لعدد محدود من الهواتف المحمولة داخل مصر، وعلى الرغم من تطور التجربة الثانية واتساع نطاقها إلا أنها كشفت عن قصور في تنفيذ الخطة الموضوعة الخاصة بإبطاء الدخول على أحد المواقع الالكترونية، وهو ما وعدت الشركات مقدمة الخدمة بدراسة تنفيذه تقنيًا.
وتؤكد المراسلات الداخلية إلى أن الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات رفع تقريرًا إلى جهاز مباحث أمن الدولة فور ورود الرسالة يعلمه بالأمر، ومنه إلى وزير الداخلية اللواء حبيب العادلي حينها، ليصدر المهندس طارق كامل وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات توجيهاته لشركات المحمول الثلاث في 10 أكتوبر بحجب خدمة الرسائل القصيرة الدولية الواردة من الخارج، وتعود غرفة الطوارئ لتنعقد من جديد في “اجتماع تنشيطي” بسنترال رمسيس بناءً على طلب وزير الاتصالات[12].
سبق الاجتماع الذي عقد في 13 أكتوبر عدة اجتماعات لمتابعة الإجراءات التي ستتخذها الجهات الأمنية المختلفة للسيطرة على انتشار الاشاعة ومعرفة مرسلها؛ وتضمن الاجتماع وضع آليات مستقبلية مع شركات الاتصال لسرعة الحصول على البيانات إذا تكرر الأمر مستقبلًا، وكذا موافقة وزير الاتصالات على طلب المخابرات العامة والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات ممثلًا في نائبه المهندس مصطفى عبد الواحد بضرورة الحصول على البيانات الفنية للرسالة والتي تتضمن الموقع الجغرافي وبيانات المُرسِل، كما طلب ممثلي الجهاز والمخابرات العامة الحصول على “USB” مودم من شركات المحمول الثلاث لتجربتها في الدخول على شبكة الانترنت وبيان ما إذا كانت كل شركة منهم تقوم بتسجيل بيانات البصمات الالكترونية المستخدمة والمواقع التي يتم تصفحها[13].
ويتضح من الوثائق وجود قسم خاص بالاختراق الإلكتروني في جهاز أمن الدولة يرأسه المقدم مهندس كمال سيف الدين كمال، وهو يتبع مجموعة المتابعة الإلكترونية التابعة للإدارة المركزية لتكنولوجيا المعلومات بالإدارة العامة للمعلومات، والذي كان يستدعى إلى اجتماعات غرفة الطوارئ حسب الحاجة.
تكشف الوثائق تورط العديد من الجهات على رأسها وزارة الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات العامة ووزارة الاتصالات والجهاز القومي للاتصالات وشركات المحمول الثلاث والشركات المقدمة لخدمة الإنترنت في اختراق خصوصية المواطنين المتعاملين مع الانترنت والتجسس عليهم وصولا إلى منعهم من حقهم في الاتصال حتى منع الخدمة تمامًا عن المستخدمين وهو ما تسبب في سقوط عدد كبير من الضحايا خلال ثورة 25 يناير بسبب عجزهم عن الاتصال بالإسعاف في ظل انقطاع الخدمة.
وعلى الرغم من أن الوثائق تؤكد تعاضد أجهزة الدولة ووزاراتها المعنية للسيطرة والتحكم الكامل في مجال الاتصالات، إلا أن الدكتور حسام لطفي المستشار القانوني للجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، قد أكد في لقاء مذاع يرجع تاريخه إلى عام [14]2013، أن ممارسات الأجهزة الأمنية في مجال الاتصالات لا تخص الجهاز القومي، مشيرًا إلى أن غرفة الطوارئ ليس لها مكان جغرافي محدد تنعقد فيه، وهي غرفة مشكلة تنعقد عند الحاجة ويمثل فيها عضو من الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وهو نائب الرئيس، دوره التنسيق بين شركات المحمول والسلطات المختصة في حالة وقوع تعبئة عامة أو أزمات؛ كالحروب والزلازل والفيضانات، ويتابع نائب الرئيس تنفيذ التوصيات التي انتهى إليها الجهاز بشأن التعاون والتنسيق بين أي من الجهات المعنية.
وبعكس ما أكده لطفي، فإن الثابت من الأوراق أن غرفة الطوارئ استخدمت وفقط لتحجيم وقمع المعارضة السياسية كما يبين التقرير. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود وحدة مختصة بالكامل للتعامل مع اختراق الشبكات وهي تختلف بالكامل عن غرفة الطوارئ. وكان قد أنشأها الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات في أبريل 2009 وهي وحدة المركز المصري للاستجابة لطوارئ الإنترنت والحاسب “سيرت CERT computer emerge response team “[15] وهي خط الدفاع الأول في حالة حدوث جرائم الكترونية.
ثورة يناير .. كيف أغلقت الحكومة نوافذ مصر؟
لم تكن دعوات التظاهر المناهضة لنظام مبارك سرية، فبعد الحراك الواسع الذي نتج عن مقتل خالد سعيد في الإسكندرية، وسقوط بن على في تونس، بدا أن الأمر ربما قد يتجاوز حدود التظاهرات المحدودة ضد الحكومة وجهازها الشرطي، والتي كان الشارع المصري قد اعتاد عليها خلال السنوات السابقة. عقب ورود معلومات أمنية تفيد باحتمالية وقوع أحداث شغب كبيرة في الخامس والعشرين من يناير عام 2011، انعقدت لجنة وزارية في الثانية من ظهر الخميس 20 يناير 2011 بالقرية الذكية برئاسة الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء الأسبق و 6 من الوزراء والقيادات من بينهم اللواء حبيب العادلي ووزير الدفاع الأسبق المشير حسين طنطاوي، ووزير الاتصالات المهندس طارق كامل، وعمر سليمان رئيس المخابرات العامة، لبحث الإجراءات المختلفة في قطاعات الدولة والمطلوب اتباعها استعدادًا لأحداث يناير، والتي تتضمن إجراءات إدارة شبكات الاتصالات أثناء الأحداث المرتقبة.
وهنا جاء دور غرفة الطوارئ مرة أخرى لتُطبق عمليًا تجارب السنوات الماضية؛ حيث أوصت اللجنة الوزارية بتفعيل قانون الاتصالات، وتشكيل غرفة عمليات إدارة الأزمة بمشاركة المؤسسات سابقة الذكر، تعمل 24 ساعة يوميًا طوال مدة الأحداث تتابع تنفيذ أي إجراءات لازمة لتطبيق المادة 67 من قانون رقم 10 لسنة 2003 لتنظيم الاتصالات، والتي تبيح للجهات السيادية إلزام الشركات بقطع الاتصالات وخدمات الإنترنت في مواقع مختلفة بالجمهورية في حالة تعرض الأمن القومي للخطر.
تشير أوراق القضية إلى أن القطع جاء تنفيذًا لقرارين متلاحقين من اللواء حبيب العادلي، صدر الأول في الثلاثاء 25 يناير وحتى صباح اليوم التالي ليشمل خدمات الاتصالات وخدمات الإنترنت وينفذ اعتبارًا من ظهر ذات اليوم في منطقة ميدان التحرير بالتزامن مع دعاوى التظاهر. أما الثاني فقد نفذ بعد أن أصدر العادلي تعليمات مشددة لغرفة الطوارئ أكثر من مرة في 27 يناير بضرورة قطع خدمات الاتصالات اعتبارًا من صباح يوم الجمعة 28 يناير ولمدة يوم واحد بالنسبة لخدمات المحمول في محافظات “القاهرة الكبرى- الإسكندرية- السويس- الغربية”، وضرورة قطع خدمات الإنترنت على مستوى الجمهورية اعتبارًا من مساء يوم الخميس 27 يناير لوجود خطورة على الأمن القومي للبلاد.
كيف أعاد متظاهرو التحرير الارتباط بالفضاء الإلكتروني؟
على الرغم من الشلل الذي أحدثه قطع الاتصالات، إلا أن النشطاء الداعين لتظاهرات 25 يناير استطاعوا إيجاد وتطوير حلول وآليات بديلة للتغلب على قرار قطع الاتصالات، فقد كانوا قادرين كل تبع اختصاصه على نشر أشرطة الفيديو والصور والمعلومات من المظاهرات في جميع أنحاء مصر إلى العالم الخارجي، حيث مثلوا حلقة الوصل بين ميدان التحرير والصحافة العالمية وبين الأفراد في الداخل بعضهم ببعض.
قبل قطع الاتصالات نهائيًا في 27 يناير كانت قد تداولت معلومات[16] عن نية السلطات قطع تواصل المتظاهرين بعضهم ببعض، لم يتوقع أحد انقطاع الخدمة بشكل تام، وأن السلطات ستكتفي بحجب مواقع الشبكات الاجتماعية، فتبادلوا ونشروا برامج وطرق تمكنهم من كسر الحجب[17].
في هذا التوقيت تواجدت منى سيف[18] في إحدى الاجتماعات السياسية المعدة للترتيب لمظاهرة جمعة الغضب والتي انطلقت من منطقة إمبابة.
