اعتراض “جهات عليا” على نتائج بحث الدخل والإنفاق.. فأي مصداقية للإحصاءات؟!

تاريخ النشر : الإثنين, 26 أغسطس, 2019
Facebook
Twitter

 

للإطلاع على الورقة بصيغية PDF إضغط هنا

 

إعداد: ماريان سيدهم، باحثة بمؤسسة حرية الفكر والتعبير

تحرير: محمد ناجي، باحث بمؤسسة حرية الفكر والتعبير

 

أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عن نتائج بحث الدخل والإنفاق عن عامي 2017 و2018، فى مؤتمر صحفى يوم الاثنين 29 يوليو 2019، بعد تأجيل النتائج لعدة أشهر حيث كان من المفترض الإعلان عنها في فبراير الماضى.

وترجع أسباب التأجيل إلى اعتراض “جهات عليا” على نتائج البحث حيث أن ارتفاع معدلات الفقر يتعارض مع الإنجازات التي قامت بها الدولة خلال العامين الماضيين، وذلك وفقًا لجريدة “البورصة” التي نقلت عن مصادر ذات صلة لم تسمها. وجاء في الخبر[i] الذي نشرته الجريدة في التاسع من مايو من العام الجاري أنه “طلب من القائمين على البحث مراجعة النتائج مجددًا قبل إعلانها حتى تتوافق مع تلك الإنجازات، وأنه بعد مراجعتها بالفعل جرى الاعتراض عليها أيضًا”.

وأظهرت نتائج البحث، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفاع نسبة الفقر في مصر حيث وصلت إلى 32.5% مقابل 27.8% وفقًا لنتائج بحوث عام 2015. كما تم تحديث خط الفقر الوطني بعد البحث الجديد ليصل إلى 8827 جنيهًا سنويًّا (735 جنيهًا تقريبًا شهريًّا) مقابل 482 جنيهًا شهريًّا والذى تحدد بعد بحوث 2015. ويحدد البنك الدولى 1.9 دولار فى اليوم تعادل (31.5 جنيهًا وهو الذي يعادل 945 شهريًا تقريبًا ) حدًّا للفقر المدقع عالميًّا.

رغم خطورة الخبر المتعلق بتدخل “أجهزة عليا” بالدولة في عمل الجهاز فإنه مَرَّ وسط صمت وتجاهل من وسائل الإعلام المختلفة، ولم تتحمل الحكومة عناء نفيه باعتباره يقع ضمن نطاق الشائعات التي يتطلب الرد عليها جهدًا كبيرًا. عدم نفي الخبر أو اعتذار الجريدة عنه حتى كتابة هذه الورقة يشير بوضوح إلى صحته وهو ما يضرب بدوره مصداقية نتائج البحث المنشور.

فى إطار اهتمام المؤسسة بإتاحة البيانات والمعلومات للجمهور بمصداقية وشفافية، فإنها ترى أهمية إصدار هذه الورقة للإشارة إلى أهمية البيانات والإحصاءات للأطراف المعنية وتحريرها من احتكار الجهات الرسمية حتى يتسنى لهم المشاركة فى التخطيط والتقييم والمحاسبة وتعديل المسار.

ما الذي نعرفه عن “المركزي للإحصاء” والبيانات في مصر؟

يُلزم الدستور المصري الحكومة بالإفصاح عن المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية وتوفيرها والحفاظ عليها من التلف بكافة الطرق باعتبارها ملكية للشعب وحقًّا لكل مواطن، ويترك للقانون تحديد عقوبة حجب المعلومات أو إعطائها مغلوطة عمدًا منعًا للتدخل. حيث ينص الدستور في مادته رقم 68 من الباب الثالث المتعلق بالحقوق والحريات والواجبات العامة[ii] على:

“المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا. وتلتزم مؤسسات الدولة بإيداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها، بدار الوثائق القومية، وحمايتها وتأمينها من الضياع أو التلف، وترميمها ورقمنتها، بجميع الوسائل والأدوات الحديثة، وفقًا للقانون”.

ويعد بحث الإنفاق والدخل والاستهلاك من الأمور المنضوية تحت هذه المادة. وهو أحد أهم الأبحاث الكاشفة عن نمط الاستهلاك في مصر حيث يوفر البيانات التي تساعد على قياس مستوى المعيشة وأنماط الاستهلاك ومعدلات التضخم، كذلك يساعد في معرفة التغيرات الاجتماعية التي نتجت عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية لمعاونة صناع القرار على اتخاذ قرارات سليمة ووضع برامج مناسبة للحماية الاجتماعية. ويصدر التقرير المتعلق بنتائج البحث كل عامين منذ بحث عام 2008/2009 بعد أن كان يصدر كل خمس سنوات وذلك في محاولة لرصد التغيرات على حياة الفرد بشكل أسرع.

