إعداد: سارة رمضان، باحثة بوحدة أبحاث القانون بمؤسسة حرية الفكر والتعبير
المحتوى
منهجية
مقدمة
تمهيد: ماذا حدث
أولًا: سكوت لم يكن الأول.. جدل الأفروسنترزم
ثانيًا: نقابة المهن الموسيقية وصراع حول الهوية
ثالثًا: هل يجب على النقابة تجاهل مخاوف الجمهور؟
رابعًا: هل يحق للنقابة التراجع بعد منح الترخيص؟
خاتمة
منهجية
اعتمدت الورقة على الأخبار والتقارير الصحفية المنشورة، التي تضمنت تصريحات ممثلي نقابة المهن الموسيقية بخصوص وقائع المنع، كما اعتمدت على تحليل القانون رقم 35 لسنة 1978 في شأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، إضافة إلى اللائحة الداخلية لنقابة المهن الموسيقية، التي أقرها مجلس النقابة في 2007، وصدقت عليها الجمعية العمومية في نفس العام.
مقدمة
برزت أخيرًا مسألة تقييد حرية الإبداع المدفوعة بخطاب جماهيري يؤيد بل ويطالب بهذا التقييد، حيث شهدنا في الفترة الأخيرة إلغاء أو تأجيل حفلات لممارسي المهنة من الأجانب لأسباب عدة، منها الأخلاقي بطبيعة الحال، وكذلك لأسباب تتعلق بالهوية والقومية، وهو الأمر الذي برز بشدة في أزمات إقامة الحفلات في مصر.
وقد أعلنت المنتجة ومنسقة الموسيقى الكندية بلونديش Blondish عن تأجيل حفلها في الساحل الشمالي، الذي كان من المقرر إقامته في 26 يوليو 2024، وذلك بعد حملة على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بإلغاء الحفل بسبب دعمها لدولة الاستيطان والفصل العنصري “إسرائيل” وللمثلية الجنسية. لم تعلن نقابة المهن الموسيقية عن موقفها رغم مطالبات الجمهور، إلا أنه في سياق ديمقراطي يمكن تخيل إقامة الحفل وبجانبه تظاهرات المعارضين، لكن مسألة تقييد حرية الإبداع وحرية التعبير بوجه عام هو المحرك الأساسي لسياسات هذا النظام، وهذه السياسات هي التي تؤدي دورًا في تحجيم مشاركة المواطنين إلا من خلال المطالبة بتدخل الجهات الأمنية أو مطالبة النقابة بممارسة أدوار من شأنها المساهمة في فرض مزيد من الحصار على حرية الإبداع.
وفي إبريل 2024، ألغي حفل مغني الراب كانييه ويست، والذي كان من المقرر إقامته في 20 إبريل 2024، وفيما أكد مصدر صحفي لأحد المواقع أن الإلغاء جاء لاعتبارات أمنية، أكدت النقابة بشكل رسمي أن الحفل تم إلغاؤه “لأسباب شخصية” تخص كانييه، إلا أن الإلغاء جاء بعد حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بالتدخل لإلغاء الحفل لتعارض أعمال كانييه مع العادات والتقاليد المصرية، وكذلك لمشاركة كانييه نفس توجهات ترافيس سكوت حول المركزية الإفريقية، وهي الحالة الأبرز والتي سيتناولها التقرير بالتفصيل، إلا أن أزمة منع حفل ترافيس سكوت ومن بعدها إلغاء حفل كانييه أدت إلى مطالبات البعض بإلزام نقابة المهن الموسيقية دراسة المحتوى الفني الذي سيقدم في الحفل للوقوف على مدى اتفاقه مع الهوية المصرية والآداب والذوق العام وقيم المجتمع المصري. ووفقًا للقانون فإنه يجري بالفعل ترقيب محتوى الحفلات عبر تقديم الأغاني مكتوبة لجهاز الرقابة على المصنفات الفنية.