وسط المدينة كانت هادئة تمامًا وساكنة، تشبه مدينة الأشباح كما وصفتها. كانت منى تشعر بالخوف الشديد مما ستؤول إليه أحداث الغد وأن النظام سيقوم بمذبحة جماعية للمتظاهرين، إلا أنها شعرت بأهمية أن يعرف المتواجدون بمنازلهم ما يحدث “لازم الناس تشوف … لازم الناس تعرف”، تقول منى[19]. فقضت ليلة 27 كاملة تُجرى اتصالات تليفونية بدائرة معارفها خارج مصر تخبرهم بما يُتداول من قطع لخدمات الاتصالات، قالت لهم “بيقولوا هيقطعوا علينا الاتصالات بكرة، فلو حصل حاجة إنتوا لازم تتصرفوا وتحاولوا توصلوا لمعلوماتنا“.
لم تكن منى تملك خطة واضحة كغيرها للتحركات وتنظيمها ونقل المعلومات بدون اتصالات، إلا أنها بدأت وآخرين في جمع أرقام الهواتف الأرضية لشبكة النشطاء المشاركين في تظاهرات جمعة الغضب، وأوصت شقيقها علاء[20] المتواجد في جنوب أفريقيا حينها بالاتصال بوالدتها على تليفون المنزل الأرضي لنقل المعلومات حول ما يحدث لهم في الخارج، فكانت خطوط الهواتف الأرضية الوسيلة الأولى للتواصل.
كان يتعين على منى اصطحاب أحد معارفها القادم من الخارج للمشاركة في جمعة الغضب، تصادف امتلاكه هاتف الثريا -شبكة اتصالات عبر الأقمار الصناعية-، وفور معرفتها طلبت منه عدم المشاركة في التظاهر والتواجد عوضًا عن ذلك في مكان ثابت وبجوار هاتف أرضي لاستقبال الأخبار ونقلها للعالم الخارجي، أعدت منى نسخ عديدة لرقم الهاتف الأرضي استعدادًا لنشرها، وكتبت “للتواصل الإعلامي أو لتغطية احداث الثورة اتصلوا بـ … واطلبوا منه …”، بعد وقت لم يستطع الشاب الصمود وقرر النزول للمشاركة في التظاهرات بعد وصولها ميدان التحرير، تقول منى أنه خلال الساعات الأولى كانت الأحداث أسرع وأعنف من أن توجد أي مساحة لمحاولة الإبلاغ بما يحدث وتوثيقه.
كانت منى تذهب يوميًا من وإلى الدقي عدة مرات، حيث شقة صديقتها التي تقع في شارع جانبي بحي الدقي بالجيزة، الشقة مزدحمة بنشطاء وصحفيين مصريين وأجانب مجتمعين في غرفة صغيرة أسموها: “بؤرة تويتر –Twitter Hup”. كانت صديقة منى قد فتحت منزلها لأي من النشطاء المهتمين بتغطية الحدث، بعد أن اكتشفت أن خدمة الإنترنت لازالت تعمل ولم تقطع عنها. وهنا أصبح دور منى الأساسي بمشاركة أصدقاء متابعة ونقل الأخبار والمعلومات وتوثيقها.
تمتلك صديقة منى في منزلها هاتف أرضي يعمل ومتصل بالإنترنت من خلال شركة نور، وهي شركة الإنترنت الوحيدة التي لم تقطع اتصالاتها بسبب نقل أعمال البورصة إليها. فكانت شقة الدقي أشبه بحلقة تواصل بين ما يحدث في ميدان التحرير والعالم الخارجي، وكانت تدوينات النشطاء المتواجدين فيها هي المصدر الأساسي لقنوات الجزيرة والبي بي سي.
“خلال الـ 18 يوم كان معظم كلامي بالإنجليزي … ماكنتش وقتها حاسة إن أنا بكلم الناس اللي هنا، لكن كنت بكلم البنى آدميين المهتمين بمتابعة الوضع في مصر وتغطيته” تقول منى.
لم يتوقف الهاتف عن الرنين منذ صباح السبت 29 يناير، تحولت شقة الدقي تلقائيًا إلى غرفة عمليات تستقبل أعداد الجثامين والقتلى من محيط وزارة الداخلية، وكذا الأخبار والمعلومات من محافظات أخرى. تتذكر منى، “أكتر حاجة فاكراها هي وصف الناس اللي بتقتل حولين وزارة الداخلية كأنهم بيصطادوهم لان كان كل شوية حد يتصل ويبقى في هلع “طخوا حد طخوا حد” أو حد يقول “عربية جت ورمت جثة حد”.
بخلاف مجموعة الدقي، كان مركز هشام مبارك للقانون بمثابة مقرًا لجبهة الدفاع عن متظاهري مصر، ومن خلال الهاتف الأرضي الخاص بالمركز كان أعضاء الجبهة يصلهم أسماء المقبوض عليهم خلال التظاهرات وأماكن تواجدهم وشبكة المحامين ويعدون حصرًا يتم نقله إلى شقة الدقي عن طريق الهاتف الأرضي أو من خلال زيارات يومية لمركز هشام مبارك استعدادًا لنشره على شبكات التواصل وإرساله للصحفيين.
صباح جمعة الغضب، حجزت مجموعة من الصحفيين غرفة بفندق سميراميس المتواجد في كورنيش النيل على مقربة من ميدان التحرير. كانوا قد اكتشفوا أن الفندق لا يزال متصل بشبكة الإنترنت، وكانت المجموعة تلتقط صورًا ومواد مصورة لنشرها على الإنترنت.
وفي جانب آخر من العالم، طور[21] أحد المبرمجين المصريين المقيمين في سويسرا فكرة لبث المكالمات الصوتية عبر تويتر، وفي 30 يناير أعلن عبد الكريم مرديني[22] على حسابه الشخصي في موقع التواصل الاجتماعي عن أرقام دولية طورها مع أصدقاء بالخارج يستطيع المتصل من خلالها الاتصال بشبكة الإنترنت، إذ تمكن الخدمة من تحويل المكالمات الصوتية إلى مقاطع صوت مسجلة تنشر تلقائيًا على حساب الخدمة speak2tweet[23] على موقع تويتر.
وفي نفس يوم إطلاق الخدمة، اتصلت منى بالهاتف الأرضي المزود بالخدمة الدولية لتصلها رسالة تقول “علِّي صوتك يا مصري، لسماع تويت صوتي اضغط الرقم 1، لتسجيل تويت صوتي اضغط الرقم 2”[24]
تضغط منى على رقم 2 وتسجل رسالتها[25] “أنا منى سيف من القاهرة، أريد للعالم أن يعرف أننا انقطعنا عن الإنترنت…”
تقول سيف، “كان في ناس بيشجعوا بعض يا جماعة انزلوا الميدان لموا ملفات صوتية من الناس وطلعوها على تويتر، وحتى لو معندكيش انترنت في رقم دولي تتصلى بيه من موبايلك وهو يذيعها على تويتر… انا سجلت Two audio files to speak to tweet لعلاء لان علاء كان لسه في جنوب أفريقيا، قلت له: في كلام انهم هيقطعوا الاتصالات تاني بس انا المرة دي مش قلقانة، المرة دي كل الناس عارفين هيروحوا فين .. مفيش لخبطة خاصة ب هنعمل ايه والناس هتتابعنا أزاي”.
الفصل الثاني: أثر قطع الاتصالات
ترتبط خدمات الاتصالات والإنترنت بشكل وثيق مع حزمة من الحقوق والحريات التي لا تقوم إلا بأداء هذه الخدمات، بحيث يكون قطع هذه الخدمات أو حظرها أو تعطيلها بقيود مختلفة انتهاكًا واضحًا لتلك الحقوق والحريات. من هذا المنطلق، أكدت محكمة القضاء الإداري في حيثيات حكمها أن قطع خدمات الاتصالات والرسائل القصيرة عن الهواتف النقالة وخدمات الإنترنت يعد انتهاكاً لمجموعة من الحقوق والحريات على رأسها “حرية التعبير”، و”الحق في الاتصال”، و”الحق في الخصوصية” ، و”الحق في استخدام الطيف الترددي” ، و”الحق في المعرفة” وما يتصل به من “الحق في تدفق المعلومات وتداولها” وارتباطه بكل من “الحق في التنمية”، و”الحق في الحياة”.
وقد استند الحكم في تأصيله للضرر الواقع على الأفراد جراء اتخاذ قرار قطع الاتصالات إلى الحق في الاتصال كونه شرطًا أساسيًا من شروط المواطنة.
“وحيث أنه وعن مدى صفة ومصلحة كل من المدعين والمتدخل هجوميًا، فإن المستقر عليه ان الحق في الاتصال بوصفه حاجة إنسانية أساسية وأساس لكل مواطن اجتماعي، يثبت الحق فيه للأفراد كما يثبت للمجتمعات، التي تتكون منهم، وهو حق لا يقوم إلا بأدواته المحققة له، وهو يعني حق الانتفاع المشاركة لجميع الأفراد والجماعات والتنظيمات مهما كان مستواها الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، وبغض النظر عن الجنس أو اللغة أو الدين أو الموقع الجغرافي، في الانتفاع بوسائل وخدمات الاتصال وموارد المعلومات على نحو متوازن، وتحقيق أكبر قدر من المشاركة العامة في العملية الاتصالية، بحيث لا يقتصر دور الأفراد والفئات الاجتماعية المختلفة على مجرد التلقي للوسائل الإعلامية أو خدمات الاتصال والإنترنت، بل يمتد ليتحول إلى المشاركة الإيجابية، فضلا عما يترتب عن الحق في الاتصال من حق للفرد في الحصول على المعلومات والمعارف والاطلاع على تجارب الآخرين، والاتصال بهم ومناقشتهم، والتأثير في القيادات الاجتماعية والسياسية بما يخدم الفرد والجماعة، وبالتالي متى تعلقت المنازعة بهذا الحق كانت المواطنة مناط الصفة والمصلحة وأساسها“.