ويعتبر الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بصفته الجهاز الأعلى، المسئولَ عن إنتاج ونشر المعلومات والإحصاءات السكانية والاجتماعیة والاقتصادیة.

وأنشئ الجهاز بموجب القرار رقم 2915 لعام 1964 كهيئة مستقلة تابعة لرئاسة الجمهوریة، وهو الجهة الوحيدة المخولة بإجراء ونشر الإحصاءات والتعدادات التي تحتاجها الدولة منفردة ويعاقب القانون أي جهة تقوم بنشر أي مطبوعات أو نتائج أو بيانات أو معلومات إحصائية بأي وسيلة من وسائل النشر والإعلام إلا من واقع ما أنتجه الجهاز من بيانات ومعلومات وإحصاءات.

  • أين تكمن المشكلة؟

تكمن المشكلة هنا في عنصرين رئيسيين: الأول هو غياب ضمانات استقلالية الجهاز وتدخل جهات أمنية في عمله. أما الثاني فهو احتكار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء جمع وإنتاج البيانات. يؤثر هذين العنصرين في مصداقية التقارير الصادرة عن الجهاز ويجعلها غير موثوق بها.

1- استقلال غائب وتدخل دائم في عمل الجهاز:

وفقًا للقرار الرئاسي رقم 2915 والصادر عام 1964 فإن الجهاز يعتبر “هيئة مستقلة تابعة لرئاسة الجمهورية” (المادة 1). ويتشكل الجهاز وفقًا للقرار من عدة إدارات، منها الإدارة المركزية للتعبئة العامة، والإدارة المركزية للإحصاء، والإدارة المركزية للتعداد.. إلخ (المادة 5). كما تنشأ في كل وزارة ومحافظة وهيئة عامة ومؤسسة عامة إدارة عامة تتبع الجهاز المركزي ويطلق عليها إدارة الإحصاءات المركزية بالإدارة العامة أو الهيئة العامة أو الوزارة أو المؤسسة العامة على أن يتبع العاملون في هذه الإدارات المؤسسات التي يشتغلون بها على أن تخطر هذه المؤسسات الجهاز بأي إجراءات تتخذ قبلهم (المواد 11 و12 و13).

إذن فإن قرار إنشاء الجهاز ينص على تبعيته لرأس الدولة دون وجود ضمانات حقيقية تؤكد مصداقية وشفافية عمل الجهاز والمعلومات والبيانات الصادرة عنه، وتمنع الجهات الأمنية من حجب المعلومات عنه أو التدخل فى محتوى تقاريره بالتعديل أو الحذف ما يجعل استقلالية الجهاز محط تساؤل دائم.

إن ضمانات تحصر دور الدولة في التمويل وتوفير الإحصاءات والمعلومات اللازمة لتيسير عجلة العمل داخل الجهاز لابد أن ينص عليها بوضوح.

إن تدخلات مثل تلك المشار إليها آنفًا تجعل من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مطية للأجهزة الأمنية، كما تجعل بياناته وتقاريره والإحصاءات الصادرة عنه رهينة رضا أو سخط تلك الأجهزة، فما يوافق هواها ينشر بينما يعدل أو يحذف ما يخالف ذلك. تعطل مثل هذه الملابسات كل حق أتاحه الدستور المصري للمواطنين في الحصول على المعلومات من مصادرها المختلفة بشفافية وتلغي بشكل كامل الفلسفة الرئيسية التي تقوم عليها فكرة إتاحة المعلومات كونها “ملكًا للشعب” وكون الحكومة ملزمة بالإفصاح عنها.

2- احتكار جمع وإنتاج البيانات:

توسعت الدولة وأجهزتها في جمع وإنتاج البيانات بعامة والبيانات الاقتصادية على وجه الخصوص منذ العهد الناصرى. تشير دراسة سابقة [v] لمؤسسة حرية الفكر والتعبير إلى أن التوسع فى جمع المعلومات صاحبه تضييق على نشر تلك البيانات وإتاحتها للأطراف المعنية (المواطنون – المجتمع المدني – وسائل الإعلام – الخبراء – صناع القرار..)، وظهر ذلك فى عدة أمور منها: استخدام القانون الصادر فى 1960 وهو أحد القوانين المنظمة للعمل الإحصائي في مصر، لمفهوم “سرية المعلومات” ومصطلح “أسرار الصناعة والتجارة”، حيث أن استخدام مثل هذه المصطلحات المطاطة دون ضوابط واضحة يفتح الباب للتضييق على المعلومات والبيانات المتاحة للمواطنين ويصبح الإفصاح فقط لما تريده السلطات لا ما يجب الإفصاح عنه.