وقد عبرت أزمة حفل سكوت عن خطورة ومدى تقييد حرية الإبداع، إذ تضمنت بشكل واضح إعلان نقابة المهن الموسيقية أن الموافقات الأمنية شرط أساسي لموافقة النقابة على إقامة الحفلات في مصر، إضافة إلى إعلان النقابة الاستناد إلى وسائل التواصل الاجتماعي في اتخاذها القرارات، وقد تضمنت واقعة حفل سكوت كذلك ترسيخًا لأحقية النقابة في التراجع عن قراراتها بالمخالفة للقانون رقم 35 لسنة 1978 المنظِّم لعملها.
ألغت نقابة المهن الموسيقية، حفل مغني الراب الأمريكي، ترافيس سكوت، الذي كان من المقرر إقامته في منطقة الأهرامات يوم 28 يوليو 2023، لإطلاق أول ألبوم له بعد انقطاع 5 سنوات. وكانت نقابة المهن الموسيقية في مصر، قد أصدرت بيانًا، قبل الحفل بـ 10 أيام، في الثلاثاء ١٨ يوليو، بالتراجع عن الموافقة، وإلغاء تصريح الحفل، وذلك على الرغم من نفاد تذاكر الدخول بعد الإعلان عنها في أقل من نصف ساعة. وقد استندت النقابة في قرارها إلى “استطلاع آراء رواد مواقع التواصل” الذين أدانوا إقامة الحفل بحسب البيان.
تمهيد: ماذا حدث
أثارت دعاية حفل سكوت جدلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي، وامتزجت فيها الانتقادات والمخاوف بين معايير السلامة والأخلاق وقيم الأسرة والهوية المصرية، حيث تركزت على ما سمي ممارسة المغني طقوسًا شيطانية وماسونية خلال حفلاته، إضافة إلى الممارسات الجنسية غير السوية وتعاطي المخدرات، وادعى آخرون استخدام سكوت الأرواح البشرية كقربان للشيطان وفق معتقداته، وهو الأمر الذي جاء تفسيرًا منهم لحادث حفل أقامه سكوت بالولايات المتحدة عام 2021، شهد مقتل 10 أشخاص وإصابة المئات، نتيجة التكدس والتدافع الشديد للحضور.
أما فيما يتعلق بالانتقادات حول الهوية المصرية فقد جاءت لانتماء سكوت إلى الأفروسنتريك أو “الحركة المركزية الإفريقية”، التي تتبنى أفكارًا تتعلق بتنمية الوعي حول الثقافة الإفريقية عبر التاريخ، وتسليط الضوء حول تلك الهوية وأهميتها لا سيما في مواجهة خطاب المركزية الأوروبية البيضاء، وهو ما حوَّل حفلًا غنائيًّا إلى صراع على الهوية واتهامات بمحاولة خطف التاريخ والحضارة المصرية.
أولًا: سكوت لم يكن الأول.. جدل الأفروسنترزم
في فبراير عام 2023، أعلنت[1] الشركة المنظمة لحفل ستاند أب كوميدي للممثل الأمريكي كيفن هارت في بيان رسمي إلغاء الحفل لأسباب لوچيستية، وذلك قبل بضع ساعات من إقامته في إستاد القاهرة، وذلك بعد حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لالغاء الحفل تحت اسم “غير مرحب بك في مصر”، وهي الحملة التي بدأتها صفحة “وعي مصر” بسبب انتماء هارت إلى حركة الأفروسنتريزم. وفيما يبدو أن السلطات الأمنية قد تدخلت لمنع إقامة الحفل، حيث أعلن مؤسس الصفحة عن سعادته بالسرعة التي استجاب بها المسؤولون قائلًا: “شعرنا بأن جهودنا كُللت بالنجاح، وواجب علينا شكر المسؤولين على خطوة منع هذا الفيروس الخبيث من الانتشار”.