من حيثيات الحكم في قضية قطع الاتصالات
وبالإضافة إلى عدم جواز المساس بحقوق التواصل الاجتماعي فإن حرية تداول المعلومات تفرض الحق في تلقي المعلومات والأفكار ونقلها إلى الآخرين وتداولها من خلال خدمات الاتصالات وخدمات الإنترنت، وأنه بدون القدرة على الحصول على المعلومات وامتلاك حق تداولها وإبلاغها للرأي العام لن يكون لحرية الرأي أي مدلول حقيقي داخل المجتمع، كما أنه بدون التواصل المجتمعي عبر الانترنت في الداخل والخارج لا تكون ثمة حرية من الحريات قائمة أو لها وجود ملموس.
وبخلاف تأثير قطع الاتصالات على الحقوق والحريات الأساسية، فإن محكمة القضاء الإداري استندت في حكمها بتغريم العادلي ومبارك ونظيف 540 مليون جنية إلى الخسائر التي لحقت بالاقتصاد القومي جراء عملية القطع، وهي الخسائر التي رصدتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في بيان أصدرته[26] بعد قطع الاتصالات بأيام قليلة، وصدقت عليه المحكمة ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء.
وقد افادت التقديرات الأولية لمنظمة التعاون بأن قطع الحكومة المصرية لخدمات الانترنت في البلاد عدة أيام كلف مصر خسائر بقيمة 90 مليون دولار، وأثره الاقتصادي قد يكون أكبر على المدى الطويل. واشارت المنظمة في بيانها المقتضب إلى أن “الخدمات المعطلة -الاتصالات والانترنت- تمثل 3% الى 4% من إجمالي الناتج المحلي، أي ما يمثل خسارة تقارب الـ 18 مليون دولار يوميًا”.
وأوضحت المنظمة التي تتخذ من باريس مقرًا لها أن الأثر الإقتصادي قد يكون أكبر على المدى الطويل، لأن هذا التدبير طال شركات محلية وعالمية تعمل في مجال التكنولوجيا المتطورة وتقدم خدمات إلى خارج مصر أيضًا.
وبخلاف منظمة التعاون، فإن تقارير رسمية وغير رسمية، دولية ومحلية تحدثت بشكل تقريبي عن خسائر قطع الاتصالات في مصر، وقد قدرت المحكمة قيمة مبلغ التعويض بناءً على ما تضمنته التقارير.
“قطع الاتصالات يعني انك لا تستطيع الاتصال بطبيب أو إسعاف لإنقاذ حالة حرجة، ولا أم المريضة كي تودعها ولا أطفالها الصغار ليروا وجه أمهم لآخر مرة حية. لا تستطيع أن تستدعي العامل الذي رجع بيته ومعه المفتاح الذي يوصلك إلى “الدوبلار” الجهاز الذي يكشف عن الجلطات. قطع الاتصالات يعني أن تصاحب أختك الصغيرة وهي تموت لمدة عشر ساعات وهي مدركة أن المستشفى بأكملها ترفض مساعدتها، قطع الاتصالات يعني انك لا تستطيع الاتصال بمسئول ليخبر الطبيب أنه يجب أن يسمح للحالات الحرجة بالدخول للإنعاش رغما عن تعليمات الداخلية حتى لو لم يكونوا من الضباط والعساكر.. قطع الاتصالات يعني انك لا تستطيع ان تتصل بصديق لتبكي لان اختك الصغيرة ماتت”[27]
رغم مرور 7 سنوات على قطع الاتصالات في مصر، وما ترتب عنه من أضرار جسيمة، إلا أنه لا يمكننا معرفة عدد الضحايا الذين فقدوا حياتهم لعدم قدرتهم وذويهم على الاتصال بالعالم الخارجي وطلب المساعدة، يشبه الأمر إسدال الستار عليهم في صمت. وبالرغم من أن تقارير رسمية وغير رسمية، دولية ومحلية، تحدثت عن حصر مفصل لخسائر الاقتصاد المصري جراء عملية القطع، إلا أن أيًا منها لم يتطرق إلى حصر بحالات الوفاة خلال الأيام الخمس التي أخفيت فيها مصر عن العالم وانقطعت فيها صلة المواطنون بعضهم عن بعض، إما لأسباب تتعلق بغياب الشفافية وحجب المعلومات، وهي الطريقة التي دائما ما تتبعها الدولة المصرية في الأحداث المشابهة، أو لضياع المعلومات؛ ففي ظل غياب قنوات الاتصال والتواصل تصبح المعلومات أعصى في توثيقها. ليبقى بذلك عدد ضحايا قطع الاتصال مجهولًا وثقب أسود في ذاكرة الثورة، لم يصلنا منه سوى حالتين كان قطع الاتصالات فيهما بمثابة السبب الرئيسي للوفاة. ومن المتأكد أنه توجد حالات أخرى لم يتمكن معدو التقرير من الوصول إليها لغياب أي خيوط قد تدل على هوياتهم، وقد يكون هذا التقرير أداة لمعرفة حالات جديدة وإنعاش ذاكرتنا الجماعية.
مساء 27 يناير 2011 وتحديدًا قبل قطع الاتصالات بساعات قليلة؛ تلقت هالة اتصال هاتفي يبلغها بأن شقيقتها الصغرى تعرضت لأزمة صحية غير معلوم طبيعتها. اقترحت هالة على زوج شقيقتها التوجه إلى مستشفى الشروق، مستشفى خاص لتتلقى فيه الشقيقة الصغرى الرعاية المثلى. تسكن هدى في إحدى البنايات القريبة من وزارة الداخلية أحد أكثر الأماكن توترًا وتأمينًا في هذا اليوم، الأمر الذي جعل العبور بهدى وهي مريضة وسط الثكنة العسكرية أمر شبه مستحيل.
تقول هالة[28] في شهادتها لمؤسسة حرية الفكر والتعبير “نزلت بسرعة من مدينة نصر، الشوارع كانت صعبة، وصلت لقيته بيكلمني وبيقولي انه معرفش يعدي الناحية الثانية يروح المستشفى علشان في قلق عند وزارة الداخلية.. هدى مكانتش مريضة كانت لسه والدة، بنتها الصغيرة كانت مولودة في شهر أكتوبر، اضطر جوزها يوديها القصر العيني الفرنساوي. أنا وصلت لقيتها كانت لسة فايقة، كانت تعبانة جدا فبنسألهم هنعمل ايه؟ الدكاترة طبعا كانوا في حالة لا يستجيبوا مع المحادثة ولا مع المرضى ولا مع الحالات الخاصة”.
تصف هالة المشهد عشية جمعة الغضب من داخل القصر العيني الفرنساوي، وبحسب ما تقول فإن الأمر كان أشبه بمشاهد نهاية العالم؛ شيء غامض يحدث في العالم الخارجي، يوحي بأن تغييرًا عاصفًا يطيح بكل ما هو قائم، الأمر الذي انعكس على أداء الأطباء والممرضات غير المبالي، لا أحد يقوم بواجباته الآن، ولا أحد يهتم بإدخال السيدة صغيرة السن إلى غرفة الإنعاش لتتلقى الرعاية التي تحتاجها.
اقتربت الساعة من منتصف الليل، الآن جميع الهواتف المحمولة خارج نطاق الخدمة، وهنا اكتشف الأطباء أن هدى مصابة بجلطة، وتحتاج إلى جهاز “الدوبلر” المختص بتحديد أماكن الجلطات، يخبرها الأطباء بأن الموظف المسئول عن الجهاز وما يتعلق به اضطر للذهاب إلى منزله ومعه مفتاح التشغيل كعهدة، وهو تقليد يتبعه الموظف أيام الخميس من كل أسبوع، ويستدعى تلفونيًا في حال وصول حالات طارئة إلى المستشفى؛ وهو أمرٌ مستحيل بعد قطع الاتصالات وتعطل الهاتف الأرضي للمستشفى.
أخبر الطبيب هالة أن المعتاد في مثل هذه الحالات هو استدعاء الموظف من منزله إلا أنه نتيجة لقطع الاتصالات أصبح الأمر مستحيلًا. تقول هالة “فضلنا عدة ساعات في الوضع ده وهي كانت لسه فايقة وبتدخل الحمام، انت عارفة اللي عنده جلطة بيبقى جسمه بيتخلص من كل السوائل، وكانت عمالة توصينا على أولادها، في الآخر قالو لنا لو عايزين روحوا ودوها وحدة شريف مختار، اسمها وحدة السكتات الدماغية”.
تصبح حياة الشخص المصاب بجلطة أكثر خطورة في حال تحركه، وكانت حالة هدى تستدعى البقاء في وضع ساكن بقدر الإمكان، وإذا لزم الأمر ينقل المريض تحت إشراف طبي داخل سيارة إسعاف مخصصة، إلا أنهم اضطروا لنقلها في سيارتهم الخاصة لعدم توفر سيارات إسعاف، متجهين بها إلى وحدة السكتات الدماغية.