إضافة إلى التوسع فى جمع المعلومات، يحتكر الجهاز إنتاج وإصدار البيانات ويعاقب القانون أي جهة تنشر بأي وسيلة من وسائل النشر أو الإعلام أي مطبوعات أو نتائج أو بيانات أو معلومات إحصائية إلا من واقع ما أنتجه الجهاز (المادة 10 من قرار إنشاء الجهاز). ويقطع هذا النص الطريق على الباحثين المستقلين والمجتمع المدني لأية إمكانية للبحث الإحصائي وجمع المعلومات من مصادرها الأساسية. كما تنص المادة نفسها على أن الإحصاءات غير المقررة ضمن برامج الجهاز لا يجوز نشرها إلا بموافقة الجهاز.

تكمن المعضلة الرئيسية فيما يتعلق بجمع وإنتاج وإتاحة المعلومات في مصر في هذين العنصرين، فمن ناحية لا يتمتع الجهاز بالاستقلالية اللازمة لإنتاج بيانات شفافة وموثوق بها، ومن ناحية أخرى يحتكر هذا الجهاز غير المستقل إنتاج كافة البيانات دون السماح للمجتمع المدني بالمشاركة في هكذا عمل. إن هذين المعضلتين جنبًا إلى جنب مع التدخلات المتكررة للأجهزة الأمنية في أعمال الجهاز يجعل البيانات الصادرة عن الجهاز غير موثوق بها ولا تتعدى كونها “بروباجندا” حكومية.

خاتمة وتوصيات

تدين مؤسسة حرية الفكر والتعبير التدخل الصارخ فى عمل الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ونتائج بحث الدخل والإنفاق، والذي يعكس عدم استقلالية الجهاز ويطعن فى مصداقية ودقة البيانات الصادرة عنه، القديمة منها والحديثة.

وترى المؤسسة أن الإحصاءات والبيانات والمعلومات هى العنصر الأساسي لدعم متخذي القرار. وتؤمن المؤسسة بضرورة تحرير المحتوى المعلوماتي من قبضة الجهاز الذي بدوره يساعد في كسر احتكار الدولة للمعلومات وكذلك إثراء إنتاج البيانات ويسمح للأطراف المعنية بالمشاركة والمراقبة والمحاسبة فيما تتخذه الدولة من سياسات وقرارات.

وترى المؤسسة أنه يجب على الحكومة المصرية القيام بالآتي:

  • سرعة إصدار قانون لتداول المعلومات.
  • تعزيز ونشر البحوث والأدلة الإحصائية عبر الوسائل الإعلامية المختلفة وتيسيرها لسهولة إطلاع المواطنين عليها.
  • توفير الضمانات والأطر التي تحفظ استقلال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الإداري كهيئة من هيئات الدولة تتمتع بالقدر اللازم من الاستقلالية في إقرار برامج عملها وسياساتها وتنفيذها.
  • الإلغاء الفوري لتجريم المؤسسات البحثية والباحثين والأكاديميين عند ممارسة أي مشروعات أو مبادرات بحثية إحصائية دون الرجوع إلى الجهاز.
[i] شيماء البدوي، أماني رضوان، جريدة البورصة، إعادة النظر فى نتائج بحوث الإنفاق والدخل بعد اعتراض "جهات عليا"، نشر فى 6 مايو 2019، آخر زيارة فى 28 يوليو 2019، رابط:  https://bit.ly/2NBJRmz
[ii] الدستور المصرى الصادر فى 2014، رابط:  https://bit.ly/29WXTYZ
[iii] الموقع الإلكترونى للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بحث الدخل والإنفاق، أهـــــــم مؤشــرات بحث الدخـــــل والإنفاق والاستهلاك 2015، رابط: https://bit.ly/30ZTFZc 
[iv] مؤسسة حرية الفكر والتعبير، تقرير بعنوان: "أزمات إنتاج وإتاحة وتداول المعلومات فى مصر "الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء نموذجًا"، نشر فى 25 مارس 2012، آخر زيارة فى 28 يوليو 2019، رابط:https://bit.ly/2YpcCD5 
[v] المصدر السابق.

للإشتراك في نشرة مؤسسة حرية الفكر والتعبير الشهرية

برجاء ترك بريدك الالكتروني أدناه.