كما انقلب الرأي العام المصري في إبريل من نفس العام، على أثر تجسيد[2] ممثلة ذات بشرة سمراء لشخصية الملكة كليوباترا في فيلم وثائقي من إنتاج شركة نيتفليكس، وقد تضمن الإعلان الترويجي للوثائقي أن تراث كليوباترا كان موضع كثير من الجدل الأكاديمي، يتبعه تأكيد على لسان أحد المعلقين في الفيلم بأن كليوباترا كانت ذات بشرة سمراء على عكس الشائع. انتقد كثيرون تصوير الفيلم الملكة كليوباترا ببشرة داكنة وهي من أصول مقدونية، الأمر الذي اعتبره المنتقدون تزويرًا في تاريخ مصر القديم، وقد فتح هذا الجدل النقاش حول أفكار حركة “الأفروسنترزم”، التي تتبنى فكرة أن جميع حضارات العالم كانت تضم ذوي البشرة السوداء.
ظهر هذا التوجه الفكري في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وتمركز في الولايات المتحدة الأمريكية وسط الأفارقة الأمريكيين قبل أن ينتشر في أوروبا وإفريقيا، وتجادل المركزية الأفريقية أو الأفروسنترزم أن المجتمع الغربي الذي يدعي أن أوروبا هي المركز الحضاري والثقافي، قد طمس سواء عن قصد أو بدون، أي إسهام للأفارقة في التاريخ، وفي مقابل المركزية الأوروبية، تسعى المركزية الإفريقية إلى تسليط الضوء على إسهامات الحضارة الإفريقية، وإلى نقد الاستعمار والعبودية باعتبارهم مساهمين في عملية إخراج الأفارقة من كتابات التاريخ.
واجهت هذه النزعة انتقادات عدة، منها الرجعي الذي يجادل بتفوق العرق الأبيض بما في ذلك بيولوجيًّا، ومنها التقدمي الذي يجابه فكرة وجود مركز كطريقة للنظر في وقراءة التاريخ، سواء كان هذا المركز أوروبيًّا أو إفريقيًّا، وعوضًا عن ذلك يرى التاريخ بتعدد الإسهامات المختلفة فيه. ولكن ما علاقة هذا الجدل الفكري بحفل موسيقي؟
ثانيًا: نقابة المهن الموسيقية وصراع حول الهوية
منذ تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي الحكم في 2014، وهو دائم التأكيد على مسألة الهوية المصرية وقيم وعادات الأسرة والمجتمع، ومنذ اللحظة الأولى لحكمه، وهو يحمِّل[3] الجماعة الفنية والثقافية والإعلامية عبء هذه المهمة المستحيلة، وهي الترويج لهوية وطنية متخيلة جامعة للمصريين وذات طبيعة محددة ومحدودة، بحيث تمثل صوتًا واحدًا يردد عبر قنوات الدولة الرسمية، وتتبناه الجماعة الفنية القريبة من السلطة، وذلك في استحضار لنموذج الإعلام الناصري “إعلام الصوت الواحد”، والذي عبر الرئيس في أكثر من معرض عن إعجابه به، وهو أن يكون الإعلام والفن صوت السلطة والمؤسسة الحاكمة.
عزز هذا التوجه عددًا من القوانين والقرارات الإدارية والممارسات التي تقيد المجال العام بوجه عام وحرية الإبداع والتعبير الفني بوجه خاص، وقد كانت نقابة المهن الموسيقية[4] خلافًا لباقي النقابات الفنية الأكثر حماسًا للتعبير عن هذا التقييد، والأكثر تعبيرًا عن هذا التوجه، بدءًا من معركتها مع المهرجانات والراب، التي استخدمت خلالها مسألة الهوية، ووصولًا إلى شطب أعضاء في النقابة بناءً على توجهاتهم السياسية أو الشخصية، بما يشمل تعبيرهم الحر عن أمور لا تخص عمل النقابة، وقد تحولت نقابة المهن الموسيقية في السنوات الأخيرة إلى يد للسلطة وتوجهاتها، كأن تصدر النقابة بيانًا[5] لدعم الدولة المصرية في استكمال ومواصلة خطط الإصلاح الاقتصادي وتنفيذ المشروعات القومية، وفي الحرب على الإرهاب، وفي بيان[6] آخر للنقابة تدعم فيه الشرطة المصرية في حربها على الإرهاب.