أجرى أطباء وحدة هشام مختار الكشف على هدى بدون اهتمام، مؤكدين أن حالتها الصحية جيدة لأنها لم تفقد الوعي بعد، وأنهم صباح غد سيشرعون في اتخاذ اللازم. بدأت حالة هدى في التدهور؛ توقفت يداها عن الحركة تبعتها الأرجل، ثم ثقل بدرجة خفيفة في لسانها، تمنت هالة في هذه اللحظة لو أنها تستطيع الاتصال بوالدتها لترى ابنتها الصغرى ربما للمرة الأخيرة، أو تتصل بأحد أصدقائها الأطباء ليطمئنهم على حالتها، أو حتى الاتصال بمستشفى أخرى للتأكد من وجود جهاز “الدوبلر” ونقلها إليه. بعد قليل طلبت هدى اصطحابها مرة أخرى إلى الحمام، وهنا خارت قواها وسقطت على الأرض.
“هدى وقعت، كانت بدأت تروح خلاص، ساعتها الدكتورة قعدت تعيط وتقول دي كانت كويسة، والدكتور جاله انهيار، اكتشف إن كان ممكن يعمل حاجة، فجأة ظهر سرير في الإنعاش، وظهرت أوضة وحطولها أجهزة وبعدين تناوبنا الليلة دي القعاد معاها، مكانتش في وعيها خالص راحت لأنه كان خلاص سابوها تتوفى قدامهم سبع تمن ساعات”، تقول هالة.
ذهبت هالة إلى المنزل لتصطحب والدتها إلى المستشفى، لم تستطع الاتصال بها فحسب واخبارها بأن تحضر، كان عليها في هذه الليلة الذهاب من وإلى المستشفى عدة مرات، لإحضار ما يلزم أو لنقل الأخبار، لم تستطع والدة هدى توديعها، عندما وصلت كانت هدى غائبة عن الوعي، إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة ظهر يوم جمعة الغضب.
بعد 8 سنوات مرت على قتل هدى، لا تُرحب هالة بالإشارة إلى أي تفاصيل قد تدل على هويتها، فحتى هذه اللحظة لا تعرف والدة هدى وأطفالها الصغار أن قطع الاتصالات السبب الرئيسي لوفاتها، وأنها ظلت طوال هذه الساعات تعاني من الإهمال الطبي. قالت هالة أنها تشفق عليهم من معرفة تفاصيل هذه الأيام الثقيلة، وأنها ربما تخبر أطفالها بعد وصولهم لمرحلة عمرية تؤهلهم لمعرفة حقيقة ما حدث بالضبط.
تضيف هالة:
“قطع الاتصالات جريمة متعددة الجوانب، مش بس منعها من فرصة إنقاذ حياة ممكنة، كمان منع حتى أمها تشوفها وهي صاحية، أو حتى إن عيالها يشوفوها.. وبعدين دي مش حادثة حصلت، ده حصل عن عمد، يعني فيه شخص شرير قرر عن عمد يقطع اتصال الناس ببعضها، فهو لم يدرك إن ده هيدفع الناس أثمان حياتها.. حياتها الشخصية يعني مش بس هيعطلهم عن مكالمة، وأنا متخيلة إن زي ما ده حصلنا أكيد حصل لآلاف البشر في الليلة السودة دي، أكيد فيه ناس كانت تخطف وتنتهك ومش عارفة تستغيث، أكيد فيه ناس أطفال كانوا عايزين يكلموا أمهاتهم، مش لازم الحكاية توصل لغاية الموت يعني، احنا اللي حصلنا شيء بشع وأنا مش قادرة أشوف له لا مبرر ولا تفسير ولا عذر ولا أي حاجة، جريمة مكتملة الأركان”.
وفي سياق متصل تحديدًا 23 فبراير 2011، تقدمت وحدة الدعم القانوني بالشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ببلاغ إلى النائب العام[29] رقم 2193 لسنة 2011 يطالبون فيه بالتحقيق مع وزير الاتصالات، ورئيس الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، ورؤساء مجالس إدارات شركات الاتصالات الثلاث وكذلك شركات تقديم خدمة الانترنت “تي إي داتا – لينك دوت نت”، لضلوعهم في المسئولية الجنائية عن مقتل العديد من المتظاهرين بقطعهم لخدمتي الاتصالات والانترنت عن المتظاهرين، وطالبت الشبكة بالتحقيق مع الشركات الثلاثة لمعرفة المسئول عن القرار المتسبب في حرمان المصابين من الحصول على الرعاية الصحية والاتصال بالإسعاف.
استندت الشبكة في بلاغها إلى واقعة قتل “أحمد عبد الرحيم السيد أحمد”؛ الشاب البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا، والذي قتل أثناء أحداث جمعة الغضب في 28 يناير 2011، وطبقًا لما ذكرته الشبكة في بلاغها، فإن أحمد أصيب بطلق ناري في الصدر بعد أن فتح رجال الشرطة النيران على المتظاهرين في ميدان المطرية. لم يستطع أصدقاء الشاب الاتصال بالإسعاف للاستنجاد بهم، وجل ما استطاعوا فعله هو مشاهدته ينزف حتى الموت لمدة ساعة ونصف إلى أن وصلوا أخيرًا إحدى المستشفيات في الخامسة والنصف من مساء نفس اليوم.
بعد 7 سنوات من بلاغ الشبكة مازال المتهم بقتل المتظاهرين جراء منعهم من الحصول على المساعدة حرًا طليقًا، دون أن تطاله العدالة، رغم انتهاء التحقيقات في القضية، والتي كان مقدرا أن تنظرها محكمة جنح كرداسة في أغسطس 2011، إلى أن سحب القضاء العسكري ملف القضية من النيابة العامة، لتتقطع بذلك كل السبل حول ما آلت إليه التحقيقات.
تقول الشبكة العربية في بيانات تصدرها سنويًا[30] في ذكرى القطع أن القضية لاتزال مجمدة حتى اليوم، رغم الخطابات والمراسلات الرسمية التي وجهتها الشبكة لكلًا من عدلي منصور، والمشير عبد الفتاح السيسي، ورئيس هيئة القضاء العسكري، ومحمد فائق رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، لحثهم على إقرار العدالة وإخراج قضية الاتصالات المجمدة من الأدراج.
الفصل الثالث: قانونية قطع الاتصالات وذريعة حماية الأمن القومي
استند مصدرو قرار قطع الاتصالات والإنترنت إلى قانون الطوارئ والمواد 1 و 67 و 64 من قانون تنظيم الاتصالات والتي تتيح سلطات واسعة للجهات الأمنية والسلطات المختصة على قطاع الاتصالات. إذ أن قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003 والمعمول به إلى الآن بمثابة القاعدة القانونية لقطع الاتصالات، وتعتبر بنوده كما وصفتها المحكمة “نوع مموج من التأميم للشبكات وحلول للسلطات محل مشغلي ومقدمي الخدمة بغير سند قانوني”.
حيث تنص المادة 67 على أنه “للسلطات المختصة في الدولة أن تخضع لإدارتها جميع خدمات وشبكات اتصالات أي مشغل أو مقدم خدمة وأن تستدعي العاملين لديه القائمين على تشغيل وصيانة تلك الخدمات والشبكات وذلك في حالة حدوث كارثة طبيعية أو بيئية أو في الحالات التي تعلن فيها التعبئة العامة طبقا لأحكام القانون رقم 87 لسنة 1960 المشار إليه وأية حالات أخرى تتعلق بالأمن القومي”. وتجبر المادة 64 مقدم خدمات الاتصالات على “أن يوفر على نفقته داخل شبكة الاتصالات المرخص له بها كافة الإمكانيات الفنية من معدات ونظم وبرامج واتصالات داخل الشبكة والتي تتيح لأجهزة الأمن القومي ممارسة اختصاصها في حدود القانون، كما يلتزم مقدمو ومشغلو خدمات الاتصالات ووكلائهم المنوط بهم تسويق تلك الخدمات بالحصول على معلومات وبيانات دقيقة عن مستخدميها من المواطنين ومن الجهات المختلفة بالدولة. وقد حدد القانون في مادته الأولى مصطلح الأمن القومي بأنه “ما يتعلق بشئون رئاسة الجمهورية، والقوات المسلحة، والإنتاج الحربي، ووزارة الداخلية، وهيئة الأمن القومي، وهيئة الرقابة الإدارية، والأجهزة التابعة لهذه الجهات، كما حدد أجهزة الأمن القومي وحصرها في 4 جهات رسمية “رئاسة الجمهورية، ووزارة الداخلية، وهيئة الأمن القومي، وهيئة الرقابة الإدارية”
وخالف قرار قطع الاتصالات بنود عدة في دستور سنة 1971، فالمادة 45 من الدستور الحاكم وقتها جعلت للمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية وغيرها من وسائل الاتصالات حرمة وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة ووفقاً لأحكام القانون، وكذلك خالف المواد 47 و 48 بالإضافة إلى المادة 9 من القانون رقم 96 لسنة 1969 بشأن تنظيم الصحافة، والمواد 1، 2 ،4، 5، 13، 25، 58، من قانون تنظيم الاتصالات الصادر بالقانون رقم 10 لسنة 2003.
اللافت أن الدول السلطوية دائمًا ما تستخدم مصطلحات كلاسيكية خاصة بها، تستدعيها عند الحاجة لتبرير ممارساتها القمعية وللمحافظة على بقائها ووجودها ضد أي تحركات قد تضر النظام، وفي حالتنا هذه ردد المتهمون بقطع الاتصالات مصطلح الأمن القومي مرات عديدة، مبررين بهذه الكلمة جل الانتهاكات الدستورية والقانونية التي حدثت جراء قطع الاتصالات، ولا أحد ينكر أن للدول الحق في الحفاظ على الأمن القومي للبلاد بل إن الحفاظ على أمن البلاد مسئوليتهم بالأساس، ولكن ما الذي يعنيه بالضبط مصطلح مثل الأمن القومي؟ وهل كان هناك حقًا ما يستدعي الحماية؟ وهل كان هناك خطر وتهديد لأمن البلاد؟، ولنتمكن من الوصول لخيوط تحاول الإجابة على تساؤلاتنا علينا العودة للوراء قليلا والنظر في حيثيات حكم قضية قطع الاتصالات.
يعبر قرار قطع الاتصالات عن التطورات المرحلية المختلفة التي مرت بها الأجهزة الأمنية في السنوات الأخيرة، وكان مطلع عام 2000 فترة تأسيس أحمد نظيف وحكومته الذكية[31] لقطاع الاتصالات والبنى التحتية، حيث أصدرت عام 2003 القانون رقم 10 لسنة 2003 الخاص بتنظيم الاتصالات، والذي مثل أولى محاولات تعرف جهاز الدولة العتيق على التقنيات الحديثة التي خلقها الفضاء غير المحدود ومحاولة التحكم فيها من خلال بنود القانون. وقد خلق مجال الاتصالات فضاءً افتراضيًا أرحب وأوسع للأفراد لإنتاج محتوى ونشره وتداوله، بعيدًا عن الواقع المألوف للدولة والذي كانت قد فرضت عليه سيطرتها. ومع ازدياد إمكانيات هذا الوسيط ازدادت محاولات الدولة للسيطرة عليه واللحاق بركبه.
وفي عام 2005 بدأت الدولة في السيطرة الإقتصادية على مجال الاتصالات، بالاستحواذ على الشركات المقدمة لخدمة الاتصالات[32]. إلا أن لحظة الخطر الحقيقية أحست بها الدولة مع انتشار الدعوة إلى إضراب 6 أبريل 2008، واستخدام الاتصالات في دعوة وحشد المعارضة السياسية للنظام، وهو الوقت الذي شكلت فيه الحكومة “غرفة الطوارئ” لأول مرة كما ذكرنا سابقًا.
“في 2005 بدأت الساحة السياسية في الشارع المصري تتسع، بدأت المظاهرات تخرج للتنديد بسياسة الحكومة وتعامل الشرطة مع المواطنين … بدأت المطالب تتصاعد للمطالبة بتغيير الحكومة … وقتها كان في شريحة من الشباب في الفترة دي ظهرت، جيل خريجي جامعات ملقوش وظائف مناسبة … لكن هذا الجيل متعلم ولديه القدرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة، وسائل الاتصال والكلام إياه ده، كانوا بيشكلوا عمود أساسي في إطار الحركة اللي بتحرك الشارع وتنظمه من خلال الاتصالات، الموضوع تصاعد وخد مرحلة أشد احتجاجات، الدعوة لاعتصامات، الدعوة لوقف الإنتاج زي ما حصل في المحلة 2008”
حبيب العادلي خلال دفاعه في محاكمة القرن[33]
أنشأ نظام مبارك إذًا غرفة كاملة للتحكم في الاتصالات والإنترنت بعد استخدامهم للدعوة للتظاهر عام 2008، وبعد إدراكه لإمكانيات هذا الفضاء. خلصت محكمة القضاء الإداري في حيثيات حكمها إلى أن قرار قطع الاتصالات وخدمات الإنترنت أثناء الثورة لم يستهدف حماية الأمن القومي، وإنما حماية النظام الحاكم والحفاظ على مبارك رئيسًا للجمهورية، وأنه لم تكن هناك ثمة حالة تدعو للمساس بالأمن القومي بما يتطلب الحماية وإصدار ذلك القرار، وأن ما حدث في يناير حالة من حالات التعبير السلمي عن الرأي اجتمع عليها الشعب المصري، طالبت بالعيش والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وضرورة إسقاط النظام القمعي المتسبب في الإفقار وتكبيل الحريات والنهب المنظم للثروات.
ولإزالة الخلاف حول ما يفترض أن يعنيه مصطلح “الأمن القومي”، وضعت المحكمة من خلال حيثيات حكمها هيكلًا مهمًا لهذا المفهوم، بعيدًا عن مفهوم الدولة الواسع والفضفاض والذي أقرته في قوانينها وأخضعته لتأويلات وتفسيرات السلطات الإدارية. ظهر مصطلح الأمن القومي لأول مرة نتيجة لقيام الدولة القومية، وكان مفهومًا محددًا يعني “قدرة الدولة على حماية أراضيها وقيمها الأساسية والجوهرية من التهديدات الخارجية، وبخاصة العسكرية منها، انطلاقًا من تأمين أراضي الدولة ضد العدوان الأجنبي، وحماية مواطنيها، ضد محاولات إيقاع الضرر بهم وبممتلكاتهم ومعتقداتهم وقيمهم هو دافع الولاء الذي يمنحه الشعب للدولة بالعقد الاجتماعي المبرم معه”، ومع تطور مفهوم قدرة الدولة، اتسع مفهوم الأمن القومي إلى “القدرة الشاملة للدولة والمؤثرة على حماية قيمها ومصالحها من التهديدات الداخلية والخارجية”، وهكذا أصبح للأمن القومي أبعادًا سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، وأيدلوجية، وجغرافية، وقد حددت المحكمة حدود البعد السياسي للأمن القومي بشقيه الداخلي والخارجي، وأن الداخلي منه معني بتماسك الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي والمواطنة وتراجع القبلية والطائفية بما يحقق دعم الوحدة الوطنية.
من هنا، من تأطير مفهوم الأمن القومي، ارتأت المحكمة أن قرار الدولة قطع الاتصالات عن المواطنين هو التهديد الحقيقي للأمن القومي، وأن القرار “تخفى بعباءة مقتضيات واعتبارات الأمن القومي” العارية من الصحة كما أسلفنا، وأن ما يهدد الدولة هو ما يتعين مواجهته بالإجراءات المقررة بقانون تنظيم الاتصالات، بينما لا يجوز مواجهة ما يهدد النظام من مطالبات سلمية بالتغيير بإجراءات قطع الاتصالات وقطع خدمات الإنترنت بدعوى حماية الدولة.
“سلامة الأمن القومي إنما تعني سلامة أمن البلاد، لا سلامة أمن النظام الحاكم الذي لا تكفل سلامته سوى تعبيره الصادق عن آمال وطموحات الشعب، وفقاً للعقد الاجتماعي الذي قام النظام على دعائمه. وبالتالي لا تكون سلامة الأمن القومي بتقطيع أوصال المجتمع وفصله عن بعضه البعض وعزل مواطنيه في جزر متباعدة، فالأمن يعني التواصل والتشاور والحوار وليس لأحد في مجتمع ديمقراطي أن يدعي الحق الحصري في صيانة أمن المجتمع؛ الذي يحافظ عليه ويحميه جموع المجتمع بالتواصل والتشاور والتحاور”
من حيثيات حكم المحكمة
الفصل الرابع: من المسئول عن قطع الاتصالات؟
“فإن القرار المشار إليه يكون قد صدر بمشاركة ومباركة ثلاثة أقطاب من الحاكمين والمتحكمين في أقدار الشعب المصري هم رئيس الجمهورية السابق ورئيس مجلس الوزراء الأسبق ووزير الداخلية الأسبق … فإن الثابت للمحكمة أن الجهة مصدرة القرار تذرعت باعتبارات الأمن القومي كسبب لقرار قطع خدمات الاتصالات وخدمات الإنترنت وقد انطوى ذلك على إخفاء للسبب الحقيقي الذي تبغيه من إصدار قرارها … فصار للقرار سبب ظاهر تدعيه الجهات مصدرة القرار وسبب باطن هو دافعها”
من حيثيات حكم قضية قطع الاتصالات
اختصمت الدعوى التي أقامها المركز المصري لحقوق السكن في 8 مارس 2011 اثنا عشر مسئولًا في نظام مبارك، من بينهم رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزراء الداخلية والاتصالات، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، رئيس الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، ورؤساء مجلس إدارة شركات الاتصالات الثلاثة؛ فودافون وموبينيل واتصالات، وفي مايو من نفس العام، أصدرت محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار حمدي ياسين عكاشة حكمًا قضائيًا يقضي بإدانة وتغريم مبارك ونظيف والعادلي 540 مليون جنية توزع فيما بينهم عن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد القومي جراء قطع خدمات الاتصال السلكية واللاسلكية فيما برأت بقية الأطراف المتهمة. حيث ألزمت العادلي بالنصيب الأكبر بدفع 300 مليون جنية، ومبارك 200 مليون، ونظيف 40 مليون إلى خزانة الدولة.