ساهم هذا الخطاب، وطريقة الإدارة هذه، في التشجيع على إثارة الخطابات الرجعية والأحادية المنغلقة على الذات. فالحديث عن هوية مصرية جامعة لـ106 مليون مواطن، هو أمر مستحيل، خاصة مع ربطها بمجموعة قيم وعادات غير معروفة تتحدث عنها السلطة بشكل دائم، وهو الأمر الذي عزز الخوف من كل جديد أو مختلف عن الخط المرسوم من السلطة، وتجلت هذه السياسة في قوانين مثل قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، الذي ترتب عليه القبض على فتيات ومحاكمتهن بسبب الرقص على التيك توك واتهامات أخرى من بينها هدم قيم الأسرة المصرية والهوية وغيرها من هذه المصطلحات الفضفاضة، وذلك عقب حملة تحريض واسعة على منصات التواصل الاجتماعي طالت الفتيات.
وقد رافق دعاية حفل سكوت حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بالإلغاء، أو تعلن عن مخاوفها وقلقها من سكوت ومسألة الطقوس الغريبة وعبادة الشيطان، وتجدر الإشارة هنا إلى أن عبادة الشيطان أحد الاتهامات التي طالت موسيقى الميتال منذ التسعينيات في مصر، وتسببت في حملات أمنية للقبض على جمهور الحفلات أو حتى منع إقامتها، وقد رفع[7] المحامي بالنقض، عمرو عبدالسلام، دعوى قضائية تطالب بإلغاء حفل سكوت، واستند في دعواه إلى خطاب الهوية والقيم نفسه، قائلًا: “طقوس غريبة تقام في الحفل، نحن كشعب مصري عربي نلتزم بالقيم الدينية والعادات والتقاليد التي ترفض أي ممارسات تمثل خطرًا على شبابنا وبناتنا وتسيء إلى سمعة وهوية الشعب المصري والدولة المصرية”.
وفي أزمة سكوت، قررت النقابة اتباع نفس السياسات المقيدة والمعادية لحرية الإبداع الفني، المتجاهلة للدستور المصري، حيث أصدرت بيانًا بإلغاء الحفل، وذلك بدلًا من اتخاذ إجراءات احترازية تتمثل في تعزيز التعاون بين النقابة وجهاز الحماية المدنية لضمان تأمين الحفل والجمهور وهي الإجراءات التي تمثل صلب عمل هذا الجهاز. وقد ذهبت النقابة أبعد من ذلك في بيانها وعززت مخاوف المواطنين، كما وضعت الموافقات والاعتبارات الأمنية على رأس الأولويات فيما يتعلق بإقامة حفلات.
ثالثًا: هل يجب على النقابة تجاهل مخاوف الجمهور؟
نقابة المهن الموسيقية كأي نقابة مهنية، هي جهة تنظيم المهنة، تهدف إلى الدفاع عن مصالح أعضائها، وتطوير المهنة عبر الانفتاح على تقنيات جديدة وألوان مختلفة من الموسيقى، وذلك طبقًا للقانون رقم 35 لسنة 1978 وتعديلاته ولائحة العمل الداخلية للنقابة، ومن المهم أن تتعاطى وتتفاعل النقابة خلال عملها مع الجمهور بما يراعي مصالح المشتغلين ويطور المهنة.
وفي بيانها بإلغاء الحفل، اتخذت نقابة المهن الموسيقية منحنى شديد الخطورة عبر وضع الموافقة الأمنية كشرط لإقامة الحفلات في مصر، بل وجعلها الجهة المخول لها الفصل في إقامة هذا الحفل خصوصًا والحفلات بوجه عام، وذلك في تخلٍّ تام عن أدوار النقابة وتعطيل عمل الجهات الأخرى المختصة بهذه المسألة، مثل وزارتي الثقافة ممثلة في جهاز الرقابة على المصنفات الفنية والقوى العاملة، وهي الجهات المخول لها إعطاء تصاريح الحفلات، وهو ما يعد مخالفة للدستور المصري والقوانين واللوائح المنظمة لعمل النقابة. وقد طلبت نقابة المهن الموسيقية تحريات الأمن بشأن إقامة حفل سكوت من عدمه، كما أخطرت[8] وكالة ZM لتنظيم الحفلات المفوضة من شركة تن فور برودكشن بإلغاء الحفل لعدم الحصول على الموافقات الأمنية، حيث أكدت النقابة في الإخطار على أحقيتها في سحب الترخيص بعد منحه.
وقد كفل الدستور المصري في مادته 67 حرية الإبداع الفني، وكفل رعاية المبدعين، والتشجيع على الإبداع، وفيما يتعلق بوقف ومصادرة الأعمال الفنية شدد على أنه “لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة”.
المنحنى الآخر في البيان الأول للنقابة والذي لا يقل خطورة، هو أنها اعتمدت في قرارها بإلغاء تصريح الحفل على استطلاع رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا لا توضح النقابة معايير هذا الاستطلاع أو اي مقياس استخدمته لبيان أن الرأي العام موجه لإلغاء الحفل فقط، ذلك أن مؤشرات بيع التذاكر كانت مخالفة، حيث نفدت من الموقع فور الإعلان عن بيعها في غضون نصف ساعة، الأمر الآخر أن النقابة تعمل تحت مظلة الدستور والقانون المنظم لعملها، الذي يبين بوضوح أن حرية الإبداع الفني هي حق أصيل وذات أولوية، لكن النقابة في بيانها استبدلت بكل هذا آراء عشوائية لجمهور جرى تعبئته عبر السنوات الماضية في اتجاه معادٍ لأي نمط يختلف عن السائد.
وقالت النقابة في بيانها: “حيث إن النقابة العامة من نسيج هذا الوطن الحبيب تعمل على استقراره وأمنه وترفض العبث بالقيم المجتمعية والعادات والتقاليد المصرية والعربية، فإنه بعد استقراء واستطلاع آراء رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد ما ورد للنقابة من… تضمنت صورًا ومعلومات موثقة عن طقوس غريبة لنجم هذا الحفل يقدمها أثناء فقرته وتسخير أدواته من أجل إقامة طقوس تتنافى مع قيمنا وتقاليدنا المجتمعية الأصيلة، قرر النقيب العام ومجلس الإدارة إلغاء الترخيص الصادر لإقامة هذا النوع من الحفلات الذي يتنافى مع الهوية الثقافية للشعب المصري”.
وهنا نجد أن النقابة تستخدم في مخاطبتها للجمهور نفس الصيغة الأمنية التي تعادي الاختلاف وترفضه، بل وتراه تهديدًا لبقائها ووجودها. ويعني هذا القرار ضمنيًّا منع أي مؤدٍّ أو موسيقي يمثل ثقافة مختلفة إلي الحد الذي تخشاه السلطة، وإلا فكيف يمكن لمغنٍّ أجنبي أن تتماثل ثقافته بما تحمله من قيم وعادات مع الثقافة المصرية؟
تجاهلت النقابة في ردها بيانات كل من سكوت والشركة المنظمة، حيث أكد في أكثر من معرض على أن التاريخ المصري يعني له الكثير وهو السبب وراء قرار إطلاق الألبوم من منطقة الأهرامات، بينما أعلنت الشركة المنظمة أن عدد الحضور قد قيد بـ6 آلاف تذكرة، في قاعة تسع 20 ألفًا، ما يسهل الإجراءات ويجنب مشاكل التدافع وغيرها، كما نفت الشركة أي ادعاءات تخص مغزى إقامة الحفل أو حتى فيما يتعلق بالاتهامات التي وجهت إلى سكوت.