قصرت المحكمة الإدانة على مبارك ونظيف والعادلي بعد اطلاعها على ملابسات إصدار القرار وما أثبتته التقارير والمستندات، وقالت في حيثيات حكمها أنه على الرغم من أن هيئة الأمن القومي وهيئة الرقابة الإدارية أجهزة تحسب على الأمن القومي إلا أنه لم يثبت لهما أي دور في تقرير وجود حالة من حالات المساس بالأمن القومي، وأنهما بعيدين تمامًا عن نطاق مسئولية إصدار القرار، وكذا استثنت المحكمة باقي أعضاء اللجنة الوزارية التي اتخذت قرار القطع، وأوضحت أن القرار ناتج عن السياسية العامة التي انتهجها المتهمون، وأن شركات الاتصالات والإنترنت كان منوطًا بها تنفيذ القرار أيًا كانت درجة عدم مشروعيته خوفًا من إنهاء تراخيص عملها، أو من التعرض للعقوبة الجنائية المقررة بنص المادة (82) من قانون تنظيم الاتصالات.
استنادًا إلى حكم محكمة القضاء الإداري[34]، فإن وزير الداخلية الأسبق اللواء حبيب العادلي بصفته المسؤول عن تحديد تعرض الأمن القومي داخل البلاد للخطر من عدمه، وبحكم طبيعة عمله، أصدر قراره وتعليماته المشددة بضرورة قطع خدمات المحمول عن منطقة ميدان التحرير اعتبارا من بعد ظهر 25 يناير، وحتى صباح اليوم التالي، ثم قام بإصدار قراره وتعليماته المشددة إلى غرفة العمليات عدة مرات في 27 يناير بقطع الاتصالات وخدمات الانترنت لاعتبارات تخص الأمن القومي للبلاد.
وباعتبار أن تحديد وجود تهديد للأمن القومي من عدمه وقياس خطورته هو مسئولية أمنية بالأساس؛ لم تعترض أي من الجهات المشاركة في غرفة الطوارئ على قرار العادلي بقطع خدمات الاتصالات ونفذت الأمر بالتنسيق مع الشركات المعنية للإنترنت والمحمول في التوقيتات المطلوبة، وظلت خدمة الإنترنت مقطوعة حتى ظهر يوم الأربعاء 2 فبراير 2011، إلى أن أخطرت المخابرات العامة غرفة العمليات بإعادة الخدمة من جديد، وهو ما قامت بتنفيذه غرفة العمليات والشركات المعنية.
“أنا مكنتش اعرف ان قطع الاتصالات من سلطاتي … وأحمد نظيف عرفني في زيارته لطره، قال لي: لوزير الداخلية أن يطلب قطع الاتصالات لاعتبارات الأمن القومي، ولو اعرف ان ده قراري مكنتش عرضت الأمر على اللجنة الوزارية”
اللواء حبيب العادلي دفاعًا عن نفسه خلال محاكمات القرن
وفي دفاعه[35] عن العادلي قال الدكتور محمد الجندي خلال محاكمة القرن[36] أن المواد 1 و65 و67 من القانون رقم 10 لسنة 2003 الخاص بالاتصالات تعطي الحق لمسئولي الأمن القومي بقطع الاتصالات، وأن اللجنة التي نفذت الأوامر امتثلت للقانون، موضحًا أن قرار القطع جماعي لم يتخذه العادلي منفردًا اذ لا يمكنه تخطي رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس المخابرات العامة.
وقال عن ملابسات تشكيل اللجنة الوزارية التي أصدرت قرار القطع؛ أن الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك أجرى اتصالًا هاتفيًا برئيس الوزراء يأمره بتشكيل لجنة برئاسته تضم الأعضاء السابق ذكرهم سلفًا لبحث سبل ووسائل حماية الأمن القومي للبلاد أثناء تظاهرات 25 يناير، جاءت أوامر تشكيل اللجنة بعد اتصال بين العادلي ومبارك يعلمه الأول تطورات الأحداث ويبلغه خطورة الوضع.
وأضاف الجندي، أمام هيئة المحكمة، أن الأوامر التي أصدرها العادلي لغرفة الطوارئ كان سببها الظاهري الحد من زحف المتظاهرين إلى ميدان التحرير، وأن السبب الحقيقي الذي رفض العادلي ذكره واستعاض عنه بجملة “أسباب أخرى تخص الأمن القومي” يرجع إلى عام 2010؛ حيث علاقة شبكة تجسس بإحدى شركات التليفون المحمول في مصر، ودلل ع الأمر بحكم المحكمة الاقتصادية الصادر في 8 إبريل 2013، والذي أدان شركة “موبينيل” بعد قيام 4 من موظفيها بتركيب 16 هوائيا بمنطقة العوجة على الحدود مع إسرائيل مع توجيهها بعمق يصل إلى 25 كيلو داخل تل أبيب، ما سمح للعدو الصهيوني بإجراء مكالمات دون أدنى مراقبة من الدولة، وهو الأمر الذي اعتبره العادلي، وفقا لمحاميه تهديدا للأمن القومي، مما يخول له اتخاذ قرار القطع.
وفي معرض دفاعه؛ قال حبيب العادلي خلال وقائع محاكمة القرن[37]، أنه واللواء عمر سليمان قد أخبرا الرئيس الأسبق بأن الأوضاع تتصاعد في الشارع وتزداد خطورة، وأكدا وجود تسلل من عناصر خارجية، وعلى أثر التطورات طالب مبارك تشكيل لجنة وزارية برئاسة نظيف لمناقشة الأمر.
اجتمعت اللجنة في 20 يناير 2011 بالقرية الذكية وطالب نظيف ايفاءه بالمعلومات عما يحدث في الشارع، فأكد العادلي مرة أخرى على خطورة الوضع معلنًا عدم قدرته على المواجهة إذا استمرت الاحتجاج، وأشار إلى أن سليمان كان يرى أن الوضع أسوأ مما عُرض مطالبًا الجيش بالاستعداد للنزول.
“الاتصالات تتم عن طريق الإنترنت والحشد هيبقى كبير جدا ف أنا أرى ضرورة قطع الاتصالات” بهذه الجملة أعلن حبيب العادلي عن خطته للجنة الوزارية التي لم يعترض أي من أعضائها، وأوضح العادلي أن الأمر تم دون تصويت رسمي وهو أمر متفق عليه في مثل هذه الاجتماعات، وانه في حال اعتراض أي من الأطراف يطرح الأمر للنقاش.
تابع العادلي إذن تنفيذ قراره، حيث دعا لاجتماع ضم مساعديه في 24 يناير لمتابعة تنفيذ الخطة الأمنية للتأمين خلال أحداث 25، كما دعا لاجتماع مساعدين آخر صباح يوم 27 بعد اضافة اثنين آخرين من مساعديه من بينهم اللواء مرتضى عبد الرحمن مساعد الشئون الفنية والمنوط به رصد الاتصالات. “الاجتماع الثاني العاجل جاء بعد تأكيد الاتصال بين الإخوان وحماس والبدو لتنفيذ خطتهم بالتسلل”، بحسب ما ادعاه العادلي خلال وقائع محاكمته في قضية قتل المتظاهرين.
على الرغم من أن وزير الداخلية الأسبق كان وسيلة إبلاغ غرفة العمليات بالقرار، إلا أن رئيس مجلس الوزراء أحمد نظيف قد شارك في اتخاذ قرار قطع الاتصالات، وتقول المحكمة في حيثيات حكمها أن نظيف بادر قبل احتجاجات يناير بأيام إلى تشكيل اللجنة الوزارية التي أصدرت القرار، بهدف التصدي لتظاهرات 25 يناير.
وبموجب المواد 138 و153 و156 من دستور 1971 المعمول به وقت قطع الاتصالات، والذي أعطى لرئيس الوزراء ورئيس الجمهورية السلطة المشتركة في رسم السياسة العامة للدولة، فقد دعا نظيف لانعقاد اللجنة الوزارية بعد تلقيه الأوامر من مبارك، وبرئاسة نظيف وتوجيهاته اتخذت في 20 يناير قرارها بقطع الاتصالات، كما ترك لوزير الداخلية تقدير توقيت القطع وتوجيه الأوامر الأمنية إلى غرفة الطوارئ.
وبصفته رئيسًا للبلاد تقع عليه مسئوليات مفترضة وأخرى مقررة دستوريًا، فإن محمد حسني مبارك مسئول بشكل كامل عما يمس سلامة وأمن المواطنين بقدر مسئوليته عن سلامة أمن البلاد و”أمنها الوطني”. وبوصف رئاسة الجمهورية أحد أجهزة الأمن القومي وفقًا للتعريف الذي أورده قانون تنظيم الاتصالات في مادته الأولى، فقد ارتأت المحكمة أنه على العكس من ذلك قد عرض المتظاهرين السلميين للخطر “بتقطيع أوصال الأمة” حماية لأمن النظام لا الأمن القومي للدولة المصرية”[38].