لا تكمن أزمة بيان النقابة في تعاطيها مع الجمهور، ولكن في كيف تعاطت؟ لم تتطرق النقابة في بيانها إلى أي إجراءات احترازية يمكن أن تقوم بها بالتعاون مع جهاز الحماية المدنية لتأمين الحفل، كما لم تُشِر إلى نتائج التحقيق[9] الذي أجرته شرطة هيوستن بشأن حادث 2021، التي انتهت إلى عدم توجيه أي اتهامات ضد سكوت، بل تركز البيان حول أحقية النقابة في سحب الترخيص من ناحية، والتأكيد على الإشاعات الواهية بشأن سكوت من ناحية أخرى، وهي التبريرات التي استخدمتها النقابة لفرض وصاية على الجمهور، والتطبيع مع فكرة تغلغل الجهات الأمنية في مسألة تنظيم الحفلات.
وفي الأخير اتخذت النقابة قرارًا متسرعًا بالتراجع عن منح الترخيص، ويشير هذا القرار وغيره إلى التذبذب في عملية اتخاذ القرارات داخل النقابة، الذي يفقدها الجدية والمصداقية ككيان يعمل لصالح المهنة، فقد سبق وأن تراجعت النقابة عن قرارها الذي يشترط الغناء في الحفلات بصحبة فرقة موسيقية لا تقل عن 8 عازفين، حيث قلصت العدد فيما بعد إلى 6 عازفين في حفلات الراب، أضف إلى ذلك قرار منع غناء المهرجانات، وذلك قبل أن تنشأ شعبة للغناء الشعبي وتضع شروطًا مقيدة لمغني المهرجانات داخلها.
رابعًا: هل يحق للنقابة التراجع بعد منح الترخيص؟
يتطلب الحصول على تصريح لإقامة حفل في مصر موافقة كل من نقابة المهن الموسيقية وجهاز الرقابة على المصنفات الفنية، إضافة إلى موافقة من وزارة القوى العاملة إذا كان طالب التصريح أجنبيًّا كما في حالة سكوت، وتنص المادة 5 من القانون رقم 35 لسنة 1978 بشأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية على أنه “يجوز لمجلس النقابة التصريح بصفة مؤقتة لعمل محدد أو لفترة محددة قابلة للتجديد لغير الأعضاء العاملين وذلك تيسيرًا لإظهار المواهب الكبيرة الواعية واستمرار الخبرات المتميزة أو مراعاة لظروف الإنتاج المشترك أو تشجيعها للتبادل الثقافي بين مصر والبلاد العربية وغيرها أو بسبب الندرة أو عدم وجود نظير من أعضاء النقابة لطالب التصريح ولا يُكسِب هذا التصريح الطالب أي حق من الحقوق أو أي ميزة من المميزات المكفولة للأعضاء العاملين في هذا القانون. وعلى طالب التصريح مصريًّا كان أو أجنبيًّا أن يؤدي إلى صندوق الإعانات والمعاشات بالنقابة رسمًا نسبيًّا مقداره 20% من الأجور والمرتبات التي يحصل عليها نتيجة التصريح المؤقت”.
وفي عام 2018، فوجئ العاملون بمجال الموسيقى، بقرار مجلس الوزراء إنشاء ما سمي بـ”اللجنة الدائمة لتنظيم إقامة المهرجانات والاحتفالات”، التي تضم ممثلين عن ثماني وزارات أخرى بجانب وزارة الثقافة: “المالية، الداخلية، الخارجية، الطيران المدني، الشباب والرياضة، التنمية المحلية، السياحة، والآثار”، وتختص اللجنة بتصريح إقامة الحفلات والمهرجانات في شهر يونيو من كل عام. وقد جاء تشكيل اللجنة ومهامها مخالفًا للدستور المصري ومتعديًا على القوانين واللوائح المنظمة لإقامة الحفلات، ومنها قانون إنشاء النقابات الفنية، كما أتيح للجنة صلاحيات واسعة وغير محددة، مثل منع أي نشاط جماهيري لا ينمي الإبداع ويحافظ على الهوية.
لا توجد معلومات فعلية عن مباشرة اللجنة لعملها، خاصة وأن الشركة المنظمة للحفل لم تتطرق إلى ذكرها في إجراءات حصولها على تصريح إقامة حفل سكوت، وسواء كانت اللجنة مفعلة أم لا فإن تدخل وزارة الداخلية في إقامة الحفلات في مصر أصبح واقعًا فيما يبدو، وذلك من خلال ما يسمى بالتصاريح الأمنية، وعلى الرغم من عدم نص قانون النقابات المهنية على حالات سحب الترخيص فيما يخص حفلات المغني الأجنبي، فإن قرار رئاسة الوزراء أعطى اللجنة الدائمة لتنظيم المهرجانات والاحتفالات هذا الحق، إضافة إلى الحق في اقتحام أي حفل وإلغائه.
وقد نظم القانون رقم 35 لسنة 1978 بشأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية حالات سحب العضوية للأعضاء العاملين او المنتسبين، حيث نصت المادة 12 من اللائحة الداخلية لنقابة المهن الموسيقية على حالات سحب العضوية للمنتسبين، والتي تتضمن: الإخلال بأحد بنود التصريح، عدم سداد الرسم النسبي للنقابة، أو القيام بسلوك من شأنه تعطيل النقابة عن أداء عملها، إلا أن قانون النقابات الفنية واللائحة الداخلية للموسيقيين لا ينصان على أي بند ينظم سحب ترخيص لليوم الواحد أو للأجانب.
بحسب الشركة المنظمة، كان من المقرر أن يكون حفل سكوت واحدًا من أكبر العروض الترفيهية في الشرق الأوسط، وقد أعلنت الشركة عن نفاد تذاكر الحفل بعد 11 دقيقة من فتح باب الحجز على الموقع الإلكتروني، حيث وصل سعر التذكرة إلى 220 دولارًا أمريكيًّا. وقد ساد الارتباك بين المنظمين بعد منع فريق عمل ترافيس من دخول الأهرامات لإجراء تجهيزات الحفل، خاصة في ظل عدم وصول خطاب رسمي يؤكد وجود رفض أمني لإقامة الحفل. فيما بعد أعلنت النقابة سحب تصريح إقامة الحفل وذلك بعد تأكيدات من ترافيس أن الحفل قائم، وهو ما اضطر الشركة المنظمة إلى رد المبالغ نظير التذاكر التي تم حجزها بالفعل.
خاتمة
يمكن تلخيص جانب كبير من معارك نقابة المهن الموسيقية في السنوات الأخيرة حول صراع الهوية المتخيلة، والذي باسمه تقيد حرية الإبداع، وتضع معوقات واشتراطات لمزاولة المهنة، واللافت هنا أن النقابة ترغب في تطبيق هذه الهوية على الأجانب، واضعة الجهات الأمنية ومنصات التواصل الاجتماعي رقباء على المهنة.
إن استمرار قرارات النقابة العشوائية والمعادية للفن والثقافة، سيؤدي إلى عدم أخذ قرارات النقابة على محمل الجد، خاصة في ظل قرارات عشوائية وغير قانونية أو دستورية. وتشير هذه الآلية التي اتبعتها المهن الموسيقية في إصدارها القرار إلى منحنى شديد الخطورة، حيث تُلغي النقابة بقيادة النقيب مصطفى كامل، الدستور والقانون واللوائح، وتستند إلى موافقة الجهات الأمنية وإلى أحكام وانطباعات شخصية لمستخدمي الإنترنت، الذين تعرضوا لخطابات قومية وعنصرية خاصة خلال الأزمة الأولى التي أثيرت أثناء عرض مسلسل كليوباترا.