وبالرغم من تنصل مبارك من قطع الاتصالات، ونفيه العلم بقرار اللجنة الوزارية بتطبيق المادة (68) من قانون الاتصالات، إلا أن المواد 141 و142 و159 من دستور 71 والتي تقر سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية تعطي الأخير الحق في تعيين رئيس مجلس الوزراء ونوابه، والوزراء ونوابهم، وإعفائهم منها، وله حق طلب تقارير من الوزراء بما توصلوا له من قرارات، فضلًا عن حقه الدستوري في إحالة رئيس الوزراء أو أي من الوزراء إلى المحكمة إذا وقعت منهم جرائم أثناء تأدية أعمال وظيفتهم أو بسببها.
“فإن رئيس الجمهورية السابق كمتبوع يكون مسئولًا عن الضرر الذي يحدثه وزير الداخلية الأسبق ورئيس مجلس الوزراء الأسبق كتابعين عن عملهما غير المشروع، وقد استغل كل منهما وظيفته ليصدر القرار وينفذه، في ضوء ما لرئيس الجمهورية عليهما من سلطة فعليه في رقابتهما وتوجيههما”
من حيثيات حكم قطع الاتصالات
شركات الاتصالات.. براءة من المحكمة وإدانة شعبية
برأت محكمة القضاء الإداري شركات الاتصالات من مسئولية القطع أثناء أحداث الثورة المصرية وما ترتب على القرار من أضرار، وارتأت أن ما قامت به الشركات وإن كان غير مشروع إلا أنه جاء تنفيذًا لقرار اللجنة الوزارية خوفًا من إنهاء تراخيص عملهم في مصر، أو من التعرض للعقوبة الجنائية المقررة بنص المادة 82 من قانون تنظيم الاتصالات.
تنص المادة 82 من القانون رقم 10 لسنة 2003 على أنه “يعاقب بالحبس كل من خالف أوامر الاستدعاء المنصوص عليها في المادة 67 من هذا القانون. وتكون العقوبة السجن إذا وقعت الجريمة في زمن الحرب أو في الحالات التي تعلن فيها التعبئة العامة طبقا لأحكام القانون رقم 87 لسنة 1960 في شأن التعبئة العامة. وفى جميع الأحوال تحكم المحكمة بوقف الترخيص مؤقتا لحين قيام المخالف بتنفيذ أمر الاستدعاء الصادر إليه”.
وقد أفرد التقرير النهائي للجنة التحقيق وتقصي الحقائق[39]، والتي تشكلت بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم ٢٨٤ لسنة ٢٠١١، فصلًا يوثق عملية قطع الاتصالات أثناء الثورة كجزء من التحقيق في الأحداث التي واكبت الثورة المصرية منذ ٢٥ يناير ٢٠١١ وحتى ٩ فبراير من نفس العام. حيث أجرت اللجنة تحقيقات مع الدكتور عمرو بدوي محمود الرئيس التنفيذي للجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، وشملت التحقيقات خطاب من رئيس مجلس إدارة شركة اتصالات مصر، وخطاب من العضو المنتدب والمدير التنفيذي لشركة فودافون مصر، وخطاب من رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية لخدمات التليفون المحمول (موبينيل).
تضمنت الخطابات الثلاث إفادات واحدة تقريبًا؛ أن جهات أمنية دعت شركات الاتصالات الثابتة والمحمولة والإنترنت لاجتماع بمقر الجهاز القومي في 23 يناير، ضم الاجتماع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، وممثل عن وزارة الاتصالات، وممثلي الجهات الأمنية والجهات السيادية. ولم تنص اللجنة صراحة عن ماهية هذه الجهات التي اتخذت قرار قطع الاتصالات، إلا أن التقرير أوضح أنهم استندوا في انشائهم غرفة الطوارئ على المادة 67 من قانون تنظيم الاتصالات، وأن شركات الاتصالات نفذت الأمر تطبيقًا لأحكام الباب السادس من قانون تنظيم الاتصالات.
أكدت إذن شركات الاتصالات تواجدها كممثل في اجتماعات غرفة الطوارئ وتنفيذ أوامر قطع الاتصالات تطبيقًا للقانون، إلا أن تقريرًا نشرته صحيفة التايمز البريطانية قال خلاله الرئيس التنفيذي لشركة فودافون مصر حاتم دويدار[40] أن فودافون قاومت قطع الاتصالات عن مصر لكنها اضطرت للخضوع في النهاية تحت ضغط السلطات، وأضاف أنهم أُجبروا بعد مهاجمة قوة مسلحة للمقر وأسر 3 مهندسين وضرب أحدهم، وأن قوات أمن مسلحة هددته بأن العواقب ستكون وخيمة عليه وعلى موظفيه إذا لم يتجاوب.
وقال دويدار أن فودافون كانت آخر شبكة تقطع الاتصال في مصر بخلاف الشركات الأخرى التي قطعت الاتصالات بمجرد ظهور الضباط في مكاتبها، موضحًا أن المدير التنفيذي لـ فودافون لندن فيتوريو كوالو صدق على قرار قطع الاتصالات عن مصر.
وأضاف في محاولة دفاعه عن الشركة أن المواطنين كانوا غاضبين على النظام وليس من شركات المحمول الثلاثة، مدعيًا بأن المصريين لا يحملون فودافون المسئولية، وأنهم لم يتلقوا اللوم سوى من بعض النشطاء على تويتر “ممن يلومون الشركات الكبرى”.
وعلى الرغم من التبرئة القانونية لشركات الاتصالات سواء فيما انتهى إليه حكم القضاء الإداري، أو فيما خلص إليه تقرير لجنة تقصي الحقائق في إحدى نقاطه من أن قطع الاتصالات قد أضر شركات الاتصالات في مصر، إلا أن المستندات التي عثر عليها المواطنون أثناء اقتحام مقرات أمن الدولة والمرفقة أعلاه تؤكد أن شركات الاتصالات لم يتوقف دورها على حد تنفيذ الأوامر وحسب، لكنها كانت بالتشارك مع الجهات الأمنية تقترح خططًا وحلولًا وتقنيات تزيد من تحكم الجهات الأمنية في مجال الاتصالات وانتهاك خصوصية المواطنين.
يعتقد رامي رؤوف أنه كان بإمكان شركات الاتصالات اتخاذ موقف مختلف، وأوضح أن شركة نور وهي إحدى الشركات مقدمة خدمة الانترنت ظلت قائمة في عملها. بنى رءوف اعتقاده بعد تجميع شهادات إحدى عشر عاملًا بشركات الاتصالات المملوكة للقطاع الخاص ممن تواجدوا بمقر عملهم في الفترة من 10 يناير وحتى 11 فبراير.
وقال إن شركات الاتصالات لم تفاجأ ولم تضطر بل تواطأت في التنفيذ، وأن الشهادات تؤكد صدور تنبيهات للموظفين في 18 و19 و20 يناير تفيد باحتمالية قطع رسائل التليفون القصيرة (SMS) وخدمة الـ 3G بدءً من 25 يناير، كذلك رسائل بريد إلكتروني للفريق التقني في شركات الاتصالات يتضمن تعليمات بالاستعداد تقنيًا لتنفيذ القطع، وأن أكثر من مهندس تقني تولى عملية القطع في بعض الشركات، فقطع أحدهم خدمة الـ 3G فيما تولى الآخرون قطع خدمة البلاك بيري والرسائل القصيرة.
وبعكس ما يرى دويدار من أن المصريين لا يحملون المسئولية لشركات الاتصالات، فإن دعوات تُطلق سنويًا في ذكرى قطع الاتصالات تدين شركات الاتصالات جنبًا إلى جنب مع الدولة، كما تصدر هاشتاج “مليونية مقاطعة شركات الاتصالات”[41] في عام 2015 موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” لفضح تواطؤ شركات الاتصالات في مصر واشتراكها في عمليات تجسس لصالح الجهات الأمنية.
وفي عام 2016 بالتزامن مع الذكرى الخامسة للقطع، دعت صفحة “ثورة الإنترنت”[42] لمقاطعة شركات الاتصالات يوم 28 يناير، لرفض سياسات تحجيم الإنترنت وحجب المكالمات والانترنت المحدود والاستخدام العادل، وقالت الصفحة في دعوتها “كلنا زهقنا من انتهاكات الشركات المزودة لخدمة الموبايل، والانترنت في مصر والمسئولين ساكتين عليهم ويشجعوهم بسكوتهم، بس إحنا مش هنسكت على أي شيء حصل منهم، وفـي كل ذكرى لحاجه عملوها ضد المستخدم المصري هنخسرهم قصادها ملايين”. وأضافت: «يوم 28 يناير قطعوا الاتصالات عننا غير انتهاكاتهم المستمرة في حق المستخدم المصري”[43].
خاتمة
حاولت مؤسسة حرية الفكر والتعبير من خلال هذا التقرير أن تتيح الفرصة للروايات البديلة حول وقائع قطع الاتصالات أثناء ثورة يناير 2011، ورغم صعوبة الوصول لمعلومات أكثر شمولا، إلا أن التقرير جمع تفاصيل متفرقة ووثق شهادات لذوي ضحايا ونشطاء، في محاولة للحفاظ على الذاكرة ورفع الصوت حتى لا تتكرر هذه الانتهاكات ثانية.
للاطلاع على التقرير بصيغة PDF من هنا
الهوامش
[1] ملحق 1: صورة للخط الزمني لقطع الاتصالات في مصر، مصدر الصورة: https://goo.gl/8TNULC [2] اعتمد توثيق مراحل عملية قطع الاتصالات على مدونة رامي رءوف، الباحث بمجال الحريات الرقمية، المواقيت المذكورة وفقا لتوقيت القاهرة والأرقام المذكورة تقريبية، نشر في 23 يونية 2011، تاريخ آخر زيارة يناير 2018 Egypt: Timeline of Communication Shutdown during the Revolution https://goo.gl/UfuYVf [3] ملحق 2: صورة توضح حركة تداول البورصة من خلال شركة "نور" فقط مصدر الصورة: https://goo.gl/T5g1QD [4] آخر كلام: في بيتنا "جاسوس" .. تجسس الدولة على المصريين، أون تي في، نشر في 20 فبراير 2013، آخر زيارة يناير 2018 https://goo.gl/pjjQD6 [5] تشكلت حركة "شباب 6 أبريل" من رحم أحداث المحلة، وارتبط اسمها بهذه الأحداث [6] تحقيق: بعد كفاح سنوات..المحلة الكبرى تعلق آمالا حذرة على الانتخابات، رويترز، نشر في 3 يناير 2012، آخر زيارة يناير 2018 https://goo.gl/1NE55R [7] ملحق 3: الوثائق المسربة من جهاز أمن الدولة بخصوص اجتماع لغرفة الطوارئ. [8] "فرم مستندات أمن الدولة" ما آل إليه أرشيف القمع في مصر، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، نشر في ..... [9] ملحق 4: وثيقة مسربة تشير إلى مراسلة من أحد مكاتب أمن الدولة إلى مكتب وزير الاتصالات. [10] أحمد حماد وهبة الشافعي، تعددت الشائعات و"موت مبارك" واحد.. الرئيس الأسبق توفى أكثر من 13 مرة منذ 2004 بدايتها على يد إبراهيم عيسى.. "السرطان" و"السكتة القلبية" أبرز الأسباب.. الإعلام والإخوان والقوى السياسية يتقاسمون الشائعة، نشر في 13 ديسمبر 2015، آخر زيارة يناير 2018 https://goo.gl/ssV81s [11] دويتشه فيليه، مبارك يعود إلى مصر بعد رحلة علاجية في ألمانيا، نشر في 27 مارس 2010، آخر زيارة يناير 2018 https://goo.gl/RQr76j [12] ملحق 5: دعوة وزير الاتصالات لاجتماع تنشيطي لغرفة العمليات. [13] ملحق 6: الاجتماعات السابقة وأهداف غرفة العمليات. [14] آخر كلام: في بيتنا "جاسوس" .. تجسس الدولة على المصريين، أون تي في، نشر في 20 فبراير 2013، آخر زيارة يناير 2018 https://goo.gl/pjjQD6 [15] وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات https://goo.gl/SdfUmb [16] الصفحة الرسمية لموقع الدستور الأصلي على فيسبوك، بيان .. السلطات المصرية تحجب الفيس بوك والتويتر والدستور الأصلي، نشر في 25 يناير 2011، تاريخ آخر زيارة مارس 2018 https://goo.gl/CT25QA [17] مدونة خالد عطية، الطرق المتعددة لفتح المواقع المحجوبة في مصر، نشر في 26 يناير 2011، تاريخ آخر زيارة مارس 2018 https://goo.gl/7dPPwU [18] شهادة منى سيف لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، والتي حصلت عليها المؤسسة في فبراير 2018، وجرى أرشفتها. منى سيف كما تفضل تعريف نفسها: مهتمة بالمجال الحقوقي وبواقع حقوق الانسان في مصر وعضو مؤسس في مجموعة لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين. [19] منى سيف، أجرت الباحثة مقابلة مع منى سيف في فبراير 2018. [20] علاء عبد الفتاح سيف، ناشط ومدون مصري تواجد أثناء الأحداث محل التقرير في جنوب أفريقيا. يقضي علاء الآن عقوبة بالسجن خمس سنوات لاتهامه ب... [21] نورا يونس وبسمة المهدي، "المنصة" تفتح صندوق الثورة الأسود: كيف غَرّد المصريون حين انقطع الإنترنت، المنصة، نشر في 28 يناير 2017، تاريخ آخر زيارة مارس 2018 https://goo.gl/ZiRt8M [22] الحساب الشخصي للمبرمج عبد الكريم مارديني على موقع التواصل الاجتماعي تويتر https://goo.gl/EGH8yM [23] الحساب الرسمي لخاصية Speak To Tweet على موقع تويتر، تاريخ آخر زيارة مارس 2018 يجدر الإشارة إلى أن الملفات الصوتية المحملة على الحساب جرى تعطيلها ولم نتمكن من معرفة السبب. ملحق 7 (صورة). https://twitter.com/speak2tweet [24] الحساب الرسمي لموقع المنصة على SoundCloud، صندوق الثورة الأسود 2 https://goo.gl/DmUf8H [25] الحساب الرسمي لموقع المنصة على SoundCloud، صندوق الثورة الأسود، رسالة منى سيف https://goo.gl/mNzfke [26] OECD, The economic impact of shutting down Internet and mobile phone services in Egypt, نشر في 4 فبراير 2011، تاريخ آخر زيارة فبراير 2018 [27] تدوينه على موقع التواصل الاجتماعي "لهالة" شقيقة "هدى" إحدى ضحايا قطع الاتصالات، وقد حصلت مؤسسة حرية الفكر والتعبير على شهادتها عن الواقعة. [28] حصلت مؤسسة حرية الفكر على شهادة مع هالة شقيقة هدى إحدى ضحايا قطع الاتصالات، صورت الشهادة في يناير 2018، وتحتفظ بها حرية الفكر ضمن أرشيف شهادات المؤسسة. [29] قضايا، بلاغ ضد وزير الاتصالات وشركات المحمول الثلاثة بتهمة الاشتراك في قتل المتظاهرين، آخر زيارة بتاريخ مارس 2018 [30] الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ثلاثة سنوات على جمعة الغضب وقطع الاتصالات: الرئيس القاضي يتجاهل العدالة والمشير السيسي لا يتحرك والقضاء العسكري يجمد القضية، والمجلس القومي لحقوق الانسان يتواطأ، لان المتهم عسكري، نشر في 29 يناير 2014، تاريخ آخر زيارة مارس 2018 [31] أطلقت حكومة أحمد نظيف اسم "الحكومة الذكية" على تشكيلها لارتباط وجودها بإحداث تطورات في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات [32] محمد حمامة، مراقبة الاتصالات ... كيف ستنتهي محاولات الدولة للسيطرة على “الفضاء”؟، مدى مصر، نشر في 21 مايو 2015، آخر زيارة بتاريخ مارس 2018 https://goo.gl/KBj5qR [33] محاكمة القرن | الاستماع لـ تعقيب " العادلي " الجزء الثاني، يوتيوب، نشر في 9 أغسطس 2014، آخر زيارة فبراير 2018 https://goo.gl/iEEfvw [34] حيثيات حكم محكمة القضاء الإداري الصادر في مايو 2011، في القضية رقم 21855/65 في القضية والمعروفة باسم قضية "قطع الاتصالات" [35] الجزء الاول من مرافعة الدكتور محمد الجندي محامي حبيب العادلي، يوتيوب، نشر في 7 أبريل 2014، آخر زيارة فبراير 2018 https://goo.gl/RKvA5P [36] مصطلح أطلق على جلسات محاكمة الرئيس المصري الاسبق حسني مبارك أمام محكمة الجنايات بتهمة "قتل المتظاهرين"، تضم القضية أيضاً نجليه علاء وجمال، إضافة إلى وزير داخليته، حبيب العادلي، وستة من كبار مساعديه السابقين. [37] محاكمة القرن | الاستماع لـ تعقيب " العادلي " الجزء الثاني، يوتيوب، نشر في 9 أغسطس 2014، آخر زيارة فبراير 2018 https://goo.gl/iEEfvw [38] حكم المحكمة. [39] ترأس لجنة التحقيق وتقصي الحقائق المستشار عادل قورة، الرئيس الأسبق لمحكمة النقض، وبعضوية كلًا من المستشار إسكندر غطاس، مساعد وزير العدل الأسبق، والمستشار محمد سمير بدران، الأستاذ المتفرغ بحقوق القاهرة، ونجوى حسين خليل، مدير المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وغيرهم من فريق المحققين. [40] Nic Fildes, The day Vodafone Egypt boss was forced to close network at gunpoint, The Times,، نشر في 20 أكتوبر 2012، تاريخ آخر زيارة يناير 2018 [41] مصطفى الهاوي، هاشتاج «مليونية مقاطعة شركات الاتصالات» يتصدر «تويتر»، التحرير الإخباري، نشر في 25 يونيه 2015، تاريخ آخر زيارة فبراير 2018 https://goo.gl/27Pbhj [42] الصفحة الرسمية لصفحة "ثورة الإنترنت" على موقع فيسبوك، تاريخ آخر زيارة مارس 2018 https://goo.gl/fmp4ki [43] باسل باشا، في ذكرى قطع الشبكات وقت الثورة.. «ثورة الإنترنت» تدعو لمقاطعة شركات الاتصالات 28 يناير لرفض تحجيم الانترنت، البديل، نشر في 3 يناير 2016، تاريخ آخر زيارة فبراير 2018 https://goo.gl/ZevUno