لا تضر هذه السياسات حرية الإبداع وتقيد المبدعين فحسب، ولكن تضر كذلك السياحة وتتناقض مع سياسات الدولة الاقتصادية، والتي تقول إنها ترمي إلى جذب الاستثمارات في محاولة لحل أزمة التضخم والعملة في مصر. إذ تؤدي سياسات النقابة هذه إلى التأثير سلبًا في تنظيم احتفالات عالمية في مصر، فمن ناحية هناك إجراءات بيروقراطية معوقة تشمل الجهات الأمنية، ومن ناحية أخرى يحق للنقابة سحب الترخيص، وهو ما يؤدي إلى عدم ثقة المنظمين نظرًا إلى احتمالات المخاطرة بإلغاء الفعاليات.
[1] «تاريخ مصر خط أحمر».. أسباب إلغاء حفل كيفن هارت بالقاهرة بين القومية والأفروسنتريك (تقرير)، المصري اليوم، نشر في فبراير 2023، آخر زيارة 2024 https://www.almasryalyoum.com/news/details/2824181 [2] ما هي الأفروسنتريك التي أشعلت زوبعة حول "كليوبترا السمراء"؟ https://www.alarabiya.net/arab-and-world/egypt/2023/04/28/%D9%85%D8%A7-%D9%87%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%86%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%A3%D8%B4%D8%B9%D9%84%D8%AA-%D8%B2%D9%88%D8%A8%D8%B9%D8%A9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%83%D9%84%D9%8A%D9%88%D8%A8%D8%AA%D8%B1%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%9F- [3] السيسي للسقا ويسرا: والله ستحاسبون على ماتقدموه، العربية، نشر في يناير 2015، أخر زيارة 2024 https://www.alarabiya.net/last-page/2015/01/20/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%82%D8%A7-%D9%88%D9%8A%D8%B3%D8%B1%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%B3%D8%A8%D9%88%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%A7%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85%D9%88%D9%87 [4] سارة رمضان، باب مقفول.. ورقة عن العضوية كمدخل لنقابات فنية مستقلة في مصر، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، نشر في مارس 2021، تاريخ آخر زيارة 2024 https://afteegypt.org/research/research-papers/2021/03/18/21279-afteegypt.html [5] نقابة الموسيقيين تؤكد دعمها للدولة ضد دعاوى الفوضى والإرهاب، الشروق، نشر في سبتمبر 2019، تاريخ آخر زيارة 2024 https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=24092019&id=052b0e2f-965b-478f-8e91-949993aad866 [6] نقابة المهن الموسيقية تشيد بدور رجال الشرطة في التصدي للإرهاب، الشروق، نشر في إبريل 2020، تاريخ آخر زيارة 2024 https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=15042020&id=d8173462-fcd4-44a7-9d32-e9348e1a0806 [7] أشهرها ترافيس سكوت.. "حفلات الأهرامات" تثير الغضب على السوشيال ميديا وبلاغات لإلغائها، الدستور، نشر في إبريل 2024، آخر زيارة 2024 https://www.dostor.org/4695465 [8] بيان جديد من نقابة المهن الموسيقية بشأن حفل "ترافيس سكوت"، مصراوي، نشر في 21 يوليو 2023، أخر زيارة 2024 https://www.masrawy.com/arts/music/details/2023/7/21/2444507/%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%85%D9%86-%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D8%AD%D9%81%D9%84-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B3-%D8%B3%D9%83%D9%88%D8%AA- [9] Attorneys for rapper Travis Scott say he was not responsible for safety at deadly Astroworld concert، AP, published on April 2024 https://apnews.com/article/travis-scott-lawsuits-astroworld-festival-deaths-a29c820f709b121e5968ba87cabf75e3